1. الدولة بين اليد اليسرى واليد اليمنى: "أعتقد أن اليد اليسرى للدولة لديها شعور بأن اليد اليمنى لم تعد تعرف، أوعلى الأسوأ، لاتريد حقا أن تعرف ما تفعله اليد اليسرى. على أي حال،لا تريد أن تدفع الثمن عن ذلك."هكذا تحدث عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu في حوار أجري معه سنة 1992 على صفحات جريدة لوموند Le Monde، وتحدث بنفس العبارة في الكتاب الجماعي الذي أشرف عليه: "بؤس العالم" "La Misère du Monde" الصادر سنة 1993. كان التعبير بليغا في إثارة الانتباه إلى الآثار الاجتماعية الوخيمة الناتجة عن "استقالة الدولة" بفعل السياسة الليبرالية الجديدة لمنتصف السبعينيات، وتحول السياسات الاشتراكية في أواسط الثمانينيات نحو "واقع السوق". لقد عمدت اللغة الواصفة لبورديو إلى ترجمة التعارض الموجود بين "اليد اليسرى للدولة" المتمثلة في موظفي القطاعات الاجتماعية ذات الإنفاق العمومي المؤثر من جهة، و"اليد اليمنى للدولة" المتجلية في التقنيين العاملين في القطاعات الاقتصادية العمومية والمؤسسات المالية الخاصة من جهة ثانية.وأبرزت تناقضات الدولة القائمة بين "يد يسرى" تعمل من أجل معالجة الاختلالات المجتمعية ومواجهة عواقب الاحتقان الاجتماعي، و"يد يمنى" تتجاهل أولوية العمل الاجتماعيلكونها مهووسة بأسبقية التوازنات المالية. وتنبثق هذه التناقضات عن معادلة سياسية يتجاذبها طرفان أساسيان للدولة: اليد اليسرى الحاملة لقضايا تعزيز الديمقراطية وتقوية المؤسسات وتطوير الخدمة العمومية وترسيخ العدالة الاجتماعية، واليد اليمنى المتشبثة بالشرط الاقتصادي والحريصة على حفظ الاستقرار وضمان الأمن العام. إنها المعادلة التي اشتغل عليها بورديو في محاضراته بالكوليج دو فرانس Collège de France ما بين 1989 و1992،لبلورة تصوره المتمحور حول اعتبار الدولة مؤسسة مستقلة نسبيا تتخذ شكل "اليد اليمنى" (الدولة السيادية) وشكل "اليد اليسرى" (دولة الرعاية الاجتماعية). وقد ركز تصور عالم الاجتماع الفرنسي علىالمآسي والمعاناة الاجتماعية التي تعيشها "اليد اليسرى للدولة" بوصفها فئات مجتمعية تخترقها تناقضات العالم الاجتماعي على الرغم من أنها الفئات الأقوى فعلا في تدبير الحياة الاجتماعية وحسم الصراع الاجتماعي (المساعدون الاجتماعيون، الأساتذة، المعلمون، القضاة، …). ولعل السبب الرئيسي في المأساة الاجتماعية يرجع إلى أن الدولة انسحبت، أوكانت في طور الانسحاب، من القطاعات الاجتماعية الحيوية من قبيل الصحة والتربية والسكن والإعلام. وكانت النتيجة سريان البؤس في الحياة الاجتماعية، مما يؤدي – من وجهة نظر بورديو – إلى قيام الحركات الاجتماعية التي تعبر عن عما أسماه "تمردا لنبلاء الصغار للدولة ضد النبلاء الكبار للدولة". ولمواجهة تفاقم الاختلالات الاجتماعية، برزت، أساسا في أوساط الساسة والمثقفين، دعوات قوية إلى مراجعة أدوار الدولة بحكم وظيفتها الرمزية في ضمان الحماية لمن لا حماية له، وإقرار العدالة بين فئات المجتمع، وصيانة التماسك والوحدة والتضامن، خاصة في المراحل العصيبة وفترات