1 ازدادت وتيرة الاهتمام، بالعقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بمراكز الدراسات والبحوث والأفكار، حتى أضحى وجودها مؤشرا من مؤشرات اهتمام الدول والجماعات بتطوير البحث والمعرفة، كإحدى أدوات النهوض الحضاري والثقافي، وإحدى روافد التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لقد باتت مسألة دراسة وتشريح المشاكل والمعوقات التي تعترض اتخاذ القرار السليم، إحدى أهم المداخل التي تعتمدها مراكز البحوث والدراسات بغرض توفير المعطيات الناجعة وصياغة الحلول والاقتراحات العملية لتجاوز هذه المشاكل والمعوقات. ولهذا الاعتبار، فغالبا ما يتم اللجوء إليها (إلى هذه المراكز أقصد) بغاية الإسهام في إماطة اللثام عن مكامن الخلل، وابتكار الحلول الاستراتيجية متوسطة وطويلة المدى، والتي من شأنها ليس فقط تنوير الرأي العام وصاحب القرار، بل وأيضا مساعدتهما على توضيح الرؤية، وتزويدهما بالأفكار والمقترحات التي تضمن تشاركية في اتخاذ القرار وتفاعلية في اعتماده وتنفيذه. ويعتبر البعض أن المراكز البحثية قد زادت أهميتها إلى حد "أصبحت فيه أحد الفاعلين في رسم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وأحد المؤثرين فيها، وأحد المشاركين في وضع الحلول لها، وذلك من خلال توظيف البحث العلمي في خدمة قضايا المجتمع، بتقديم الرؤى وطرح البدائل والخيارات، بما يدعم عمليات صنع القرارات ورسم السياسات". ومن المفارقات "السعيدة"، يقول البعض، تزايد الاهتمام بالعديد من الدول العربية بهذه المراكز، لا سيما في ظل انفتاح الاقتصاديات الوطنية، وتزايد تيارات تبادل السلع والخدمات، وعولمة أنماط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وتزايد دور المعلومة والمعرفة، إذا لم يكن في صناعة القرار، فعلى الأقل في التأثير في صاحبه. وقد كان للقطاع الخاص مساهمة كبيرة في هذا المجال، حيث عمد إلى إنشاء العديد من المراكز وبيوت الخبرة ومختبرات البحث، حتى بات لبعضها، بمشرق الوطن العربي وبمغربه، بات لها صيت إقليمي ودولي، يعتد بتقاريرها ودراساتها ومنشوراتها، ويعترف لأطرها وخبرائها بالكفاءة والتميز. ويعتبر بعض الباحثين أن الذي يؤشر لهذه الطفرة في تزايد عدد وأهمية مراكز البحوث والدراسات، يكمن في تزايد عدد المؤتمرات العلمية والأكاديمية والمنشورات العلمية. وهي "تبحث في مختلف شؤون الحياة المحلية والإقليمية والدولية، في ظل التغيرات الرئيسية الجارية في منطقة الشرق الأوسط والعالم بشكل عام". صحيح أن هذه المراكز لم يتسن لها بعد بلوغ حجم ولعب دور المراكز الغربية، الأمريكية والأوروبية على وجه التحديد، ولا تبوأ المكانة التي باتت لهذه الأخيرة من بين ظهراني الرأي العام ولدى صاحب القرار، لكنها مع ذلك أسهمت ولا تزال تسهم في نشر المعلومة العلمية والمعرفة الدقيقة، وباتت تتوفر على بنوك معلومات وبيانات ومعطيات تنهل منها المؤسسات الإنتاجية، وتوفر مادة جيدة وخصبة للبحوث بالجامعات وبالمدارس العليا. وصحيح أيضا أن العديد من المراكز العربية لم تستطع لحد الآن، النفاذ مباشرة إلى صانع القرار كما الحال بالولايات المتحدة، صاحبة السبق في هذا الميدان، لكنها مع ذلك قد نجحت وإلى حد بعيد، في تأثيث المشهد السياسي والثقافي وفسحت في المجال واسعا لطرح القضايا الكبرى بالفضاء العام