الثورة الديمقراطية والاجتماعية التي تجري اليوم في العالم العربي، وبشكل أشمل في العالم الإسلامي، حدث تاريخي ودولي مفصلي. سنة «89» العربية هذه، وهي تحيل على عام 1989 الأوربي حين سقط جدار برلين وفي نفس الآن على عام 1789 بالنسبة للثورة الفرنسية، سنة تزعزع بعمق المجتمعات العربية، كما أنها تؤثر على الدول الأوربية. هذا الحكم صادر عن المؤرخ المختص في شؤون المغرب العربي بنجامان ستورا والصحفي الشهير مؤسس ومدير موقع «ميديابار» إدوي بلينيل. وقد ورد في الكتاب الحواري الذي نشراه مؤخرا ضمن منشورات «ستوك» الفرنسية. في كتابهما الحواري «89 العربية: تأملات حول الثورات الجارية»، يقول بنجامان ستورا وإدوي بلينيل إن «أولى حسنات الثورات تتجسد في فتح أفق الممكن»، وإن هذا هو البعد الكوني لما عرفته وتعرفه سنة 2011 عربيا، بعد «الخبر السعيد الذي أطلقه الشعب التونسي قبل أن تتلقفه جميع الشعوب العربية، من مصر إلى اليمن ومن المغرب إلى سوريا». ويجعل الشكل الحواري الذي انتقاه المؤلفان لكتابهما الواحد منهما يكمل ويشرح تحليلات وآراء صديقه، وهو شكل يجذب القراء رغم ما يستلزمه من استطرادات. ورغم أن المؤرخ والصحفي يختلفان في بعض اللحظات القليلة، فهما يتفقان في العمق على أن الثورات العربية الجارية، التي كانت أمنية يبتغي تحققها الجميع، مثلت «مفاجأة» مدوية، وكذبت الصور النمطية حول المجتمعات العربية التي كان يروجها العديد من المحللين، من قبيل مقولة أولى تجزم ب»فراغ» هذه المجتمعات من فاعلين مدنيين واجتماعيين، وثانية تزعم أن المعارضة الوحيدة القائمة يمثلها»مجانين الله» وأنه ليس هناك خيار أمام دول المنطقة، لمواجهة خطر التطرف الإسلامي، غير خيار «مصادرة كل فضاءات تعبئة المواطنين والاحتجاج الاجتماعي المستقلة». وقع «المفاجأة» هذا دفع الكاتبين إلى مقارنة الثورات العربية الحالية بالثورة الفرنسية وبسقوط جدار برلين، وهو ما يبرر اختيارهما لعنوان الكتاب: «إننا في حضرة حدث قح، غير منتظر وغير متوقع، وذلك مقارنة مع الأخبار المنتظرة والمتكررة. حدث يكتسي نفس طبيعة الخبر الذي عكر صفو نزهة الفيلسوف كانت اليومية في 1789: الاستيلاء على لاباستيي في باريس. (...)أما أول مقارنة تاريخية تخطر بالذهن، فهي المقارنة مع أحدث عام 89، سنة 1989 في أوربا: 1989، سقوط جدار برلين الذي ستعقبه، بعد عامين، نهاية الاتحاد السوفييتي». ويمنح ستورا وبلينيل في كتابهما مفاتيح للقارئ قصد فك ألغاز ما جرى ويجري في العالم العربي، لكنها مفاتيح تظل ناقصة لأن التطورات تجاوزت بعض المعطيات الواردة في تحليلهما، وذلك لسبب بسيط يكمن في أنهما انتهيا من صياغة مؤلفهما في شهر أبريل الماضي لتصدر طبعته في يونيو، ولهذا، فهو لا يجيب مثلا على سعة انتظارات قارئه المفترض بالنسبة للتطورات في ليبيا وسوريا اللتين تحتلان صدارة الأخبار العربية حاليا. وفي كثير من الصفحات، يتطرق المؤلفان للمغرب، علما أن قراءتهما لواقعه وتطوراته تشكو من عدم التحيين ذاته الذي سبقت الإشارة إليه بفعل توقيت طبع الكتاب. إن ما يميز التاريخين التونسي والمصري، يوضح الكتاب، هو حصول توافق داخل المجتمع ضد «عشيرة أسرية مغتصبة» تحتكر الثروات وزمام الأمور والتأثير. هذه الوحدة المناهضة لنظامي الحكم السابقين في تونس ومصر، «لا يمكن تصورها في الجزائر أو المغرب، يقول ستورا،لأنهما مجتمعين أقل تجانسا وأكثر شرخا ثقافيا وجهويا». كما يضيف المؤرخ، في مكان آخر من الكتاب، أن المغرب، ومعه الأنظمة الخليجية، بدأ يعرف اتساع مطلب «الانتقال إلى ملكية دستورية»، موضحا أن مطلب الحرية جد حاضر وقوي في مجموع بلدان الحقل الثقافي العربي-الإسلامي. وفي سياق آخر، وبنجامان