لا شك أن ما يسري على عالم الحيوان يسري أحيانا وبشكل مبتذل على عالم البشر، وبشكل كاريكاتوري في عالم السياسة. فكما تشكل بقايا الجيف أساس استمرار الضباع على قيد الحياة وكما ترهن الطحالب والطفيليات حياتها بحيوات الكائنات الحية الأخرى، فإنه توجد كائنات سياسية للأسف لا تعرف سبيلا إلى الوجود إلا بتأزم الأحوال الاقتصادية وتدهور الأوضاع الاجتماعية، أو على الأقل بالرهان على تعفن هذه الأوضاع، وإلا فمصيرهم هو العدم السياسي في انتظار الانقراض البيولوجي لهكذا سلالات. لم تفوت جماعة العدل والإحسان فرصة استئناف المغرب لعلاقاته مع إسرائيل، لتربط ما لا يربط، جاعلة الموضوع مطية وبسوء نية كالعادة من أجل المرور بالسرعة القصوى إلى استهداف المؤسسات وتسفيه المجهودات والتشكيك في الإرادات وتهديد عرى الوحدة والأمن والاستقرار. فقد اعتبرت الجماعة في أكثر من بلاغ ومن خلال تصريح لمحمد عبادي قبل أيام أن "منهج التغيير من داخل المؤسسات غير مجدي"، وبذلك تكون الجماعة قد نسفت كل ما اعتقدناه من ثوابتها المكثفة في شعار اللات الثلاث، وهي تدعوا إلى أن الحل بالنسبة لها هو أن يكون خارج المؤسسات أو لا يكون. للجماعة وغيرها أن تعبر عن موقفها مما جرى ويجري، ولها الحق في ذلك مساندة أو تنديدا، لكن ما يؤسف له أن تتربص الجماعة دائما وتتحين الفرص للانقضاض على رموز الاستقرار في البلاد. فكلام العبادي، بمنطق تحليل الخطاب، لا يحتاج إلى كثير بيان، فهو باختصار تحريض بيِّن على العصيان والتمرد أو لنسميها بكلامهم المسكوك دعوة إلى القومة. ويعكس كلامه سوء تقدير الجماعة للأوضاع، فلربما اعتبرتها ساعة المرور من مرحلة التربية والتنظيم إلى مرحلة الزحف كما أوصاهم زعيمهم في كتابه المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا. ورد عن الإمام أبو القاسم الرافعي في التدوين في أخبار قزوين أن الرسول (ص) قال "الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها"، لكن هل الفتنة نائمة في أدبيات الجماعة، أبدا لا، أوليس المجتمع في نظرهم حتى وإن لم يكن جاهلي فهو مفتون؟ لكن في المقابل أو لم يرد في القرآن أن الفتنة أشد من القتل؟ ولهذا فحكم العبادي بصلاح منهج التغيير خارج المؤسسات في المغرب موقف لا ينفصل عن دعوة نادية ياسين منذ سنوات إلى صلاحية النظام الجمهوري كنظام حكم في المغرب. فهذه المواقف بلا مواربة وبدون كثير حذلقة حلقات في سلسلة مبتدأها تسفيه المؤسسات لإفقاد المجتمع الثقة فيها، ومنتهاها زرع الفتن وعوامل الشقاق لبلوغ الاقتتال والاحتراب بين أفراد المجتمع الواحد. إن الحكم بفشل منهج الإصلاح من الداخل، بمنطق المخالفة، يحتمل خيارا بديلا واحدا وهو صوابية منهج الإصلاح من الخارج، وربما ليس خارج المؤسسات فقط وإنما خارج المغرب ككل، وأن يكون بالدبابات ربما أصلح وأفيد. كصلاح أحوال البلاد والعباد في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن… الذي تم بمنهج التغيير خارج المؤسسات! وفي سياق هذه المزايدات الفارغة والعنتريات الجوفاء بخصوص القضية الفلسطينية، تساءلت عن هذا الذي قدمته العدل والإحسان