الأزمات. وفي هذا الصدد، تمثلت أهم مطالب المراجعة في اتجاهين متكاملين: أولهما، إعادة النظر في بنيات الدولة نفسها، أي في العلاقات الرابطة بين أطرافها، من خلال الحرص على التوازن في البعد الوظيفي بين "نبلائها الكبار" و"نبلائها الصغار" ؛ وثانيهما، إعادة النظر في علاقة الدولة بمواطنيها عبر تجديد آليات العمل العمومي بهدف تحقيق الانفتاح الفعلي وبلورة سياسات ناجعة والارتقاء بالخدمات العمومية الموجهة للجميع دون تمييز. 1. الدولة الاجتماعية وتحفيز اليد اليسرى: إننا إذ نستحضر الآن هذا التحليل العلمي الاجتماعي، مع الفارق الزمني والاختلاف في السياقات السياسية والمجتمعية والثقافية، فلكي نقتبس المنطق الاستعاري الذي ينزل الدولة منزلة الكائن البشري: جسد بأعضاء من بينها يد يمنى ويد يسرى، وعقل وروح لإنعاش الجسد وتوجيه أفعال اليدين وفق قواعد ومقاصد محددة. منطق يسعى إلى ضمان التوازن في الدولة بينيد يمنى تحرص على الاستقرار والأمن والعدل والرفع من الثروة الإجمالية للبلاد، ويد يسرى تسهم في الارتقاء بالعمل العمومي في المجالات الاجتماعية الأساسية من أجل توفير أفضل الخدمات لجميع الفئات المجتمعية. نستحضر المنطق نفسه، وإن بصيغة أخرى، في التعاطي مع الحالة المغربية الراهنة حيث يتعزز تدخل الدولة في الهندسة العامة للسياسات العمومية، اقتصاديا واجتماعيا، بغية رسم ملامح تغيير اجتماعي شامل. فقد شهد المغرب توجها واضحا نحو إعادة موقعة للدولة في تدبير الأولويات في مرحلتين متتاليتين: مرحلة الاشتغال على بلورة نموذج تنموي جديد، ومرحلة مواجهة مضاعفات الأزمة الصحية في ظل جائحة "كوفيد 19". وفي كلتا المرحلتين، كانت التوجيهات السامية لجلالة الملك محمد السادس حاسمة إذ أعمل صلاحياته الدستورية بالحكمة اللازمة لضمان الحماية الصحية، وإنعاش الاقتصاد الوطني، وتوفير الدعم الاجتماعي المطلوب. وفي ظل هذه التوجيهات الملكية السامية، يدخل المغرب منعطفا تاريخيا في مساره السياسي والتنموي حيث السعي إلى المزاوجة بين تعزيز النمو الاقتصاديوتقوية التنمية الاجتماعية.فقد أكد جلالته في خطابه السامي أمام البرلمان، يوم الجمعة 9 أكتوبر 2020،على أهمية العمل الموازي على واجهتين أساسيتين: أولاهما، الواجهة الاقتصادية المتعلقة بدعم القطاعات الإنتاجية والقدرة الاستثمارية للمقاولات الصغرى والمتوسطة، مع خلق فرص الشغل والحفاظ على مصادر الدخل ؛ وثانيتهما، الواجهة الاجتماعية المرتبطة بحماية مختلف الفئات المجتمعية، خاصة الهشة منها، من خلال تعميم التغطية الصحية الإجبارية والتعويضات العائلية، والاستفادة من التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل. وضمن هذه الواجهة الثانية، أتتمصادقة المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 11 فبراير 2021 علىمشروع قانون–إطاريهدف إلى إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية خلال الخمس سنوات القادمة (2021 – 2025). إنها إرادة سياسية واضحة في ترسيخ دعائم الدولة الاجتماعية من خلال إحداث تغيير اجتماعي عميق