للنقاش والتداول، والإسهام في رفع اللبس وإزاحة الالتباس عن بعض الإشكاليات التي كانت ولعهود طويلة مضت، مجال النخبة الصرفة، أو فضاء بحث محصور في أهل العلم والمعرفة. إن مراكز البحوث والدراسات إنما تكتسب أهميتها وشروط وجودها من الحاجة إليها، يقول بعض الباحثين، ومن "مقتضيات الضرورات السياسية والاقتصادية والإعلامية والأكاديمية والاجتماعية والتنموية، وذلك باعتبارها الطريقة الأمثل لإيصال المعرفة المتخصصة، من خلال ما تقدمه من إصدارات علمية وندوات متخصصة من شأنها أن تضاعف مستوى الوعي لدى صانع القرار والمؤسسات والأفراد، وتساعدهم على الربط بين الوقائع الميدانية وإطارها العلمي النظري". والمقصود مما سبق إنما القول بأن لمراكز البحوث والدراسات دورا رياديا في توجيه عالم باتت تتجاذبه الأزمات والأخطار، وتتداخل من بين أضلعه التعقيدات من كل الأنواع، وتتقاذفه المنافسات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ناهيك عن بروز مظاهر التوترات جراء بروز مشاكل ذات طبيعة كونية، وتهم الإنسانية برمتها. والمقصود مما سبق أيضا أن هذا الدور الريادي قد تأتى لها بحكم أنها أصبحت "أداة مهمة لإنتاج العديد من المشاريع الحيوية التي تتصل بالدولة والمجتمع والفرد، ووسيلة لدراسة كل ما يتصل بتلك المشاريع وفق منهج علمي معرفي. كما تعد مراكز الأبحاث من القضايا الوطنية الهامة والحيوية، التي تعكس اهتمام الشعوب بالعلم والمعرفة والتقدم الحضاري واستشراف آفاق المستقبل". 2 من الصعب حقا، على الأقل من وجهة النظر العملية والمنهجية الخالصة، إيجاد تعريف دقيق لما هي مراكز البحوث والدراسات والأفكار، أو الحصول على مصطلح ضافي، بإمكانه تغطية التنوع الذي يميز مختلف هياكل هذه المراكز. والسبب في ذلك يرجع بالأساس إلى جمع المصطلح بين مكونات متعددة تحمل تسميات مختلفة، حيث نجد مصطلحات كعلب الفكر ومؤسسات الرصد ومعاهد الاستراتيجيات ومراكز البحوث ومراكز الدراسات الجامعية ومجموعات الضغط والنوادي السياسية والفكرية وهكذا. ويرجع أيضا إلى غياب الإطار القانوني، الوطني والدولي، الذي من شأنه وبإمكانه ضبط مؤسسات ومراكز قد تحمل أسماء مختلفة، لكنها تقوم بوظائف وأدوار متشابهة. إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة تحديدا جامعا إلى حد ما، يجعل من هذه المراكز "مؤسسات أو منظمات شبه مستقلة، على الأقل على المستوى الفكري، تقوم بأنشطة بحثية سياسية أساسا، تحت مظلة تثقيف وتنوير المجتمع المدني بشكل عام، وتقديم الخبرة إلى صناع القرار بشكل خاص، تحت طائلة التأثير فيهم بواسطة قرائن فكرية. وتعتمد في التأثير في صناع القرار على نشر الدراسات والتحاليل والتقارير والمقالات عبر وسائل الإعلام المؤثرة، ومن خلال الندوات التي تنظمها. كما تعمل هذه المراكز وفق هيكلة متخصصة، تتماشى مع الأهداف المسطرة ووحدات بحثية مستقلة إلى حد ما، فكريا وماديا". إلى جانب هذه التحديد، نجد بموازاة ذلك أو في خضمه، العشرات من التحديدات التي تروم التركيز على هذه الزاوية أو تلك، لكنها تبقى في معظمها متمحورة حول اعتبار هذه المراكز "مؤسسات بحثية هدفها الأساسي هو توفير البحوث والدراسات المتعلقة بالمجتمع والسياسات العامة، والتأثير في القضايا الساخنة التي تهم الناس". هي بالتالي مؤسسات بحوث ودراسات وتفكير