أبدأ مقالي هذا، بالاعتذار لبعض "وزراء الاستراتيجيا" الذين كنت قد وعدتهم بمقال عن الحلزون الأفريقي، ولكنني قررت الكلام -في هذه المرحلة على الأقل – عن الدودة الصينية، وبالضبط دودة القز، وعكس ما قد يخيل للبعض فإن الكلام عن دودة القز أو الدودة الصينية ليس بالشيء الهين، خصوصا أنها (الدودة) تنتج منذ القديم جداً واحدة من أهم البضائع الغالية عبر التاريخ والتي تميزت ب "نعومتها" حتى أصبحت عنوانا لهذه الميزة، يتعلق الأمر ببضاعة الحرير، بل إن هذه البضاعة كانت قديما تملك طريقا تجارية عالمية تاريخية خاصة بها سميت طريق الحرير، وهو طريق يشبه في شكله دودة طويلة جدا تمتد من الصين إلى أوروبا وحتى إفريقيا. وسبب حديثي عن هذه "الدودة" هو أن عودتها، من حيث الإسم على الأقل، باتت قريبة جداً. بل هناك حديث عن دود كثير، عفوا عن طرق حرير متعددة وليس دودة أو طريقا واحدة فقط. واستدرك بالقول إن تسميتها الجديدة اليوم لا تتعلق بنوع البضاعة(الحرير) بل بأسلوب الانتشار(أي النعومة)، أو ما صار يطلق عليه "القوة الناعمة" soft power التي ينادي بها نادي بيكين-موسكو (وإن كانت كما سنرى، ليست بتلك النعومة التي قد يتصورها البعض)، في مقابل استراتيجية "القوة العسكرية" (hard power) التي يتبناها نادي واشنطن والتي تميز استراتيجية طريق أو مشروع الشرق الأوسط الجديد التي تنهجها أمريكا وحلفائها الأوروبيين وعدد من دول الشرق الأوسط والتي تناولتها في مقالات سابقة. نحن إذا أمام صراع للجبابرة (الصين-أمريكا)، بعيد جداً عن الارتجال والعشوائية والذي يسير وفق مشاريع محددة ومدروسة في أدق تفاصيلها، حيث لكل طرف رؤيته ومشروعه الخاص المتعلق بالهيمنة على الأرض استراتيجيتين كبيرتين سيحسم الصراع بينهما شكل العالم الذي سنعيش فيه في المستقبل القريب، ربما إبتداءً من سنة 2030: الاستراتيجية الأمريكية الأوروبية من جهة، تلك التي تبتغي إغلاق منطقة مينا في وجه منافسيها عبر التواجد والانتشار المكثف في المنطقة عسكريا أولا واقتصاديا بالدرجة الثانية، والتي عنوانها المعلن: طريق الشرق الأوسط الجديد، بما يحتويه من إمكانيات اقتصادية وطاقية ومعدنية وتجارية، والذي يندرج في إطاره المقال الذي تناولنا فيه "منتدى غاز الشرق الأوسط"، ومن جهة أخرى استراتيجية الغزو الصيني-الروسي للمنطقة، وعنوانها "طريق أو طرق الحرير" الجديدة والمبنية على أسس اقتصادية بالدرجة الأولى وعسكرية بالدرجة الثانية إن تطلب الأمر، وشتان بين ترتيب الكلمتين على صعيد الأبعاد التطبيقية. وسنتناول اليوم مشروع "طرق الحرير" الذي يسير وفق استراتيجية، إن هي نجحت، فسوف تغير مركز العالم تماما ولمدة قرون قادمة، بحيث ستصبح الصين هي منبع "الحبل السري" الذي يقتات منه الجميع وستحكم الدودة الصينية باقي الدود. وكي نفهم جيدا طبيعة الأحلاف المنخرطة في مشروع طريق الحرير، وطبيعة ومكونات المشروع ذاته، خارج المقاربات الكلاسيكية المتداولة، سأبدأ بطرح السؤال التالي: لماذا تدخلت تركيا عسكريا، مباشرة وبقوة في أذربيجان وساعدت في سيطرة هذه الأخيرة على منطقة ناكورنو كاراباخ، في ظل صمت روسي وتواطؤ واضح للكرملين رغم الحرب المستعرة على حدودها؟ للجواب عن هذا السؤال وجب بالضرورة أن نعرف أن المرور عبر المقطع البري لطريق الحرير يمكنه نظريا، بالمقارنة مع المقطع البحري المعروف للتجارة بين الصين وأوروبا، توفير أسبوع من الوقت مع ما يقابل ذلك من تكاليف تتعلق بالمحروقات واليد العاملة، ومع ما يترتب عن ذلك فيما يتعلق بالتنافسية سواء من حيث تكلفة وثمن البضائع أو آجال التسليم، كما يوفر إمكانية استعمال الممرات والمضايق البحرية مثلما يستعمل الطريق البرية والسكك الحديدية، وفي هذا الإطار تندرج رغبة محور الصين-روسيا-تركيا في اللجوء إلى بناء خط سككي، ينطلق من شينجيانغ جنوب الصين نحو وسط آسيا وروسيا ووصولا إلى تركيا، ولكن المشكلة هي أن خط السكك الحديدية هذا، كان سيصادف مقاومة وعرقلة هامة تتعلق بمنطقة ناكورمو كاراباخ بالضبط، وهو ما يفسر بالتالي لجوء تركيا لدعم أذربيجان لاسترجاع وتأمين منطقة كاراباخ في ظل سكوت واضح وتواطؤ مفهوم لروسيا من هذه الزاوية باعتبار كونها طرفا في المعادلة. من خلال هذه الإشارة التوضيحية وليست الحصرية، تتبين لنا بعض الترتيبات الجيوسياسية التي تمهد لرسم طريق الحرير الجديد، ولكن هذا المسار الذي يمر عبر أذربيجان بشكل خاص وكازاخستان وآسيا الوسطى بشكل عام، ليس المسار الوحيد، بل هناك مسارات أخرى تنشط فيها بقوة كل من بكينوموسكو وأنقرة، ولكن لا يتسع المجال لتناولها بتفصيل، وسنركز في هذا المقال على تلك الطرق التي يعتبر المغرب معنيا بها بشكل مباشر أو غير مباشر، مع ما تشهده تلك المسالك من إكراهات وتعقيدات، وذلك في أفق مقاربة موقع المغرب من هذه الترتيبات ومعرفة ما هو مطلوب منه، خصوصا أن خروج المغرب من معادلة طريق الحرير سيحشره في الزاوية الضيقة وسيفقده بشكل فادح دوره كبوابة لإفريقيا على أوروبا والعكس. إذا كيف يمكن إذا للمغرب ركوب قطار طريق أو طرق الحرير؟ إن قراءة متأنية في الخريطة الجيوسياسية للعالم تمكننا من القول أن أمام المغرب طرقا ثلاثا للتواجد ضمن هذه الترتيبات: الطريق الشرقية (والتي أسميها الطريق العربية، والتي تمر عبر عمان نحو الصومال، في انتظار عودة اليمن إلى الاستقرار والسعودية ودول الخليج الاخرى) ثم السودان فمصر ومن هناك نحو المغرب عن طريق البحر أو عن طريق ليبيا وتونس براً فالمغرب بحرا، في انتظار عودة الإخوة الجزائريين إلى العقل والمنطق حتى تفتح الحدود ويستمر الطريق براً عبر الجزائر انتهاءً بالمغرب، ومن محاسن هذه الطريق كما من متطلباتها أنها يمكن أن تعيد صياغة خريطة التعاون الاقتصادي والسياسي العربي. وهناك الطريق الغربية (الأفريقية) والتي يجب مقاربتها بمنطق مختلف وتتعلق بالعمل على إبداع أسس جديدة للتعاون الإفريقي، وهذه الطريق يمكنها الوصول إلى المغرب عبر خط من الدولة الأفريقية الصديقة أو الحليفة بما يمكنها كذلك من حجز مكانها على طريق التجارة العالمية قيد التشكل، وتبدأ بموريتانيا ثم مالي فالسينغال وغينيا ثم كوت ديفوار مرورا ببوركينا فاسو نحو