سينعكس إيجابا إن على مستوى تقوية التماسك الاجتماعي، أو على مستوى تحقيق الشرط الاجتماعي الضروري لإسناد النمو الاقتصادي. فكل المؤشرات تبرز أننا بصدد تفعيل مبادئ الدولة الداعمةوالتأسيس لعقد اجتماعي جديد، وأننا بصدد وضع اللبنات الأولى للتحول نحو دولة اجتماعية جديدة متى توفرت الشروط لذلك. الأمر الذي يقتضي من الدولة المغربية تحفيز يدها اليسرى لإبداع نموذج اجتماعي رائد والمشاركة الجماعية في إطلاق سياسات اجتماعية مبتكرة وطموحة. فلا سياسات ناجعة بدون فاعلين سياسيين مؤهلين، ولا تصورات اجتماعية فاعلة بدون اجتماعيين متشبعين بالرؤى والمبادئ والقيم الاجتماعية الرامية إلى تحقيق العدالة والتضامن. ومن ثمة، تبدو الحاجة ماسة في الهياكل المدبرة للعمل العمومي إلى وعي اجتماعي مغاير لا يساير بالمطلق منطق التوازنات المالية على أهميته، بليحتكم أيضا إلى منطق التوازنات الاجتماعية الذي أصبح يفرض نفسه يوما بعد يوم.ويتعين أن يرتكز هذا الوعي على الفهم الجديد الذي بلورته نظريةرأس المالالبشريوالذي لا ينظر إلى النفقات الاجتماعية على أنها استهلاك غير منتج، بل يعتبرها استثمارا استراتيجيا حقيقيا. وبغية الاحتكام إلى منطق التوازنات الاجتماعية وترسيخ الوعي الاجتماعي المغاير، يتحتم اعتماد عقد اجتماعي جديد قادر على تمكين الدولة والمجتمع من الآليات الكفيلة بمسايرة تحولات المخاطر الاجتماعية وكسب رهانات المستقبل. 1. نحو دولة اجتماعية فاعلة: لقد قامت الدولة الاجتماعية، في صيغتها التقليدية، على ثلاثة مرتكزات أساسية تتمثل في تطوير الخدمة العمومية، وسن سياسة جبائية تعيد توزيع الثروة الجماعية، وتعزيز الاستثمار الاقتصادي المنتج لفرص الشغل. وعلى هذا الأساس، راكمت تجربة مهمة في صياغة وتفعيل سياسات عمومية مفيدة، إن على صعيد التربيةوالصحةوالسكن والنقل، أو على صعيد الإعانات الاجتماعية وأنظمة التقاعد والإدماج الاجتماعي والمهني والتنمية الجهوية والمحلية. ويمكن القول بأن نموذج الدولة الاجتماعية، تحت عنوان"دولة الرعاية الاجتماعية" أو بمسمى "دولة الرفاهية"، كما تحققت في أوروبا وأمريكا الشماليةفي الثلاثينات وفي ما بعد الحرب، استطاع إلى حد بعيد تأمين الحماية من مخاطر البطالة والمرض والحوادث والشيخوخة. وتمكن آنذاك من الاستجابة للمتطلبات الاجتماعية الملحة. إنه نموذج جسد الدولة التي خدمت المجتمع، وليس الدولة الفاسدة المناقضة له، بالمعنى الذي نجده في كتاب "مفهوم الدولة" لعبد الله العروي. غير أن هذا النموذج، وإن تمخضت عنه آنذاك نتائج إيجابية في العديد من البلدان من قبيل ألمانيا والسويد وهولندا والدنمارك وكندا وغيرها، سرعان ما وقع في أزمة نتيجة إبقاء حوالي 25 % من الساكنة النشيطة، في بعض الحالات، في وضعية هشة دون التمكن من الاستفادة من الخدمات العمومية الجماعية. ولكونه لم يستطع مواكبة التطورات المتسارعة للمجتمعات، ومسايرة التحولات المهمة التي طرأت على المخاطر الاجتماعية نفسها، فقد ظهرت دعوات مكثفة إلى تجديد الدولة الاجتماعية لكي تكون فاعلة، ذكية وأكثر دينامية. وقد