غير حكومية، مستقلة، غير نفعية ومنظمة، تقدم معرفة دقيقة حول هذه القضية العامة أو تلك، بمنهجية تزاوج بين البعد الأكاديمي المتقدم والفعل العام بأرض الواقع. وهي من هنا إنما تعتبر بمثابة همزة وصل بين المعرفة والجمهور والسلطة، أي بين الفكر والبحث وبين الفعل والممارسة المسقطة على الواقع. لنقل باختصار دون اختزال: إن مراكز البحوث والدراسات هي منظمات أو هيئات أو معاهد أو جماعات أو مختبرات، مهمتها الأساس "القيام بالأبحاث والدراسات في مجالات معينة، أو في علاقة بعدد من القضايا المتنوعة، سواء بهدف نشر الثقافة والمعرفة العامة، أو بغية خدمة أحد الأطراف الرسمية (حكومية) أو غير الرسمية (المجتمع بصورة عامة)، وتقديم المقترحات والحلول لمشاكل معينة". وهذا ما جعل هذه المراكز أحد المرتكزات الأساسية لإنتاج البحث العلمي والمعرفة والتفكير العام في الدولة، وذلك من خلال النشاطات العلمية التي تقوم بها، ممثلة في المؤتمرات التي تعقدها، والأبحاث والإصدارات الدورية والكتب والمنشورات التي تصدر عنها". بالتالي، فإن دور هذه المراكز لا يقتصر على تقديم دراسات أكاديمية، تحليلية ونقدية، مرتكزة في ذلك على رصد وملاحظة تموجات واقع الحال، بل تذهب لحد اقتراح حلول آنية ومستقبلية لمشاكل معينة، مع اقتراح السيناريوهات والبدائل، بصيغ استشرافية دقيقة، مؤطرة في الزمن والمكان، ومصحوبة بخطط عمل مبنية على تصور وتحليل استراتيجي للمشاكل إياها. بالمقابل، وبقدر ما تقدم لصاحب القرار المقترحات والحلول والبدائل، فإنها تطرح في الفضاء العام بيانات ومعلومات ومعطيات وأفكار يتم التداول حولها والنقاش بشأنها. 3 ليس من الأهمية في شيء الوقوف عند السياق التاريخي العام الذي أفرز هذه المراكز بالغرب. فهذا أمر يخرج عن إطار هذه الورقة. لكن المؤكد أنها عرفت انتشارا واسعا منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي، جراء التحولات التي طرأت على العلاقات الدولية، بانهيار القطبية الثنائية، وتزايد مد العولمة الكاسح للاقتصاديات وللثقافات، والطفرة الكبيرة التي طاولت تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمعلومات، ناهيك عن انتقال معظم المجتمعات من مجتمعات مبنية على المواد الأولية والصناعات الثقيلة، إلى مجتمعات إعلامية ومعلوماتية ومعرفية، لا تأتي القيمة المضافة من بين ظهرانيها، من العمل الهرمي والعمودي، بل من أشكال في الإنتاج جديدة، مرتكزة على العمل اشبكي والأفقي وذي المضامين المعلوماتية والمعرفية العالية. ولسنا في حاجة للتذكير بالأهمية الكبرى التي أضحت لمراكز البحوث والدراسات وبيوت الخبرة بالولايات المتحدة وبأوروبا، حيث غالبا ما يكون لهذه المراكز والبيوت الدور المميز في صياغة القرار وصناعته... ناهيك عن أحجام الندوات والمؤتمرات والمحاضرات التي يتم الاستماع خلالها لكبار الخبراء والمتخصصين وأصحاب الدراية بالمشاكل الكبرى. إنها تمثل جسورا حقيقية بين العلم والدولة والمجتمع، وما يترتب عنها لا يخدم الفرد أو الجماعة فحسب، بل يخدم المجتمع والدولة معا، لدرجة يمكن القول معها بأن بريقهما هو من بريق هذه المراكز سواء بسواء. ويعتبر الباحثون أن توجه مراكز البحوث والدراسات لصاحب القرار وللجمهور، ولجوء هذين الأخيرين لهذه المراكز، يعتبر مؤشرا على "درجة نضج مؤسسات الحكم