إذا تأملنا اللحظة التاريخية التي تجتازها المنطقة العربية، سنخرج بالخلاصة الأساسية هي أن المخاض النضالي والحراك الاجتماعي الذي تعيشه المنطقة يرجع بالأساس إلى تراكم لحظات التوتر الاجتماعي المترتبة عن الخصاصات الاجتماعية المتنوعة والمتعددة التي انتهت بالمنطقة إلى سيادة فقر متعدد الأبعاد والمستويات. إن الحركات الشبيبية التي قادت الثورة بكل من تونس ومصر واليمن وسوريا وكذا تلك التي كانت وراء انطلاق عملية الإصلاح في المغرب، هي في النهاية تتويج لتراكم تحقق بفعل نزول الحركات الاجتماعية الجديدة إلى الشارع من أجل الدفاع عن الحقوق الاجتماعية والدعوة لصياغة بديل مجتمعي قائم على توازن اجتماعي جديد. إذن، فالسياق الاجتماعي وكذا الإشكاليات المرتبطة به والدافعة في اتجاه تجديد تعاقد اجتماعي في ظروف اقتصادية واجتماعية متحولة بدا خلالها النموذج الكنزي الذي بنى توازن المجتمعات الليبرالية على أساس تحالف الطبقة الوسطى والطبقة العاملة والذي تم التعبير السياسي عنه من خلال الاتجاه السوسيو- ديمقراطي الذي بلور نموذج جديد لإعادة توزيع الثروات بين مختلف فئات شعوب هذه المنطقة من العالم. إن هذا النموذج يعرف، اليوم، صعوبات وتحديات متعاظمة سواء في أوروبا أو في المنطقة العربية، باعتبارها نسخة رديئة من هذا النموذج مع سيادة النظام العالمي الجديد للعولمة، ستتوفر للأوساط النيوليبرالية فرصة تاريخية للانقلاب على هذا النموذج الذي ساد لمرحلة طويلة كان خلالها هو أساس التوازن الاجتماعي في أوروبا خصوصا. وهكذا ستتم العودة للتأكيد على الأطروحة الليبرالية المتوحشة الداعية إلى ضرورة انسحاب الدولة من مجال التضبيط الاجتماعي وترك قوانين السوق تفعل فعلها في إقرار التوازنات الاجتماعية انطلاقا من مبدأ المسؤولية الفردية. إن هذا الوضع الجديد الذي سيتميز بالإجهاز عن مختلف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت في المرحلة السابقة والذي أدخل العالم مرحلة أخرى في أزمة بنيوية مركبة اقتصاديا واجتماعيا، ربما أعمق من الأزمات السابقة للنظام الرأسمالي، ستعيد من جديد طرح مشكل دور الدولة كضامنة للحقوق والتماسك الاجتماعي. كما ستطرح من جديد العلاقة الجدلية بين الممارسة الفعلية للحريات والحقوق في جوانبها المدنية والسياسية وبين وضعية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في ارتباط بحجم التزامات الدولة. هكذا، ستعود فكرة العدالة الاجتماعية إلى الساحة الفكرية، وفي هذا الاتجاه يتساءل الباحث والعالم الهندي «أمارتياسين» الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد «هل العدالة الاجتماعية هي مثال (إيديال) خارج إمكانياتنا، أم هي إمكانية قابلة للتجسيد، وما هي طبيعة وخصائص المجتمعات العادلة، وما هي طبيعة المؤسسات الضامنة للعدالة الاجتماعية؟». وفي نفس الاتجاه، يتساءل «جون راولز» ما هي طبيعة المجتمع العادل، وما هي نوعية التفاوتات التي تولد الشعور بانعدام العدل وتلك التي يمكن حتى مع وجودها أن لا تولد هذا الشعور على صعيد الأفراد والمجموعات؟». وفي سياق آخر، تساءل «طوني جوديت» عن أزمة دولة الرفاه، أو دولة الرعاية الاجتماعية: «كيف نقيم تكاليف الأوضاع التي تنتج عن غياب مأسسة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وباقي الحقوق للأفراد والجماعات، وما قد ينتج عنها من مهانة. ألا يتغير التقييم رأسا على عقب حينما ننطلق من أن المهانة هي في حد ذاتها كلفة اجتماعية؟». من خلال كل هذه التساؤلات يتبين أننا أمام دعوة جديدة لتعاقد اجتماعي جديد، وهذا ما دفع بالاقتصادي الأمريكي الكبير «جوزيف تسيكليت» إلى الدعوة إلى كنزية جديدة تعيد التفكير في العلاقات الاجتماعية في أفق التوازن الاجتماعي الجديد. إذا كانت هذه وضعية الحراك الاجتماعي والسياسي والفكري في العالم