التوغو فالبنين، وصولا إلى نيجيريا فالكاميرون ثم الغابون ثم الكونغو الديمقراطية فبوروندي والمرور عبر تنزانيا نحو كينيا انتهاءً بالصومال... ومن هناك نحو عمان، ومن محاسن هذه الطريق ومتطلباتها أيضا هي أنها تتيح فرصة تأسيس تحالف اقتصادي أفريقي واسع. وهناك أخيرا الطريق الشمالية (الأوروبية) التي تتطلب المرور عبر إسبانيا ففرنسا فألمانيا (أو بعض الدول الشرقية المجاورة لها)، فروسيا ثم كازاخستان انتهاء بالصين، ويترتب عنها بالنسبة للمغرب ضرورة إبداع عدد من الشراكات الثنائية والمتعددة الأطراف بمنطق يتماشى مع طبيعة الطريق ومحاذيرها وإكراهاتها والفرص التي توفرها وبأبعاد مختلفة بما يجعل المغرب في النهاية ملتقى لطرق تجارية وملاحية وسياسية وسياحية ثلاث. تواجد إيران في اليمن، يهدف إلى تأمين الخط البحري لطريق الحرير، تماما مثلما يعتبر تواجد تركيا في أذربيجان إلى جانب روسيا كما أسلفنا، ضمانة لتأمين الخط البري والسككي له، إنها البراغماتية السياسية في أبعد صورها وإذا كانت الطريق الشمالية قائمة بالفعل أو شبه قائمة بحكم الشراكة مع الأوروبيين وبحكم موقع المغرب في استراتيجية الشرق الأوسط الجديد، فإن الطريق الغربية (الأفريقية) والطريق الشرقية (العربية)، لا زالتا تتطلبان الكثير من الجهد والجرأة، ذلك أنه في ظل الأوضاع المتداخلة جدا بالمناطق المعنية وفي ظل تعدد القوى السياسية والعسكرية المقيمة بشكل أو بآخر فيها، يبقى التحدي الأبرز بالنسبة للمغرب متمثلا في استثمار تراكمات الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية لبلادنا مع دول القارة وتعزيز الانتماء إلى الاتحاد الاقتصادي لدول غرب إفريقيا ومنطقة التبادل الحر الإفريقية، وبالموازاة مع ذلك الانخراط فعليا في روح واستراتيجية طرق الحرير الجديدة عبر تفادي الانخراط بأي شكل من الأشكال في الترتيبات العسكرية، وتغليب الحوار واستثمار تجربة الوساطة الناجحة التي راكمتها المملكة في العديد من النزاعات الإقليمية وأبرزها دور المغرب في النزاعين المالي والليبي، للعمل على فتح وتأمين الطريق الإفريقية بفرعيها الشرقي والغربي، وسيكون من المفيد جدا أن تؤسس وزارة الخارجية قسما مختصا بالوساطة في النزاعات الدولية والقارية خصوصا، لأن تجارب المغرب تؤكد وجود إمكانيات وفرص حقيقية للمساهمة في إنجاح مهام الهيئات الإقليمية والأممية الهادفة لتسوية النزاعات سواء كانت ذات أبعاد سياسية أو اقتصادية، وإمكانية البناء على مبادئ التعاون السلمي خصوصا في ميادين أساسية كالأمن والاستقرار (محاربة الإرهاب والهجرة) والصحة (كوفيد نموذجا) والزراعة (من خلال دبلوماسية الفوسفاط والمخططات الزراعية الناجحة في هذا الشأن كالسدود وغيرها) والثقافة (وخصوصا التعليم العالي) والأمن الروحي (عبر استثمار صفة إمارة المؤمنين التي يختص بها ملك المغرب). وعلى غرار ما أنجزه المغرب في كل من ليبيا ومالي، فإن المملكة بإمكانها المساهمة في إيجاد حلول في الصومال، هذا البلد الذي يعاني من صراع قوى خارجية على أرضه، غير مكترثة حقيقة بواقع ومستقبل