في آخر كتاب له بعنوان: "إنقاذ الشعب. الصحافة، الحرية والديمقراطية" (بالفرنسية. منشورات لاديكوفيرت)، ينجز الكاتب والصحفي الفرنسي المعروف إدوي بلينيل تحقيقا فريدا من نوعه حول تاريخ ظهور شعار وجملة منسية لكنها مؤسسة لحرية الصحافة وهي: "الإخبار إنقاذ للشعب" التي كانت من أهم شعارات الثورة الفرنسية. ويدور الكتاب حول الجذور الفكرية والأدبية لهذه "الجملة – الشعار": في أية ظروف ظهرت وانتشرت؟ وكيف صارت رمزا لثورة صحافية وسياسية وفكرية؟ ولماذا نسيها التاريخ الفرنسي؟. الكتاب "تحقيق حول النسيان، وأسراره وانعطافاته" كما يقول إدوي بلينيل الذي اشتهر لسنوات طويلة كوجه بارز في الصحافة الاستقصائية بجريدة "لوموند". ويمكن اعتباره سليل شجرة أنساب تضم كتابا وصحافيين كبار في فرنسا مثل بومارشي أو شاطوبريان أو الروائي إميل زولا صاحب مقال "أنا أتهم" الشهير الذي دافع به عن الجندي الفرنسي اليهودي دريفوس.. وغيرهم من مؤسسي ظاهرة المثقف الملتزم بالدفاع عن قيم حرية التعبير والديمقراطية في هذا البلد. إلى جانب وفاءه لصحافة التحقيق من خلال تسييره حاليا للموقع الشهير "ميديا بارت"، Mediapart يساهم بلينيل في ساحة النقاش العمومي الفرنسي كمثقف له أسلوبه الخاص في طرق المواضيع الأساسية التي تمس تحولات الواقع والثقافة في البلد. وهكذا، وبعد مؤلفات مثيرة للجدل مثل "من أجل المسلمين"، اختار هذه المرة البحث في أركيولوجيا الصحافة والثورة الفرنسية. وفي كتابه الجديد: "حماية الشعب. الصحافة، الحرية والديمقراطية"، يقوم ب"تحقيق حول جملة مفقودة"، أو جملة ضائعة نسيها التاريخ، برأيه، رغم أنها حاسمة في بناء المتخيل والهوية الفرنسيين. كانت هذه الجملة من أبرز شعارات الثورة الفرنسية قبل حوالي قرنين ونصف وتقول: " la publicité est la sauvegarde du peuple " أي "الإخبار حماية للشعب". وكانت كلمة la publicité تعني آنذاك "الإخبار" وليس "الإشهار" كما هو الحال اليوم حيث أصبحت كلمة يغلب عليها مفهوم "السلعة" والتسليع. كما أن كلمة « publique » أي "العمومي" أو "العامة" التي ترتبط لغويا بكلمة la publicité ، تحيل على معنى تعميم الخبر ونشره على عموم الناس. جملة أصابها النسيان إذن، فأراد المؤلف إحياءها عبر مقاربة تربط ماضي الصحافة بحاضرها، وتبحث في الجذور التاريخية والفكرية لما يعرف اليوم بالحق في الحصول على المعلومات، وهو جيل جديد من الحقوق أصبح مكرسا دوليا في كثير من الدول عبر العالم، لكنه ما زال عموما شعارا للاستهلاك في المنطقة العربية حيث أن دولا تبنته فعلا دساتيرها وقوانينها لكن ذلك لا يمنعها عند التطبيق من إطلاق متابعات قضائية وتضييقات على الصحفيين. في خلفية تحقيقات بلينيل، يحضر تاريخ الصحافة منذ ظهورها في القرن 18 في أوربا مع الدور الذي لعبته في ميلاد مفهوم رواج وانتقال الأفكار والأخبار، إلى جانب ظهور تصور خاص لهذا الرواج ساهم في تكوين ما يسمى ب"المواطن المتنور" في الغرب. هذا المفهوم، الذي كانت الطبقة البورجوازية تقدره وتعلي من قيمته، هو ما يفسر المكانة المركزية التي سيحتلها الحق في حرية التعبير والصحافة في إعلانات حقوق الإنسان التي ظهرت في نهاية القرن 18 في الولاياتالمتحدة وفي فرنسا. ألقيت جملة "الإخبار حماية للشعب" في