الغربي، فماذا إذن عن الوضعية في مجتمعاتنا العربية، وماذا عن واقع التعاقد الاجتماعي القائم بالمنطقة العربية، وماذا عن دور الدولة وعن علاقة الحريات بالحقوق داخل مجتمعاتنا؟». إن هذه الأوضاع المتباينة والمختلفة يمكن تقديمها في شكل النماذج التالية: * جدلية السلطة والإقصاء الاجتماعي، وهي حالة غالبة في المنطقة العربية، «مثال: مصر». * جدلية الاندماج الاجتماعي والإقصاء السياسي، حيث تقوم الدولة من أعلى بإقرار مجموعة من الحقوق الاجتماعية مع سيادة الإقصاء السياسي، «مثال: تونس». * جدلية الانفتاح السياسي وغياب آليات ناجعة للتضبيط الاجتماعي، حيث الإقدام على إصلاحات سياسية وتكريس الحقوق والحريات الفردية والجماعية مع الإبقاء على تفاوتات اجتماعية مقلقة، «مثال: المغرب». في كل هذه النماذج، فإن الدولة لم تجعل من التماسك والتوازن الاجتماعيين اختيارا استراتيجيا بما يعني إقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يشكل يصب في اتجاه صياغة سياسات عمومية قوية تهدف إلى تحقيق توازن في المجال الاجتماعي. نتيجة كل هذا بالنسبة للتجربة العربية كانت تولد نموذج للدولة التي يمكن تسميتها «بالدولة المتقاعسة» في المجال الاجتماعي. فإذا أخذنا المغرب كمثال، فهناك مؤشرات دالة على تردد الدولة المغربية في صياغة الإصلاحات الاجتماعية لمواجهة التعثرات والثغرات التي كانت وراء الهزات الاجتماعية التي عرفتها بلادنا. على سبيل المثال الثغرات التي يواجهها إصلاح صندوق المقاصة، والصعوبات التي لاقت تعميم التغطية الصحية، وكذا واقع التشغيل والإدماج ببلادنا. خلاصة كل هذا، أن الحراك السياسي والاجتماعي التي تعرفه منطقتنا، اليوم، فإنه لا يساءل فقط الجانب السياسي والهندسة السياسية للدساتير التي حكمت المنطقة العربية، فإنما يساءل بالأساس الوضع الاجتماعي وما عرفه من تفكك وتناقض أدى إلى هزات اجتماعية متتالية. في النهاية، فالحراك الذي تعرفه منطقتنا ينطوي على مساءلة شاملة على المستوى الاجتماعي بالأساس لنموذج «الدولة المتقاعسة»، أي ذلك النموذج الذي عطل البحث في آليات التضبيط الاجتماعي المصححة للإختلالات المترتبة عن هيمنة النظرة الداعية لإخضاع الخدمة الاجتماعية لمنطق السلعة، أي التحكم المطلق في قانون السوق في كل المجالات ( الصحة، التعليم، الشغل، السكن...). فبدل أن يكون الهدف الاجتماعي قارا وحاضرا في قلب إستراتيجية تنموية اقتصادية كان الحاضر هو التغييب المطلق لإستراتيجية التوازن بين الجدلية القائمة بين الحريات والحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. أمام هذا الوضع، نحن بصدد الاشتغال من مواقعنا المختلفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على مراجعة شاملة لدساتير المنطقة، ومن ضمنها الدستور المغربي. علينا أن نغتنم هذه الفرصة لنناقش أولا الذرائع المتعددة التي تلجأ إليها الدولة المتقاعسة لتبرير التحلل من الالتزامات والمبررة بقلة الموارد، علما بأن بلدانا تتمثل خصوصياتها التي يحلو للبعض التغني بها بمستويات فوارق اجتماعية لا نجدها بالتأكيد في أية منطقة أخرى بالعالم. لذلك سيكون من الضروري ونحن نعيش هذه اللحظة التاريخية أن نعمل على تقديم تحليلات واقتراح بدائل لدولة جديدة تتجاوز نموذج الدولة المتقاعسة. وفي هذا الاتجاه، وباعتبار الدستور هو أسمى قانون لابد أن يتضمن الدستور المنتظر بالمغرب وغيره من دول المنطقة نفسا اجتماعيا يوفر إمكانية صياغة تماسك اجتماعي جديد، يستحضر فكرة العدالة الاجتماعية، باعتبارها الموضوعة المحورية السائدة في كل الساحات الفكرية العالمية، إضافة إلى ذلك فالدول الصاعدة التي تمكنت من تحقيق الانتقالات الديمقراطية، وبالتالي الدخول إلى نادي الدول الديمقراطية هي تلك التي استطاعت إنجاز الانتقال إلى دولة فاعلة في المجال الاجتماعي