صدر للكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج، في بيروت، روايته الثانية الموسومة بأحجية إدمون عمران المالح، بعد روايته الأولى كافكا في طنجة التي سبق أن تحمست لها كثيرا وكتبت عنها. لكن الرواية الثانية، وإن كانت أكثر احترافية وإبهارا من حيث الصنعة الأدبية، إلا أنها جاءت مخيبة للآمال لسقوط الكاتب في فخ الهرولة لنيل رضى الجوائز العربية بالتطبيل لإسرائيل وبدعوته إلى التطبيع مع الكيان المستعمر لأرض فلسطين. ظاهريا تبدو الرواية وكأنها تهاجم فساد الجوائز المخصصة للروايات، وذلك من خلال قصة الصراع بين بطل الرواية عمران اليهودي والناشر الفرنسي -اليهودي أيضا- الذي يحاول إغراء عمران بعرض لا يمكن رفضه ككل عروض المافيا ليجبر البطل على قبول رواية محددة للفوز بالجائزة التي يساهم في تحكيمها. إلا أن المشكلة هنا اثنتان: الأولى، التطبيع مع اليهود والإسرائيليين بتحويل الحديث عنهم إلى حديث يومي مألوف وجعلهم أبطالا في روايات تدفع القارئ للتعاطف وخلق الألفة معهم. والمسألة الثانية أن هجوم الكاتب على الجوائز المخصصة للرواية ما هو إلا رسالة يريد بها الكاتب لفت نظر الجوائز العربية حتى تكون إحداها من نصيبه، وهو أسلوب رأينا أكثر من كاتب قام به بنجاح لأجل التأهل لقوائم الجائزة العالمية للرواية العربية، الشهيرة بجائزة البوكر العربية. التطبيع وأنسنة العدو تظهر بوضوح عند سرد الكاتب لحكاية الهولوكوست. الحقيقة أن الكاتب، وهذا ذكاء منه لا شك، مرر نقدا خفيفا لمبالغة اليهود في استغلال معسكرات الاعتقال التي لم يحصرها الألمان في اليهود بل شملت أعراقا أخرى كان عدد الضحايا منهم أكبر من اليهود، وذلك بذكره لقصة قتل فرانز جولدشتاين لأفراد عائلته وادعاء أنهم ماتوا في معتقل أوتشفتز. كما مرر الكاتب مشهدا جميلا عن الصفعة التي حصل عليها بطل الرواية وهو طفل من مدير المدرسة في إسرائيل حين أبدى استغرابه من موضوع الهولوكوست، وهو كان يقصد جهله بالموضوع كونه لم يسمع به قبل هجرته من المغرب، في حين كان رد فعل مدير المدرسة صارما يدل أن اليهود لا يبالغون وحسب في موضوع الهولوكوست بل يرفضون تماما أن يشكك أي فرد في موضوعها. كما قلت، جاءت هذه الإشارات لفتة ذكية من الكاتب لنفي وسم التطبيع عن نفسه، إلا أن ذلك لا يخرج عن مقولة دس السم في العسل، فالحقيقة أن مجرد ذكره للهولوكوست دون نفيه هو اعتراف بالقصة التي تروجها إسرائيل عن المحرقة الذي تعرض لها اليهود تحت حكم هتلر، وهذه معلومة غير دقيقة تاريخيا، فلم يكن اليهود وحدهم هم الضحية. ربما يمكن تجاوز كل ما سلف تحت دعوة الانفتاح على الثقافات الأخرى وكتابة رواية من وجهة نظر العدو. لكن أسوء ما في الرواية هو المساواة بين الضحية والجلاد، وتلك هي مشكلة التطبيع الأكبر. فالكاتب يقول صراحة أنه ما عاد يتعاطف مع القضية الفلسطينية ويضيف بأن اليهود الذين ولدوا في إسرائيل لا يمكن وصفهم أنهم محتلون مغتصبون فلا ذنب لهم أنهم ولدوا في تلك الأرض ولن يكون عدلا حرمانهم من وطنهم (إسرائيل يقصد الكاتب). هذا كلام فيه إجحاف خطير في حق ملايين الفلسطينيين الذين شردوا من أراضيهم وبيوتهم وصاروا مشتتين في بقاع العالم، ومن بقي منهم على أرضهم يعيش محاصرا بجدران العزل العنصري، تحت الفقر وتحت خطر الصواريخ الإسرائيلية التي تهوي على رؤوسهم صباح مساء. بعد سبعين عاما من خسارتنا فلسطين بدأت بعض الحكومات العربية ترفع يدها علانية عن القضية الفلسطينية وتمد يدها بالسلام مع العدو الذي اغتصب أرضنا. وطمعا في نيل رضى الجوائز الأدبية والمجلات الثقافية والمهرجانات ومعارض الكتب، وهي كلها تسيطر عليها دول التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، يقبل الكثير من الكتاب العرب التخلي عن مبادئهم طمعا في تلك الجوائز وفي مجد زائل لا محالة. ينقل الكاتب في مستهل روايته اقتباسا من أحد كتب عبد الفتاح كليطو، يقول: "ينبغي التيه ليتحقق الوصول". يبدو أنه، هو نفسه، تاه ولم يتحقق له الوصول، مثل شخصيات روايته. الرواية كما قلت في أول فقرة محكمة الصنع ولا شك تطلبت جهدا من كاتبها ليخرجها بهذه الدقة المحكمة. لكن خسارة أن يضيع كل ذلك الجهد وكل تلك الاحترافية في الكتابة عن مواضيع لن تفيدنا. ليت الكاتب يوجه قلمه المبدع لخدمة قضايا أكثر عدلا ولا يضيع مستقبله بالرضوخ لشروط الجوائز التي تمنحها حكومات ملطخة أيديها بدماء الفلسطينيين واليمنيين والسوريين.