أهله، صراع، شبيه بما عاشته ليبيا تماما، ويتمثل أساسًا في اصطفاف تركيا، المتواجدة عسكريا هناك بمساعدة قطر، إلى جانب النظام القائم في الصومال، بينما تدعم الإمارات حركات الانفصال شمالا وجنوبا، لاستدراك نتائج الحرب في اليمن التي يمكنها القول أنها حسمت عمليا تقريبا (ليس دبلوماسيا فقط بل حتى عسكريا) وأسفرت عن تعزيز موقع تركيا باعتبارها حليفا لإيران وباعتبار أن المنطقة نفسها كانت أصلاً تحت النفوذ العثماني سابقا ولمدة طويلة، بما يجعل النتيجة شبيهة بالعودة لوضع مألوف ومعروف تاريخيا، ويعتبر تعزيز موقع تركيا تكريسا لموقع روسيا والصين هنالك، وبالمحصلة تكريسا لسطوة حلف الحرير على حلف الغاز. وللتذكير وعلى سبيل القياس فقط، فإن تواجد إيران في اليمن، يهدف إلى تأمين الخط البحري لطريق الحرير، تماما مثلما يعتبر تواجد تركيا في اذربيجان إلى جانب روسيا كما أسلفنا، ضمانة لتأمين الخط البري والسككي له، إنها البراغماتية السياسية في أبعد صورها، والتي أبان المغرب في العقود الأخيرة عن إلمام كبير بمبادئها وأساليبها، إنه أسلوب عمل وليس تصديراً للإيديولوجيا كما قد يخيل للبعض. ومن جانبه لا زال حلف الغاز يحاول جاهداً عن طريق الإمارات، السيطرة على ميناء عدن لتعويض ميناء جبل علي الذي يعتبر الميناء الأبرز لديها، ولكنه يظل حبيسا لمضيق هرمز الذي تهدده إيران باستمرار، ولتحقيق ذلك عرفت حالة التناحر الجيوسياسي بين المعسكر الصيني والمعسكر الأمريكي هنالك تصعيدا خطيرا، تمثل في عملية استدراج قسري لإثيوبيا إلى بيت الطاعة من خلال دعم أبو ظبي للسلطة الحاكمة في نزاعها المسلح مع حركة انفصال تيغراي المدفوعة والمسنودة من أطراف أخرى، من خلال قاعدتها العسكرية المتمركزة بإريتريا، في سياق حرب السيطرة على ممر "باب المندب" الاستراتيجي نظرا لأهميته البالغة، ليس في خريطة طريق الحرير ولكن أيضا في خريطة الشرق الأوسط الجديد. وحيث إن حماية مصالح المغرب الاستراتيجية، في عالم معولم ومتحرك بهذه الدرجة، تتطلب التحلي بالمرونة والدبلوماسية وبالحركية وسرعة الاستجابة للتحديات بغض النظر عن مكان حدوثها، فإنه لا ضير، في سياق ما سردناه من معطيات، أن يتفاعل المغرب مع الوضع على امتداد المقطع الإفريقي من طريق الحرير، بدءً بالصومال، عبر المساهمة في جمع الفرقاء الصوماليين فيما بينهم من جهة والجمع بين الصوماليين والكينيين من جهة أخرى على طاولة الحوار، بالتعاون مع القوى المتواجدة على الساحة ومع بعثة الأممالمتحدةبالصومال (AMISOM)، ومجموعة إيكاد (IGAD) التي تشمل كلا من إثيوبيا والصومال ودجيبوتي والسودان بشماله وجنوبه وأوغندا، على اعتبار أن الأزمة بين كينياوالصومال مثلا لا زالت ذات طابع دبلوماسي وليس عسكري، وعلى الأخص في ظل رغبة كينيا المعلنة في تغليب منطق الحوار والوساطة فيما يتعلق بالمشاكل الحدودية وتفادي اللجوء للمحكمة الدولية. كما يمكن التوسط في النزاع الحاصل في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومجموعة أخرى من النزاعات السياسية التي تخترق القارة. يتبع …