الثابت عندنا، كما ثبتنا في المقال السابق، أن اليوسفي رحمه الله كان مجاهدا في مرحلة السلفية الوطنية، ومناهضا للحكم المطلق في منفاه .. كان هدفه في منفاه، مع صديقه المجاهد محمد الفقيه البصري، هو إسقاط الحكم المطلق، إلى حد المغامرة بالتحالف مع الجينيرال أوفقير والضباط اﻻنقلابيين بداية السبعينات… توصلت الدولة إلى الصلح معه، لمكانته الكبيرة لدى الحزب اﻻشتراكي الفرنسي، فعاد إلى وطنه بعد عفو الملك عن المغتربين سنة 1980، وليكون على رأس الحزب بعد وفاة الزعيم عبد الرحيم بوعبيد سنة 1992؛ لكن اليوسفي اختار لنفسه المنفى سنة 1993، وتخلى عن قيادة حزبه، غير مضطر إليه هذه المرة؛ وإنما غضبا على زملائه في المكتب السياسي الذين تراجعوا عن الخط النضالي. وبإصرار من زملائه الوسطاء، غرر به سنة 1997، كما بدا له فيما بعد ، ربما وبتدخل من الحزب اﻻشتراكي الفرنسي، لتشكيل ما سمي ب”حكومة التناوب” أو “التوافق”، ظانا في اﻷخير، وبعد نفاذ صبره على خطه السابق، أنه سيغير بالتنازﻻت والمراجعات، بل والتراجعات، ما لم يستطع تغييره بالمعارضة والنضال؛ فسقط في جميع اﻻمتحانات إﻻ امتحانا واحدا. – أول امتحان سقط فيه عبد الرحمان اليوسفي هو قبوله مع الحسن الثاني حكومة “التناوب”، مشروطة بأربع وزارات سيادية هي الداخلية والعدل والخارجية واﻷوقاف؛ بينما زعيم حزب اﻻستقلال بوستة لم يقبل سنة 1993 شرطا واحدا فقط، تمسك به الحسن الثاني، هو اﻻبقاء على وزارة سيادية واحدة، هي وزارة الداخلية. لقد ترجّل بوستة رحمه الله والتحق بالعظماء برفضه تشكيل حكومة توافق ناقصة السيادة. – ثاني امتحان، ملازم للأول، سقط فيه هو قبوله لمقاعد برلمانية مزورة لفائدة حزبه، أي سنة 1997، منها مقعد محمد حفيظ الذي تخلى عن مقعده في اليوم الموالي ﻹعلان النتائج، والذي احتج على التزوير لفائدته ولفائدة أزيد من 14 اتحاديا، منهم قياديون بارزون. ربما يفسر اليوسفي قبوله للأمر بترجيحه المقصد الذي تعاقد عليه مع الحسن الثاني على رفض الوسيلة غير المشروعة! – ثالث امتحان سقط فيه هو تبنيه باسم حكومته لمشروع “خطة العمل الوطنية ﻹدماج المرأة في التنمية”؛ وهو مشروع يتضمن مراجعة أحكام اﻹرث وإباحة اﻻجهاض وحرية الزوجة في جسدها، وإباحة الشذوذ الجنسي؛ وغيرها من مشاريع قوانين مستفزة لهوية المغاربة جميعهم، والتي أغضبت القيادات المحافظة في اﻻتحاد اﻻشتراكي نفسه، على رأسهم القيادي التاريخي السلفي الحبيب الفرقاني ومحمد الفقيه البصري وغيرهما كثر؛ مما اضطرهم إلى اﻻستقالة من الحزب والتعبير عن انحرافه عن المرجعية اﻻسلامية وقيمها المعبر عنها غالبا في اﻻتحاد اﻻشتراكي ب”اﻻشتراكية اﻻسلامية”. – رابع امتحان سقط فيه سقوطا مدويا هو اﻻمتحان الذي ذبح فيه شعار “اﻻشتراكية” الذي رفعه التيار الشبابي الماركسي اللينيني المخترق لقواعد الحزب منذ سنة انشقاقه عن اﻻتحاد الوطني للقوات الشعبية 1975؛ حيث في السنوات اﻷخيرة لحكومة اليوسفي تمت خصخصة عدد من مؤسسات الدولة، أي تم بيعها طلبا للموازنات المالية لحكومته؛ وهو أمر لم تحلم به الدولة حتى تحقق على معارض اشتراكي في المغرب. – خامس امتحان سقط فيه اليوسفي، هو تزكيته سنة 2002 لتجار اﻻنتخابات لينافسوا، باسم حزب الوردة، في المقاعد البرلمانية، بالمال الحرام، ﻷول مرة في تاريخ اﻻتحاد. -وسادس امتحان سقط فيه هو امتحان المنهجية الديموقراطية؛ حيث عجز عن كسب ود ودعم زملائه القياديين في حزبه ، يوم رُمي بطريقة مهينة خارج الحكومة، رغم فوز حزبه بالرتبة اﻷولى، وتعيين تيكنوقراط وزيرا أوﻻ، خارج المنهجية الديموقراطية على حد تعبير بيانه آنذاك. – امتحان واحد نجح فيه، هو تقديم استقالته من حزبه، وترجُّله ﻹرسال رسائل واضحة، ولو بعد فوات اﻷوان ومن غير استمرار في النضال، عن السخط وعدم الرضى عن اللعبة التي أسقطه فيها زملاؤه بالدرجة اﻷولى، وعن خديعة المخزن وخيانته بالدرجة الثانية. فمما يشفع لعبد الرحمان اليوسفي، إذن، بعد كل هذه التنازﻻت، وبوأه مكانة محترمة تذكِّر بماضيه النضالي، هو تعبيره عن ندمه على كل ما جرى، واﻻستقالة من حزبه ومن العمل السياسي برمته؛ وهي استقالة فسرت بعدم رضاه عن كل ما يخالف قناعاته، كما فسرت باﻻنتقام من ضغوط وخيانة زملائه في الحزب، الذين تضرر منهم أكثر مما تضرر من خيانة المخزن وضغوطه المعتادة. ليس من السهل أن يرمي اليوسفي اﻻتحاد اﻻشتراكي وراءه، لو لم يشعر أن هذا الحزب، بتوجهاته الجديدة، وبسبب تهافت قياداته على كراسي الدولة بأي ثمن، كان سبب فشل حكومته وسبب اخفاقاته الكثيرة في جميع المجاﻻت في التعليم والصحة والرعاية اﻻجتماعية والحريات العامة؛ وكان سبب جيل جديد من اليساريين واﻻتحاديين اﻻنتهازيين الوصوليين والنيو ليبراليين المتحالفين مع اﻻستبداد في كل شيء. وغيرها من اﻻخفاقات التي دشنت النكوص في مسار المطالبة بأحلامه في “التحرر” و”اﻻشتراكية” و”الديموقراطية” بالمغرب. هذا للتاريخ، ولمن يملك الإرادة، من الاتحاديين المخلصين، لاسترجاع الماضي المجيد لهذا الحزب العتيد.