في هذا الحوار الذي أجرته معه جريدة "العمق المغربي"، يجيب الكاتب والباحث المغربي سلمان بونعمان، رئيس مركز معارف للدراسات والأبحاث، عن إشكالات المراكز البحثية في المغرب، ودورها داخل المجتمع، كما يعرف مركزه الجديد وإضافته المرتقبة بين باقي مراكز الدراسات. 1) أنشأتم مركزا جديدا للدراسات والأبحاث، عرف لنا المركز وأهدافه؟ مركز معارف للدراسات والأبحاث هو جمعية علمية وطنية ومؤسسة مدنية مستقلة، تشتغل في العمل الفكري وفي مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفروعها المختلفة وفق منهج تكاملي تركيبي. كما يندرج الإقدام على تأسيس مركز معارف أساسا من أجل تثمين الكفاءات البحثية المغربية خصوصا الشابة، التي تحتاج -في نظرنا- إلى المزيد من التقدير والاعتراف، وتجميع جهودها ضمن عمل مؤسسي جماعي يسهم في تطوير منظومة البحث والأفكار والابتكار، وتأكيد محورية البحث في تطوير عجلة التنمية؛ كما نسعى من ناحية أخرى إلى إنتاج ثقافة في الحقل العلمي تقوم على التعاون والتشارك والتحاور سبيلا للارتقاء بالعلم قيما وثقافة ومنهجا ومؤسسات وإنتاجا، فضلا عن محاولة منح مصداقية أخلاقية للبحث العلمي والمعرفي حتى يقوم بأدواره الأكاديمية والنهضوية. إن طموحنا هو محاولة تأسيس موجة جديدة في البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية متحيزة حضاريا ومتجددة منهجيا انطلاقا من تبني قيم التواضع والنسبية والاجتهاد والتدرج والتراكم والاستيعاب والانفتاح، ولا يتم ذلك دون الإيمان بوظيفة الفكر في التغيير وبدور الإنسان الباحث والعقل المفكر وتقدير وظيفته ومكانته الاجتماعية والرمزية قبل الاهتمام بالمؤسسات والبنيات والشكليات على حساب الجوهر الإنساني الابداعي الابتكاري. 2) من ستستهدفون من خلال أبحاث ودراسات هذا المركز ؟ أكدت سابقا بأن الغاية الرئيسة التي لابد من الاشتغال عليها هي الإنسان الباحث والكفاءات البحثية والأكاديمية الشابة، فلا بد لمجتمعاتنا ومؤسساتنا الرسمية والمدنية من الوعي بأن بناء العقول المفكرة وتكوين الباحثين وتخريج العلماء والمبتكرين والمبدعين والفلاسفة هي الصناعة الثقيلة الحقيقية التي تقود قاطرة الإصلاح والتقدم، ذلك أن الاستثمار الفاعل في الرأسمال المعرفي هو استثمار في الحاضر والمستقبل، سعيا لامتلاك القدرة الحضارية واستعادة المبادرة وبناء التنمية المركبة والشاملة، في زمن أصبحت فيه المعرفة سلاح استراتيجي لإحكام السيطرة على العالم. كما صار الصراع على أشده خصوصا مع ظهور لاعبين جدد في الإنتاج العلمي العالمي مثل الصين والهند والبرازيل وتركيا وجنوب إفريقيا، مما جعل التسابق المستمر نحو امتلاك المعرفة وإنتاجها وتنظيم عمليات انتقالها ومواكبة مستجداتها وتحولاتها ومتغيراتها وتوظيفها لخدمة دول الشمال القوى الغالبة والمهيمنة الساعية لحراسة تخلف دول الجنوب، لذلك فالبحث العلمي أصبح مركز القوة والتنافس والسيطرة في العالم المعاصر. وهكذا صار البحث العلمي محورا استراتيجيا تدور حوله حركة الحياة ومصير الأوطان ومستقبل المجتمعات، فالذي لا بحث علمي له اليوم، لا مستقبل له غدا، وفي هذا السياق هنالك فرق كبير بين السعي إلى توطين المعرفة في المجتمع واستعمالها للتحكم بالإنسان والمجتمعات، لأن مالك المعرفة بدون أخلاق سيحولها إلى أداة للتحكم والهيمنة على الطبيعة والإنسان والعالم بأسره من خلال ممارسة التحكم والبرمجة والاستلاب ليتحول الإنسان إلى آلة وكائن استهلاكي بامتياز 3) هل لديكم مشاريع ستنجزونها بالمركز ؟ نشتغل في المركز على عدة مشاريع بحثية جماعية ضمن فرق بحثية وأعمال أخرى ثنائية وفردية، لدينا اهتمامات في المركز كثيرة من بينها: مجال السياسات اللغوية والترجمة وعلاقتها بالنهضة العلمية، كما نسعى إلى دراسة نقدية لحصيلة مشاريع النهوض الحضاري الإسلامية والعربية والمغاربية ومساءلة النماذج المعرفية الكامنة بداخلها، فضلا عن مشاريع أخرى ترصد التحولات السياسية والدستورية وإشكالات الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة، وأخرى معنية بالتفاعل مع منظومة الحداثة الغربية وما تطرحه من تحديات، وسيتم ذلك من خلال إصدار تقارير استراتيجية وبحوث سيوسيولوجية ميدانية تربط الفكر بالواقع وترصد الظواهر الاجتماعية وتنظيم صالونات فكرية ودورات تكوينية متخصصة، بالإضافة إلى إنجاز دراسات وأعمال جماعية سيعمل على نشرها الموقع الإلكتروني الخاص بالمركز، لأننا نراهن على تطوير حركة النشر العلمي الإلكتروني واحتضان الأقلام البحثية والفكرية الشابة في مختلف تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية. 4) توجد في المغرب عدد من مراكز الأبحاث والدراسات، ماهي الإضافة التي سيقدمها مركزكم؟ لا نطمح أن نكون بديلا عن أي مركز أو مؤسسة، ولا ندعي أننا لوحدنا سننهض بوضع البحث العلمي والعمل الفكري، كما أن الساحة تسع الجميع وفي حاجة إلى تنوع وتعددية تثري الفكر. وعكس من يرى بأن هناك حالة من السيولة في تأسيس المراكز وانتشارها وقد يكون الأمر صحيحا خارج المجال المغاربي وهو أمر صحي على كل حال، لكن في المجال المغربي مازالت هناك حاجة ماسة إلى استنبات مراكز بحثية تنطلق من هموم مجتمعاتها وقضاياها لا أن تكون مستنسخة ومصطنعة، إن الأمر الأساسي في تقديري هو وجود مراكز بحوث متحيزة (في ظل غياب الحياد والموضوعية في العلوم الاجتماعية والإنسانية) لكن غير متعصبة، ومجددة لا محافظة ومنفتحة لا منغلقة، ومنتجة لا مقلدة على مستوى الخطاب والفكر والممارسة معا. إننا سنساهم إلى جانب كل الفاعلين والمؤسسات والمختبرات والمهتمين بتطوير الحقل العلمي والأكاديمي من مدخل علمي ومدني وثقافي، يعيد ربط العلم بالثقافة والتنمية، إذ ننحاز إلى أهمية الاحتضان المدني للثقافة العلمية والإبداع الفكري بعيدا عن الوصاية أو التسلط أو الصراع، فضلا عن سعينا لخلق فضاءات للنقاش العلمي والتداول الجماعي، لمجاوزة نزعات الأنانية وتضخم الذات البحثية والصراع البئيس والخفي السائد في أوساط الحقل العلمي حول امتلاك الرأسمال الرمزي، وما يشهده من أعطاب الانتهازية والشعاراتية والاستعراضية والاستقطابية، ولعل هذا ما جاءت مقولة علي الوردي في كتابه خواطر اللاشعور تؤكدها حين قال: "أصحاب الشهادات في مجتمع جاهل، قد