مكن هذا التجديد، منذ التسعينات، من إطلاق سياسات عمومية لم تواجه فقط المخاطر الاجتماعية المحددة تقليديا (البطالة والمرض والعجز والشيخوخة)،بل واجهت أيضا المخاطر الاجتماعية الجديدة من قبيل عدم الاستقرار الأسري أو الافتقار إلى المهارات التي تسبب البطالةا لطويلة المدى أوالتشغيل المتدني أو غيرها. ويتضح، ها هنا، أن الدولة الاجتماعية الفاعلة هي تلك التي لا تكف عن تطوير آليات العمل الاجتماعي لمواجهة المخاطر الاجتماعية القائمة والمحتملة، ولا تتوقف عن تجديد التعاقدات الكفيلة بتعبئة كل الطاقات المجتمعية من أجل ترسيخ عدالة اجتماعية مستدامة. وبتأمل هذا التدرج التاريخي الذي شهدته مجموعة من التجارب الدولية، ورغم الاختلاف في القدرات الوطنية للدول المقارنة، نستشف أن المغرب يطويالمراحل في تشكيل تجربته الخاصة المتعلقة بإرساء بنيات الدولة الداعمة، ليس بوصفها هدفا في حد ذاته، بل خطوة أساسية نحوالتحول إلى دولة اجتماعية فاعلة.ويمتاز هذا النموذج ذي البعد الاستراتيجي بكونه لا يختزل المكون الاجتماعي في عمليات المساعدة والدعم والحماية من المخاطر الاجتماعية التقليدية، بل يجعله محور الرؤية المتمركزة حول المشترك وما تقتضيه من مشاركة جماعية في اعتماد نمط معين للحياة الاجتماعية وتحديد خيارات المستقبل. ولترسيخ هذا التوجه، دعا جلالة الملك محمد السادس أمام البرلمان (الجمعة 9 أكتوبر 2020) إلى التأسيس لعقد اجتماعي جديديقوم على تغيير الذهنيات وتكريس الحكامة العمومية وربط المسؤولية بالمحاسبة. ويتمثل الأساس الصلب لعملية تجديد العقد الاجتماعي في تفعيل المقتضيات الدستورية المؤطرة للدولة الاجتماعية، بدء من التصدير الدستوري الذي يحدد الاختيارات الكبرى للمملكة المغربية وضمنها "إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم". كما ينبغي استحضار الفصل الأول من الدستور الذي يؤكد على البعد الاجتماعي للنظام السياسي المعتمد: "نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية". بالإضافة إلى الفصل الواحد والثلاثين الذي يلزم الدولة بتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في الخدمات الاجتماعية الأساسية (العلاج والعناية الصحية، الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، الولوج إلى تعليم عصري وجيد، السكن اللائق،الشغل، والعيش في بيئة سليمة). إن التشبع بروح الدستور، مضافا إليه استخلاص العبر من الأزمات والبحث الجماعي عن مستقبل أفضل، عوامل ستساعد المغرب على إنجاح تجربته الخاصة في إرساء وتطوير دولة اجتماعية قوية بيدها اليمنى ومنصفة بيدها اليسرى. ولا مجال هنا لملاحظة بورديو في سياق آخر، لأن التعاقد الوطني حول الرهانات الديمقراطية والتنموية، على أساس التوجهات الملكية الكبرى، سيجعل اليدين منسجمتين متماسكتين تعملان بإيقاع متناغم لتجسيد الوطنية الاجتماعية.
(*) – باحث في التواصل وتحليل الخطاب، عضو المجلس الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومنسق لجنة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.