والمتوفرة على إستراتيجية تنموية شاملة تربط بين التنمية والتوازن الاجتماعي، مثال: البرازيل. إن هذه الصاعدة بلورت بديلها السياسي والاجتماعي باستقلالية عن النموذج الغربي وقدمت للعالم نموذج دولة جديدة تعتمد جيلا جديدا من الدساتير، وهي المتعارف عليها بالدساتير الاجتماعية أو دساتير الحقوق. وهكذا يصبح التعاقد الاجتماعي جزء لا يتجزأ من الهندسة الدستورية لا مجرد وثيقة ملحقة بالدستور كما هو الحال بالنسبة لبلدنا، حيث طلب ملك البلاد من المجلس الاقتصادي والاجتماعي الانكباب على صياغة ميثاق اجتماعي. إن المواثيق الاجتماعية من خلال التجارب المشار إليها أعلاه، هي البنية المحورية الدالة على التجديد الدستوري. في هذا الاتجاه، ومن خلال استقراء التجربة الدستورية المغربية سنجد أن من معضلات تعثر الدستور المغربي، كونه يتناول الحقوق الاجتماعية في إطار عام يجعلها مجرد مبادئ قابلة للتأويل والاختزال حسب موازين القوى السياسية والسياسات العمومية المعتمدة، وهذا ما كان وراء الاختلاف الذي وصل في بعض اللحظات إلى اختلاف مبدئي حول مدى يعني الدستور بالحق في التعليم والحق في الشغل والحق في الإضراب إلى آخره من الحقوق الأخرى التي جاء بها الدستور الحالي. إذن، لتجاوز التأويل السياسي لهذه الحقوق الأساسية المؤسسة للتماسك الاجتماعي يشترط في الدستور المنتظر أن يتناول هذه الحقوق بالإضافة إلى حقوق أخرى بالكثير من الدقة والتفصيل. فالوثيقة الدستورية المنتظرة ناهيك عن مضمونها وهندستها السياسية يجب أن تحتوي مضمونا اجتماعيا، وبالتالي فالقاعدة المؤسسة لتعاقد الغد يجب أن تكون اجتماعية بالأساس إذا نحن أردنا الالتحاق بركب الدول الصاعدة التي دخلت عصر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إن الدستور الذي نريده لمغرب الغد يجب أن يعكس المصالحة التاريخية بين كل بنات وأبناء الشعب المغربي، هذه المصالحة التي يجب أن تتأسس على الكرامة والعدالة الاجتماعية حتى يتسنى لبلادنا تدبير الإمكانيات المتوفرة عليها من أجل بناء الدولة الاجتماعية، والديمقراطية التشاركية. من هنا فالعقد الاجتماعي الذي نطمح إلى صياغته يتأسس على ست قضايا محورية هي: - رؤية تنموية شاملة؛ - إستراتيجية عامة لمواجهة الفقر المتعدد الجوانب والأبعاد أساسها الحماية الاجتماعية والحق في المعرفة والتعلم كحقوق ثابتة لترسيخ مبدأ المواطنة الكاملة؛ - سياسة مالية قائمة على التوازنات الاجتماعية بدل التوازنات المالية وهذا يعني مراجعة شاملة وهيكلية لقانون المالية؛ - إشراك المواطنات والمواطنين في صياغة السياسات العمومية في كل مستوياتها أي المحلية والجهوية والوطنية أساسا المرتبطة بالمسألة الاجتماعية، مع ضمان حق المتابعة والتقييم الدائم والمستمر القبلي والبعدي لكل هذه السياسات؛ - نزع القدسية عن الخطاب السياسي الاقتصادي والاجتماعي وإخضاعه لمبدأ وحيد هو مبدأ الحكامة والنجاعة خدمة للتقدم والنمو. - حماية التعدد وحرية التعبير وهذا يعني المناهضة المطلقة للاستبداد والتسلط والإقصاء. إن هذه المنظومة المشكلة للعقد الاجتماعي المنتظر ستوفر لبلادنا جسر العبور نحو الدولة المغربية الجديدة الحاضنة للحقوق الاجتماعية والحريات الفردية والجماعية وبالتالي الضامنة للاستقرار الاجتماعي. الدستور الاجتماعي إذن هو بمثابة المخرج الواقع لإنجاز المعجزة المغربية المفتوحة على كل إسهامات وإبداعات بنات وأبناء الشعب المغربي من أجل بناء المغرب الممكن القادر على مواجهة تحديات العولمة المتوحشة والسياسات النيوليبرالية الاقصائية. كما أنه سيوفر لبلادنا إمكانية الانخراط في التجمع الأممي الجديد الذي يسرع الخطى في اتجاه بناء عولمة بديلة حامية لإنسانية الإنسان وضامنة لكرامته ومناهضة للاستغلال والنهب في أفق بناء تعاون جديد بين الشعوب أكثر عدلا واتزانا.