يصيبهم مثل ما أصاب أغنياء الحرب. فهم يرون أنفسهم في علو شاهق بالنسبة إلى من حولهم من الناس. وتجدهم بذلك قد اكتفوا بما درسوا قبلاً وجمدوا على ما هم عليه؛ فشغلوا أنفسهم بالمكايدات والمؤامرات يحوكها بعضهم على بعض في سبيل المناصب الجامعية أو التزلف نحو رجال الحكم". الأمر الذي أنتج مرضا يفتك بالفكر والمعرفة سائد في الحقل الثقافي والعلمي مفاده: "أنا أول من أنتج هذا المفهوم أو قال هذه الفكرة التي لم يسبقني إليها أحد" في إلغاء للتراكم العلمي والتطوير الفكري والنسبية البشرية؛ لذلك فإننا نؤمن بالتشبيك والشراكة والتعاون لاستعادة القيمة المعنوية والرمزية والاجتماعية للبحث العلمي في المجتمع، وتأكيد الدور الحيوي للعلوم الاجتماعية في التقدم والتنمية، عكس الخطاب الرائج الذي يحاول التبخيس منها والتحقير من وظيفتها والاغتيال الرمزي لها. إن ما نتطلع إليه في المركز هو فتح أوراش للتفكير الجماعي التكاملي في إشكالات المناهج داخل حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية، عبر الانخراط في مشاريع علمية تسودها روح الجماعات العلمية، لنستعيد الوعي بطرح سؤال المنهج وإيلاء الأهمية المركزية له من أجل بناء تفكير علمي منهجي، يؤكد أن القيمة الحقيقية للنهضة في مجال البحث العلمي العربي والمغاربي، تقتضي تطوير القدرات المنهجية والتفسيرية للمناهج في تفاعلها مع الظواهر والوقائع وإعادة اكتشاف وتوليد شبكة من العلاقات والتفاعلات بين أنماط الإدراك والمعرفة والواقع. 5) الكثيرون يجمعون على أن المغرب والعالم العربي يعيش أزمة بحث علمي، كيف يمكن أن تساهم مثل هذه المراكز في النهضة بهذا المجال ؟ إشكاليات البحث العلمي وكيفية النهوض به، هي في الحقيقة تتجاوز كونها إشكالية إلى كونها معضلة كبيرة، خصوصا في دول العالم الثالث، ولا يمكن فصل أزمة البحث العلمي في المغرب عن الأزمة البنيوية والحضارية والروحية والفكرية التي تعيشها الجامعة المغربية منذ عقود، ذلك أن المعركة في العمق هي الدفاع عن قيمة الجامعة العمومية واستعادة مكانتها المحورية في بنية المجتمع والدولة، وإعادة بناء ثقافة التقدير المعنوي والعلمي والمادي للطالب والباحث والكفاءة البحثية الوطنية، حتى تتحول إلى خلايا نحل تشتغل بين المكتبات والمختبرات والمدرجات ومراكز البحث من جهة، وبين الأنشطة العلمية والثقافية والنضالية من جهة أخرى، ضمن فضاء يحترم الإنسان ويقدره ويكرمه ويؤمن بالتعددية والحوار والتعايش والاختلاف والسلمية، لتتحول الجامعة إلى قطب للمعرفة والبحث والإنتاج والابتكار والإبداع في إطار رؤية تكاملية وشمولية ونسقية بين العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم الحقة. نحن أمام إرادة تسعى إلى تدمير نسقي لمنظومة الابتكار والبحث الاجتماعي والإنساني بالرهان على المقاربة التقنوية المحايدة والباردة (باسم محاربة النزعات الايديولوجية) أو الرهان على المقاربة القانونية في تدبير أعطاب بنيوية وتاريخية وسياسية لأزمة الجامعة ومنظومة البحث، التي تتطلب رؤية استراتيجية شاملة تدمج مختلف الفاعلين والمهتمين للنهوض بمنظومة