ستورا يتناول دور الإعلام ووسائط الاتصال الحديثة في سياق التحولات الجارية في العالم العربي، يقول المؤرخ إن تحرير تداول الأخبار وسرعتها وانهيار الحدود الحاجبة لها عوامل ساهمت حتى في إعادة كتابة التاريخ، مبرهنا على ذلك بإدماج مصالي الحاج وفرحات حشاد في الرواية التاريخية الجزائرية الرسمية بعد أن كانا قد تعرضا للإقصاء. ويضيف حول بلدنا: «في المغرب، كان من نتائج التداول الهائل للمعلومات بزوغ نظرة مغايرة لثورة الريف ضد الاحتلال الفرنسي والإسباني خلال سنوات 1920. وبالنسبة لملكية سنوات 1930، فقد أخذ المؤرخون بعين الاعتبار، اعتمادا على مصادر أصلية، ما سمي ب(الظهير البربري)، وهو مرسوم قانون أقره الفرنسيون وكان يعيد الاعتبار للقانون العرفي على حساب القانون الإسلامي، وقد حاربه الوطنيون الأوائل بينما كان ينطوي على الاعتراف بالهوية البربرية. ومؤخرا، تم تداول معطيات جديدة حول ملف المهدي بن بركة، الزعيم الوطني والاشتراكي الذي اختطفه النظام في أكتوبر 1965 واغتاله، والذي لم يتم العثور على جثته إلى الآن». ويخلص ستورا، في هذا المجال، إلى أنه «رغم إغلاق الأرشيفات الرسمية، التابعة للدول وغيرها، فقد بزغت أصوات بعض الفاعلين. وقد غير تمازج المعرفة هذا وسرعة تداولها الحكاية الأحادية بشكل عميق»، ذلك أن «فضاءات مشتركة للمعرفة» شيدت، وهي فضاءات تتجاوز حدود الدول. ويعتبر المؤرخ أن قراءة التعليقات في الفايس بوك تجعل المرء «يستشعر روح مجتمع، يأسه، عزلته، أفراحه، رغباته وتطلعاته. ومع ذلك فهذه التيارات الدفينة لا تؤدي ميكانيكيا إلى الفعل السياسي. ففي الجزائر، أطلقت دعوات عبر الفايس بوك لتنظيم مظاهرات، لكنها كانت فاشلة، بينما كان مآلها النجاح في المغرب. لماذا؟ لأن تكنولوجيات الاتصال لا تسمح بمفردها بتجاوز الشروط التاريخية الواقعية التي تعيشها الشعوب. من البديهي أنها تساهم في تسريع وتيرة المسلسلات، لكنها لا تكفي لخلق أحزاب وجمعيات ونقابات. إن الرابط الجماعي يتخلق في الواقع، في اللقاءات الفعلية بين الناس(...). ولا يمكن بلوغه في رحم عزلة المبحر في الإنترنيت». وفي سياق حوارهما حول تجليات الأزمة المجتمعية عربيا، يعرج المؤلفان على ظاهرة «الحريگ»، مما يجعل بنجامان ستورا يلاحظ: «في المغرب والجزائروتونس، يبلغ سن أكثر من 60 بالمائة من السكان أقل من ثلاثين سنة. لكن عجز هذه الدول على تلبية انتظارات هؤلاء الشباب يمكن أن ينتج عنه اليأس والهروب والمنفى. (...)هناك بالطبع حالات الحرب مثلما وقع في الجزائر في سنوات 1990، لكن الهجرات الكثيفة الملاحظة بالنسبة للمغرب أو تونس تفرض علينا التفكير في الموضوع. خاصة وأننا نجد من بين المهاجرين أساتذة وجراحون وفنانون... وهم اليوم في فرنسا أو بلجيكا أو هولندا»... «أو في الكيبيك، حيث أصبحت مونتريال إحدى المدن الأكثر استقطابا للهجرة المغاربية»، يعلق بلينيل. وبمناسبة تناول الحوار للدور التاريخي للأحزاب اليسارية العربية، وكيف سعت الأنظمة إلى إضعافها وقمعها، يلقي الصحفي سؤالا حول المغرب ويساره العالم-ثالثي ويساره الجديد الشيوعي، مشيرا إلى المهدي بن بركة وأبراهام السرفاتي، ليجيبه المؤرخ: «في المغرب، لعب اختطاف واغتيال الزعيم الاشتراكي المهدي بن بركة في أكتوبر 1965 دورا كبيرا في إضعاف اليسار المغربي». وفي ذات السياق، يؤكد ستورا أن سنة 1965 تجسد تحولا في العالم العربي، إذ عادت الغلبة ل»استقرار الدول ذات الحزب الوحيد، المعتمدة على المخابرات العسكرية. إنها بالفعل سنة نهاية الغليان الثوري الذي بزغ في سنوات الكفاح ضد الاستعمار». وعقب تبادل الكاتبين لوجهات نظرهم حول تجليات إصابة الجمهوريات العربية بالعدوى من طرف