باريس يوم 13 غشت 1789 سنة اندلاع الثورة الفرنسية. وصاحبها هو "جان سيلفان بايلي" Jean-Sylvain Bailly، وهو عالم في الرياضيات والفلك شغل مناصب سياسية هامة في مسار الثورة. فكان أول رئيس للبرلمان، وأول عمدة لباريس بعد الثورة. لكنه سيتعرض لنهاية مأساوية هي الإعدام بالمقصلة كما حصل لعدد من رفاقه آنذاك الذين ذهبوا ضحايا الثورة المضادة. البرلمان، فضاء مؤسس لحرية الصحافة يرتبط تاريخ الصحافة ارتباطا وثيقا بتطور الحياة السياسية في فرنسا وبنسق النظام الحاكم وتحولاته حسب ما يستعرضه الكتاب. تاريخيا، ألقيت جملة جان سيلفان بايلي في الأسابيع الموالية لاجتماع مؤسس وحاسم عقده البرلمانيون الفرنسيون يوم 20 يونيو 1789 في قصر فيرساي الملكي. وتظهر صورة جان سيلفان بايلي في إحدى اللوحات الشهيرة المؤرخة لهذا الاجتماع والتي خلدها أحد كبار رسامي الثورة جان لوي دافيد Jean Louis David ولو أنها لوحة لم تكتمل. حيث يظهر بايلي في اللوحة واقفا على طاولة وسط إحدى قاعات القصر. وتبدو أنظار البرلمانيين متجهة نحوه، وكل أيديهم تشير إليه وهو يلقي القسم المتفق عليه بين نواب الشعب الفرنسي وكانوا 578 نائبا. وكان القسم يقضي بأن يلتزموا بأن يبقوا مجتمعين دائما، وألا يتفرقوا إلى غاية إنهائهم لعملية كتابة دستور جديد لفرنسا. وسيشكل هذا الحدث الانطلاقة الفعلية لمسلسل الثورة ولبناء نظام سياسي جديد. ويؤسس قسم النواب هذا لمبدأ سيادة الشعب باعتباره أحد مبادئ الثورة. ومما جاء في هذا القسم: "أينما كان المكان الذي يجتمع فيه أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان)، فإنه سيكون بمثابة مكان للجمعية الوطنية". وسيؤدي هؤلاء الأعضاء "الآن وعلى الفور اليمين الرسمي بعدم الانفصال أبدا وبالتجمع حيثما اقتضت الظروف ذلك". ستنتهي جلسات ونقاشات البرلمانيين بتبني الإعلان الشهير "لحقوق الإنسان والمواطن" ل 1789 الذي يتضمن 17 فصلا والذي يؤكد على الحق في حرية التعبير والطباعة والصحافة في فصلين منه على الأقل هما الفصلان العاشر والحادي عشر. إن جملة "الإخبار إنقاذ للشعب" تندرج إذن في قلب هذا السياق التاريخي، وهي تعتبر بمثابة ثمرة لنضالات الشعب السياسية وأفق أساسي لبناء النظام السياسي الجديد. لأنها تمس، حسب بلينيل، "كل ما يتعلق بالشعب، وكل ما يهم سيادته، وكل ما يتم القيام به باسمه". جوليان أسانج وإدوار سنودن هدف الكتب الأساسي هو بلورة ربط وثيق ومثمر بين الماضي والحاضر من أجل الدفاع عن حرية الصحافة اليوم، ومن أجل تسليط الضوء على ما يتهددها من تحديات ومخاطر في عصر الأخبار الزائفة و"التلاعب العقول" حسب تعبير مؤسس شركة كامبرديج أناليتيكا التي اشتهرت بتلاعبها بنتائج الانتخابات الأمريكية في 2016 والاستفتاء حول البريكسيت. حيث يدافع بلينيل بقوة عن الصحفيين والنشطاء الذين يقفون وراء ظاهرة كاشفي الفسادwhistleblower والذين صاروا يكشفون بانتظام بفضل تسريب معلومات عبر الإنترنيت، عن عدد من قضايا الفساد والتسلط عبر العالم كما وقع في ملفات "ويكيليكس" أو "أوراق باناما" وغيرها. ويوضح بلينيل في هذا الصدد: "لم أرد فقط أن أرد الاعتبار ل جان سيلفان بايلي. ولكنني أردت بالخصوص أن أتحدث عن مدى راهنيته اليوم. فهذا الكتاب ليس زيارة إلى نصب