التحصيل والبحث والابتكار في التعليم العالي، والاستفادة من تجارب دول كاليابان وكوريا والصين وماليزيا وفلندا، في الاستثمار في بناء تعليم وطني وديمقراطي ومنفتح على العالم، لكنه متشبث بلغاته الوطنية وبالتدريس بها في مختلف التخصصات والأسلاك، نظرا للإيمان العميق بين اللغة والتنمية والهوية الوطنية، يكون قاطرة للنهضة والتحرر وفك الارتهان بالتبعية والاستهلاكية. يتصور هذا الطرح الاختزالي بأن مأزق التحديث في دول الجنوب ناتج عن ضعف التكوين العلمي والتقني الذي يعد شرط اللحاق بالأمم المتقدمة، في الوقت الذي لا تقدم العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة والآداب أية فوائد عملية أو آنية، تعود بالنفع على تطور الأوطان ونموها الاقتصادي السريع. وفي هذا السياق المرتبك والاختزالي الفاقد للرؤية الحضارية المركبة يقدم الخطاب التقنوي دليله من بعض التجارب الناجحة في آسيا كالتجربة اليابانية والصينية وتجارب النمور الآسيوية دليلاً على إمكانية النهوض والتحديث دون الحاجة إلى تراكم الخلفيات النظرية والفكرية والأسس الثقافية، وهذا ما يحول هذه المقاربة إلى نزعة تقنوقراطية تختصر التنمية ضمن أبعادا تقنوية محضة دون أي ربط بالمقاصد القيمية والفلسفية والحضارية للأمة الساعية للنهوض، كما أن هذا التوجه لا يستحضر التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية، فهو لا يميز بين أهمية المتغيرات الثقافية والاجتماعية والقيمية ولا بين العوامل الأساسية والثانوية والمساعدة على النهوض وشروطها التأسيسية والتاريخية التراكمية. وما قد لا يعرفه الكثيرون مثلا هو أن حركة النهوض الياباني قامت على حركية فلسفية وفكرية كثيفة ورصينة ودينامية أدبية خصبة، وليس على مجرد التوسع التقني والإنتاج الصناعي فقط. وقد كان الفيلسوف الألماني الأشهر"هايدغر" يقول "إن العلم لا يفكر"، بما يعني لديه أن العلم يحتاج للفلسفة والتفكير الإبستيمي، من أجل إبراز مناهجه وبلورة مفاهيمه والتفكير في مراميه وآثاره على حياة البشر؛ إذ لا نهوض حضاري دون أفق فكري وقيم متحيزة للذات وإنسانية مشتركة دافعة يسهم فيها كل من العالِم والمؤرخ والأديب والفيلسوف والمفكر الاجتماعي والسياسي والإعلامي، في صياغة ونشر هذه القيم وليس العالم الطبيعي أو التقني الاقتصادي أو المالي فقط. ومن ثم فالثورة الفكريّة والنهضة الثقافيّة هي التي تؤسّس حقيقة للتغيير الموضوعي، وللخروج من حالة التخلّف إلى حالة النهضة الحضاريّة واليقظة الشاملة والمتكاملة، والإبداع المستقل المعتمد على الذات. لذلك قبل الحديث عن دور مراكز البحث وإصلاح البرامج ووضع السياسات وإنجاز الخطط للنهوض بالبحث العلمي، لابد لنا من إصلاح التصورات وتصحيح الرؤية الاستراتيجية التي نفكر من خلالها في الحالة العلمية في مختلف مستويات، إذ أن فقدان البوصلة والاستمرار في صياغة هذا النوع من الخطاب الذي يعكس أزمة في التفكير لها تجليات كبيرة في منطق التدبير، وسنظل نراوح مكاننا متوهمين أننا نتحرك إلى الأمام لكننا للأسف نتراجع إلى الوراء ما لم يتم تدارك هذا العطب التصوري والمنهجي القاتل.