كدعم أو كتضحية للقضية الفلسطينية، بحثت ولم أجد غير الدعاء على اليهود أن يعودوا قردة خاسئين وأن يحصى اليهود عددا ويقتلوا بددا ولا يبقى منهم أحدا. دون التنكر لأهمية سرد كوابيسهم الليلية كفرع جديد لعلم المستقبليات لاستشراف مستقبل الصراع في الشرق الأوسط، وذلك على غرار تحقق نبوءة حدوث شيء عظيم سنة 2006. وما الذي قدمته العدل والإحسان لتقليص الفجوة بين الإخوة الأعداء في فصائل المقاومة الفلسطينية غير مناصرة طرف على آخر أملا في نسف أسس أي مبادرة للمصالحة الوطنية في فلسطين. ولكنني في المقابل أعرف جيدا الذي قدمته القضية الفلسطينية للجماعة، ففلسطين بالنسبة للجماعة ليست قضية إنسانية أو مسألة مبادئ، بل هي في الحقيقة بضاعة ووقود للمشروع السياسي للجماعة، فباسم القضية الفلسطينية يكتب للعدل والإحسان ميلاد جديد بعدما تكون على مشارف الاضمحلال، فقد كانت الجماعة تنظم مسيرات ليس للتضامن مع الفلسطينيين ولكن لبعث رسائل مشفرة للسلطات العمومية، مستغلة في ذلك مكانة القضية الفلسطينية في وجدان كل مغربي ومغربية لتبدو على عكس واقعها أنها قوة تعبوية وحشدية. ألم تصرح الجماعة في أكثر من ملتقى وفي أكثر من مناسبة أنها تعرضت للتضييق من طرف الدولة؟ ألم يكن بها حريا أن تحشد وتعبئ الأتباع والمتعاطفين مع مشروعها للاحتجاج من أجل قضاياها الخاصة أو من أجل سوء أحوال تازة قبل طوي المسافات لبلوغ غزة؟ إن الاستغلال الرخيص والفج لقضايا الأمة لا يعكس إلا حالة التيهان وفقدان الصواب الذي صار يحكم مواقف الجماعة ويتحكم في صناعة سلوكها. فليس غريبا أن تفعل الأفاعيل بحثا عن حضور ولو باهت في المشهد السياسي الوطني، وإن اقتضى الامر الخروج على المألوف والمعقول واستدعاء الخوارق والتفكير الخرافي، فقد سبق للعبادي في بداية الجائحة أن اعتبر فيروس كورونا جند من الله في الأرض لإحقاق العقاب على المذنبين. اشتغال الجماعة بمنطق خالف تعرف، لا يمكن أن يفسر إلا بانسداد أفقها السياسي وضيق رؤيتها التنظيمية، ويجد هذا الانحصار في البدائل للجماعة علته ببساطة في الحجر على أي نزعة تفكير وتجديد في صروحها الضيقة وجدرانها السميكة، بحكم الاحتكام القسري إلى أدبيات مرشدهم عبد السلام ياسين، فحتى إن تضمن مشروعه تجاوزا بعض الصواب فهو محكوم بسياقه وزمانه. فالانتظارية القاتلة التي باتت تبتلع الجماعة يوما بعد يوم دفع بها إلى تجاوز كل الخطوط الحمراء ونسف أرضيات الالتقاء القطري، كما يقولون، من ميثاق إسلامي وميثاق وطني إلى ميثاق منهج التغيير خارج المؤسسات وإن بالعنف إذا اقتضى الأمر. وبذلك صارت كمن يكدر مياهه كي تبدو عميقة، أرادت أن تصفي حساباتها مع النظام فوقعت في المحظور وفي شرك تصفية الحساب مع الوطن. اعتبرت الجماعة التطبيع خيانة، وتناست أن "التضبيع" جريمة، واستغلال جراح شعب مشرد ومهجر دناءة، وكسب التعاطف السياسي باسم الشهداء خسة وحقارة. ما أسهل السقوط وما أصعبه إن كان قاتلا، سقطت الجماعة في مستنقع تأليب الرأي العام ضد النظام والاستغلال الفج للقضية الفلسطينية، فلا هي ربحت الوطن ولا هي كسبت شرف الدفاع عن القضايا العادلة.