تذكاري، ولا شاهدا على ماض مضى، ولكنه اكتشاف لكنز هو بمثابة وعد وأمل بمستقبل غير منشور وغير معروف". ويدافع بلينيل عن "جوليان أسانج" وعن "إدوارد سنودن" وهما اثنان من أشهر النشطاء "المبلغين" الذين كرسوا حق المواطن في الحصول على المعلومات ضدا على ما يسمى ب "أسرار الدولة" أو دوافعها raison d'Etat. حيث يرفض بلينيل حجج حماية أسرار الدولة كما يقول السياسيون، ويعتبر أن من حق الشعوب الوصول إلى الأخبار، لأنه في ظل الديمقراطية لا ينبغي أن تكون هناك أسرار للدولة ويوضح: "عندما نذكر قولة "الإخبار إنقاذ للشعب، كيف يمكننا ألا نفكر بشكل خاص في المصير الكارثي الذي لحق ب"جوليان أسانج" و"تشيلسي مانينغ" و"إدوارد سنودن" الذين هم بمثابة أبطال عالميين تعرضوا للاضطهاد لأنهم كانوا مخلصين لتلك القولة؟ فسواء اعتبرناهم نشطاء ثورة رقمية، وهي بالمناسبة ليست تقنية فحسب ولكنها حضارية في جوهرها، فإن هؤلاء النشطاء لم يقوموا سوى بتطبيق مبادئها، بحيث أنهم أرجعوا إلى كل شعوب العالم معلومات كانت في ملكيتهم، حتى وإن كانت كلفة ذلك هي تعريض حريتهم للخطر". إن هدف الكتاب كما يقول صاحبه هو تسليط الضوء على "نضالات الصحفيين المحققين والمبلغين عن الفساد والمخالفات خلال مواجهتهم لأصحاب السلطة المتشبتين بامتيازات الحفاظ على الأسرار". إن الحق في الإطلاع على الأخبار نابع، حسب المؤلف، من ممارسة الشعب لسيادته. وهي سيادة تقتضي أن يعرف الشعب أفعال وأقوال المنتخبين والحكام وجميع من يتصرف أو يتحدث باسمه. وبالتالي فإن ممارسة هذه السيادة وحمايتها تقتضي البحث عن كل الأخبار المرتبطة بتلك الأفعال حتى يستطيع الشعب "أن يستخلص منها الخبر والمنفعة وأن يقيمها ويناقشها ويصححها، وأن يندد بها إن اقتضى الأمر ذلك". بلينيل "المؤرخ الهاو" في هذا الكتاب مارس بلينيل دور "المؤرخ الهاو"، على حد وصفه، عبر البحث في كتب التاريخ والوثائق وعلى أرض الميدان كذلك. حيث عاد إلى كثير من المراجع والوقائع ليتقب كيفية ولادة هذه الجملة حيث لم يجد سوى إشارات نادرة إليها، والكتاب الوحيد الذي تحدث عنها هو "تاريخ وسائل الإعلام" لمؤلفه جان نويل جانينين، وهو جامعي ووزير سابق ترأس اللجنة التي كلفت في 1989 بالاحتفال بمرور مائتي سنة على ميلاد الثورة الفرنسية. لكن هذا الكتاب لم يشر بدقة إلى تلك الجملة بحيث تحدث عن: "إشهار الحياة السياسية" وهي صيغة غير دقيقة لم تظهر في النص الأصلي الحقيقي لجملة جان ميشيل بيلاني التي لا تتحدث عن المجال السياسي فقط بل عن المجال العام ككل. كما لاحظ بلينيل غياب هذه الجملة في المراجع الكلاسيكية التي تؤرخ للثورة الفرنسية أي كتب شخصيات سياسية ومفكرين مثل جان جوريس أو جول ميشلي، وغيرهم. ولكنه استطاع في النهائية أن يجد بالضبط آثار ومراجع هذه الجملة بفضل مساعدة بعض المؤرخين الشباب في فرنسا. كما قاد التحقيق بلينيل إلى البحث خارج فرنسا أيضا. حيث سافر إلى بلجيكا للبحث في أرشيفها، ووجد أن مدينة تحمل اسم فيرفيي Verviers كانت قد اعترفت بأهمية هذه الجملة وبدلالاتها الرمزية منذ القرن 19 إلى درجة أنها كتبتها كشعار بارز على باب بلدية المدينة. ويقول المؤلف بهذا الصدد إن هذا الكتاب هو بمثابة "تحقيق حول النسيان، وأسراره (…) وهو بالتالي انعكاس للبعد