الملكيات في مجال توريث الحكم للأبناء، يعود بنجامان ستورا إلى المغرب قائلا: «إن الملكيات اليوم توجد في دفاعي هي الأخرى (مثل الجمهوريات)، فالقلق حقيقي من المغرب إلى العربية السعودية. إننا نشهد بداية انقلاب التيار (انتقال الحراك من الجمهوريات إلى الملكيات). وهو ما فهمه جيدا ملك المغرب. إن خطابه في 9 مارس 2011 يركز على العودة إلى الدستور، ومنح سلط أوسع للوزير الأول، وذلك رغم أنه ليس مستعدا لقبول ملكية دستورية». إن المطلب الديمقراطي الحالي في العالم العربي يعيد طرح الأسئلة الجوهرية للثورة الفرنسية، يعتقد بنجامان ستورا: «ما التمثيلية السياسية؟ من يمثلنا؟ نحن أمام انتقال من المشروعية التاريخية المتولدة عن الحركات الاستقلالية في سنوات 1950، إلى مشروعية منبثقة من التمثيلية السياسية. من هم، على سبيل المثال، الوزراء الأوائل في العالم العربي؟ من هم الوزراء؟ رئيس الغرفة الأولى للبرلمان ورئيس الثانية؟ إن المواطنين يعتقدون أنهم لا يؤثرون إطلاقا في القرارات التي تتخذ في أعلى هرم الدولة.» وفي سياق آخر، يتطرق ستورا مرة أخرى للنموذج المغربي، مستعرضا ، من وجهة نظره، التحولات التي عاشها منذ وفاة الحسن الثاني: «في المغرب، كان الأمل كبيرا بعد وفاة الملك الحسن الثاني في 1999. وقد بصم محمد السادس الستة أشهر الأولى من حكمه بقرارات لافتة». ويسرد المؤرخ، من بين هذه القرارات، على سبيل رفع قرار الإقامة الإجبارية الذي كان مفروضا على عبد السلام ياسين وعودة أبراهام السرفاتي وعزل إدريس البصري من وزارة الداخلية. ثم يسترسل مشيرا إلى تحرير الكلام الهائل الذي عرفته البلاد، وخاصة في حقل ملف ضحايا سنوات الرصاص، وحرية الصحافة التي جعلت هذه الأخيرة تتناول كل المواضيع: «أصبح بإمكان المغرب، فجأة، الحديث عن كل شيء. وكان هذا مثيرا للانتباه لأنه أدى، ولو بشكل غير مباشر، إلى توقيع العديد من العرائض وتنظيم الكثير من المسيرات الحاشدة. وقد حدث هذا في نفس الوقت، في مارس 2000، وسمح للبلاد، أخيرا، بمناقشة سؤالين أساسيين: وضع المرأة في المجتمع والمطالب الأمازيغية. لكن الإصلاحات عرفت، حسب المؤرخ، عقب هجمات 11 شتنبر 2001 في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وخاصة أحداث الدارالبيضاء في ماي 2003، عرفت الإصلاحات فرملة ملحوظة، مما خلف أثرا عميقا. وفي سياق التساؤل الديمقراطي في المغرب والجزائر، طرحت أيضا مكانة العنصر الديني». الكتاب يرصد أيضا نقط الاختلاف والتشابه بين مشرق العالم العربي ومغربه، وهو محاولة لتحليل وشرح أبعاد وانعكاسات التحولات الجارية في العالم العربي، وعلى التأثير الذي سينتج عنها ليس في مجالها الجغرافي فحسب، بل بالنسبة للغرب أيضا. وإذا كان الصحفي إدوي بلينيل يركز، ضمن الحوار، على علامات الاستفهام التي يولدها الحاضر، فإن المؤرخ بنجامان ستورا يضيء التاريخ كما يكتب اليوم بواسطة المنظار التاريخي. وتقرب هذه الثنائية في المقاربة القارئ العربي من الأحداث وأبعادها، رغم أن الكتاب موجه أساسا للقارئ الغربي، وخاصة الفرنسي. وبغض النظر عن مهنتيهما ومجال تخصص كل واحد منهما، فستورا وبلينيل يتقاسمان الاهتمام بالحقبة الاستعمارية الفرنسية وينقبان في حقول الإرث المتولد عنها. ويضم كتابهما ملحقا كرونولوجيا حول «الربيع العربي» ينطلق من حدث إقدام محمد البوعزيزي على إحراق نفسه يوم 17 دجنبر 2010، وينتهي في 19 مارس 2011، أي يوم إعلان الرئيس ساركوزي على التدخل العسكري الدولي ضد ليبيا، وذلك عقب القمة التي جمعته في قصر الإليزي مع عدد من القادة الغربيين والعرب. مثلما يشتمل على ملحق بيوغرافي للتعريف بأسماء بعض الشخصيات العربية الواردة في النص.