والإدارة في المجتمع، وعلى تطور الجماعة العلمية والبحثية". والسر خلف ذلك أن هذه المراكز إنما تقوم بتقديم التحليلات المعمقة والمنهجية حول القضايا الكبرى، داخلية كانت أم ذات أبعاد قومية خارجية، يوضح الصورة والحلول والبدائل لصاحب القرار، ويقدم للجمهور العناصر الكبرى المرتبطة بذات القرار. بالتالي، فدورها جوهري ونافذ، دع عنك جهة انتمائها السياسي أو الإيديولوجي، وطبيعة الأفكار التي تريد الترويج لها أو الدفاع عنها. إنه الدور الذي يفترض أن يكون خاصيتها: "إشاعة روح البحث العلمي، التعامل مع القضايا بموضوعية، تعميم ثقافة البحث والتحري والاستدلال، رعاية المبدعين واكتشافهم، توفير الفرصة للراغبين في البحث والكتابة والتأليف، وإقامة جسور التعاون بينهم وبين الجمهور، أي تجسير الفجوة بين المعرفة والتطبيق". 4 لو تسنى لنا أن نلقي نظرة سريعة على خريطة مراكز البحوث والدراسات العربية، فإنه لا يمكننا إلا أن نلاحظ حداثتها وهشاشة الغالبية العظمى ضمنها، على الرغم من تميز بعضها بهذه الدولة العربية أو تلك. إن واقعها هو صورة طبق الأصل لواقع البحث العلمي بهذه الدول، وتدني الاعتبار الذي يولى له في مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن البيئة الطاردة لكل أشكال البحث العلمي والإبداع التكنولوجي، وناهيك عن المناخ العام الذي يشكو خصاصا واضحا في الحرية والاستقلالية واستمرار ثقافة الرقابة على تفكير الأفراد والجماعات وممارساتهم. وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من هذه المراكز قد استطاع مراكمة العديد من الميزات الإيجابية والإنجازات الحقيقية، إذا لم يكن مباشرة لدى صاحب القرار الذي لا يوليها كبير اعتبار، فعلى الأقل لدى الجمهور المتلقي: + فقد استطاعت أن تمد المجال العام بالعديد من الدراسات الأكاديمية والكتب والتقارير والمجلات المحكمة والدوريات الجادة، والتي تطرح عبرها أو من خلالها القضايا الكبرى التي تهم الرأي العام العربي. ولا يراودنا أدنى شك أنها تقع بين يدي صانع القرار حتى بتعذر معرفة إن كان يطلع عليها أم لا. + وقد استطاعت القيام بالعديد من الاستبيانات واستطلاعات الرأي إما بطلب من جهات محددة، حكومية أو غير حكومية، أو لضرورة رصد وتفسير رجع الصدى حول هذه القضية المركزية أو تلك. + وقد استطاعت أن تجمع، بالمؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية، بين خبرائها وبعضا من أصحاب القرار المتنورين، فيما يشبه تبادل الرأي والأفكار حول قضية من قضايا الشأن العام. + وقد استطاع بعض من خبرائها أن يؤسسوا لقوة ضغط حقيقية، لا سيما من خلال حضورهم المستمر بالإعلام، أو بالكتابات المنتظمة بالصحافة، أو بإبداء الرأي مباشرة في قضية من القضايا. بالتالي، فإن هذه المراكز، وبصرف النظر عن التسميات اللصيقة بها، وإن لم تستطع اختراق مستوى ومجال صنع القرار، فإنها قد استطاعت الإسهام في إشاعة المعلومة والمعرفة وتوفير مادة بحثية جيدة لا يستهان بها. إلا أن الخلاصة التي لا يمكن أن نتحايل عليها بأي حال من الأحوال، إنما هي أن دور هذه المراكز لا يزال هشا وضعيفا ومحدودا قياسا بنظرائهم في الغرب، بالولايات المتحدة وأوروبا على وجه التحديد. وهو ما يستوجب تقويتها والعمل على تشجيعها وإدماجها ضمن منظومة صناعة القرار وتنوير الرأي العام.