التنبؤي لإعلان بايلي خارج الحدود الفرنسية ومناقشاتنا الفرنسية. هذه هي الطريقة التي سنحاول بها، على طول الطريق، أن نفهم سبب قيام مدينة في بلجيكا هي فيرفيي، بمتابعتها، وعرضها بفخر منذ 1830 على خلفية دار البلدية هذا الشعار: "الإخبار حماية للشعب". خلال سفره إلى فيرفيي، التقى الكاتب بنائب عمدة المدينة البرلماني ذي الأصول العربية مالك بن عاشور، كما التقى بعض المؤرخين البلجيكيين وناقش معهم موضوع هذا الشعار. وصرح للصحافة عقب تلك اللقاءات بأن مدينة فيرفيي ينبغي أن تصبح "عاصمة الحق في المعلومة". في فرنسا، كانت هذه الجملة – الرمز حاضرة بقوة كشعار لحرية الصحافة في بدايات الثورة. وتبنتها الصحف الصادرة آنذاك بحيث أنها كانت من العوامل التي حفزت الصحافة الفرنسية وجعلتها تعرف تطورا وانتشارا كبيرا. فصار هذا الشعار يتصدر الصفحات الأولى للجرائد مثلما تختار صحف اليوم شعارات خاصة كمرجعية لها ولخطها التحريري. وقد انتشرت تلك الجملة أيضا في مفاصل الحياة اليومية والسياسية الفرنسية. بحيث أنها كانت تكتب على الميداليات البرونزية التي كان يحملها بائعو الجرائد على صدورهم وهم يتجولون في شوارع باريس. وهي ميداليات كانت تكتب عليها تلك الجملة بشكل يحيط بشعار كان يسمى آنذاك: "اليقظة الديمقراطية"، وكان له شكل عين كبيرة تنطلق منها أشعة ضوئية. كما أن هذه الجملة – الشعار ستكتب أيضا على الميداليات التي كان يضعها الحاجب أو الموظف في بلدية باريس على صدر بذلته الرسمية. يرى بلينيل أن جملة "الإخبار حماية للشعب" تعتبر في الحقيقة أكثر جرأة وأقوى من الشعار الشهير للثورة للفرنسية الذي صار اليوم مكرسا عالميا وهو: "حرية، مساواة، أخوة". حيث يقول: "سيقودنا هذا (الكتاب) إلى اكتشاف إعلان لحقوق الإنسان تم تجاهله بشكل ظالم، رغم أن بعض تعبيراته تتجاوز من حيث الجرأة الأخ الأكبر لهذا الإعلان" وهو إعلان "حقوق الإنسان والمواطن" كما أسلفنا. ويبني المؤلف حججه أيضا على مرجعيات أساسية في الفكر السياسي وتاريخ الأدب العالمي القديم و الحديث ليبين أن مطلب حرية التعبير والصحافة له جذور لا تحتكرها فرنسا لوحدها، وليست من صنع تاريخها الخاص فقط بل هي إرث مشترك أوربي وغربي. حيث يحيل مثلا على الشاعر الإنجليزي جون ميلتون، أحد رموز الثورة الإنجليزية في القرن 17 ويستشهد بقولة شهيرة له جاء فيها: "إن الذين يطفئون عيون الناس يوبخونهم في الواقع على العمى". وهو عمى ناتج عن منع المعلومات والمعرفة عن المواطنين. وهي قولة رفعتها لافتات المتظاهرين من أصحاب "البذلات الصفراء" في 2019 في فرنسا الذين لا يخفي بلينيل تضامنه معهم، ويعتبر أنهم تعرضوا لقمع عنيف من قبل الشرطة بشكل يتعارض مع تقاليد حرية التعبير والتظاهر المعروفة عن هذا البلد. كما يستشهد بلينيل بأدباء آخرين مثل الروائي المعاصر جورج أورويل وخاصة بروايته "الحيوانات" التي تنتقد بسخرية الأنظمة الشمولية. رغم بعض الانتقادات التي تعرض لها هذا الكتاب الجديد لإدوي بلينيل مثل نزوعه نحو الشعبوية، وكذا تبريره للعنف لمواجهة تسلط الحكومات، ورغم بعض الثغرات على مستوى البحث التاريخي، فإنه يبقى لبنة جديدة ومهمة في مسار صحفي ومثقف عرف دائما بدفاعه الثابت عن مبادئ حرية التعبير والصحافة ممارسة وتنظيرا.