تداولت بعض الأصوات مؤخرا مصطلح البوليس السياسي (يطلق عليه أيضا القلم السياسي) بطريقة غير دقيقة وبأسلوب شعبوي يفتقد إلى التحليل الموضوعي والتقطيع الاستراتيجي وتغلب عليه اللكنة الانتقامية وردة الفعل، في محاولة لتكريس الاعتقاد بأن هذه المؤسسة الأمنية هي بدعة مغربية خالصة وبأن الاعتماد عليها هو سلوك أمني شاذ انفرد به المغرب بالرغم من أن المملكة جعلت من الاختيار الديمقراطي أحد الثوابت الدستورية التي لا يمكن النكوص عنها أو التفريط في مكاسبها. في هذا السياق، لجأت هذه الأصوات إلى محاولة تشتيت المفاهيم وفصل الدولة بمعناها الفيبيري عن النظام السياسي وادعت أن المخابرات هي مؤسسة في خدمة الدولة في حين أن دور البوليس السياسي ينحصر في خدمة النظام السياسي وهو الخلط الذي يحيل على جهل أصحابه بأبسط مبادئ القانون الدستوري الذي يحصر العناصر الأساسية المكونة للدولة في: الإقليم، الشعب والنظام السياسي المنظم. هذا التعريف الدستوري يجعل من النظام السياسي جزءا من بنية الدولة وليس بناءا مستقلا عنها. تاريخيا، اعتمدت جميع الدول والأنظمة على جهاز المخابرات الداخلية لمراقبة سلوك الأشخاص والمؤسسات لاستباق أية محاولة لتعريض أمنها الداخلي لخطر الانفلات الذي يهدد بنية الدولة وتماسك مكوناتها. هذا المعطى ينطبق على الدولة الإسلامية منذ العهد النبوي الشريف حيث لعب الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان دور رجل المخابرات بامتياز من خلال تجميع المعطيات التي كان يوفرها الوحي الإلهي تارة، وأيضا المعلومات التي يتم تجميعها داخل نطاق الدولة الإسلامية وهو ما جعله يتوفر على لائحة موسعة من المتربصين الذين أُطلق عليهم مصطلح "المنافقين" والذين كان يتم التعامل معهم بحذر مع تفادي رسول الله (ص) إعمال آلية القصاص في حقهم مخافة أن يقال "إن محمدا يقتل أصحابه". في نفس السياق، يمكن القول بأن عدم تقوية جهاز المخابرات الداخلية (البوليس السياسي) على عهد الخلفاء الراشدين كانت له تكلفته السياسية حيث نتج عن ذلك استشهاد ثلاثة من الخلفاء الراشدين داخل عاصمة الدولة الإسلامية من طرف عناصر انقلابية أطلق على بعضهم لقب "الخوارج"، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من القتلى في أعقاب معارك الجمل وصفين والنهراوان كانوا نتاجا مباشرا للهزات الأمنية التي ضربت عاصمة دولة الإسلام. على مستوى التحليل الاستراتيجي، نَقَمَ، بعض من كانوا يوما ما جزءا من النظام السياسي، على المغرب تعدد الاجهزة الأمنية والاستخباراتية واعتبروا أن جهاز البوليس السياسي ليس ضروريا لضبط السلوك السياسي والأمني داخل المملكة، وهو القول الذي يفتقد إلى أبسط مقومات الذكاء الاستراتيجي على اعتبار أن منظومة صناع القرار الأمني تفرض أن تخضع جميع الأجهزة الأمنية "للسياسي" (le politique) والذي بدوره يبقى مطالبا بتنويع مصادر المعلومة الأمنية سواء تعلق الأمر بالأمن السياسي أو الاقتصادي أو الديني أو الاجتماعي، وهو ما يمنحه رؤية واضحة حول حقيقة الوضع الأمني من خلال الاطلاع على التقارير المختلفة (في بعض الأحيان المتضاربة) حتى يتمكن من اتخاذ القرار المناسب وفق ما تَوَفَّر لديه من معطيات ومعلومات التي مصدرها مختلف الأجهزة الأمنية. في هذا الصدد، لا يمكن لدولة قوية أن تعتمد في مصادرها الأمنية على جهاز واحد وهو ما جعل المغرب، وعلى غرار باقي الدول، يسعى إلى الاعتماد على مجموعة من الأجهزة (الشرطة، الإدارة الترابية، الدرك الملكي، المخابرات العسكرية، القوات المساعدة…) لتوسيع دائرة تجميع المعلومات وتكوين فكرة موضوعية حول تفاعلات البيئة الاستراتيجية الداخلية. إن بعض الانفلاتات السلوكية أو سوء التقدير التي يمكن أن تصدر عن بعض الأشخاص المحسوبين على جهاز المخابرات الداخلية لا يمكن أن تجعلنا نتنكر لإنجازات هذا الجهاز منذ السنوات الأولى للاستقلال ونجاحه في كشف مجموعة من المخططات التي استهدفت الأمن القومي المغربي بالإضافة إلى تفكيك مئات الخلايا الإرهابية بفضل التنسيق المؤسساتي وتبادل المعلومات بشكل يومي وهو النجاح الذي جعل المؤسسات الدولية تصنف اجهزة الاستخبارات في المغرب من بين الأقوى في العالم. إجمالا يمكن القول ان ما يميز التعاطي الأمني للدولة المغربية هو تغليب منطق الاحتواء على منطق الإقصاء وهو ما جسدته المبادرات الملكية المرجعية وعلى رأسها هيئة الإنصاف والمصالحة وقبلها الشعار التاريخي الذي أطلقه المغفور له الحسن الثاني "إن الوطن غفور رحيم"، وهو ما يفسح المجال لهذه الأصوات "المغربية" المُغرر بها إلى مراجعة خرجاتها الإعلامية في ظل ظرفية استراتيجية جد حساسة تتطلب وحدة الصف وتوحيد الجبهة الداخلية للتصدي للمخططات التي تروم الضرب في المكاسب التي يحققها المغرب سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا وحقوقيا والالتفاف حول ثواب الأمة مجسدة في الشعار الخالد.. الله – الوطن – الملك.