شاهد المواطن المغربي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام الوطنية والدولية، انتشار تقارير وأشرطة تعرض مسار عالم كبير في البيولوجيا الجزيئية، وخبير دولي ومستشار للرئيس الأمريكي الدكتور منصف السلاوي، تعززت بشهادة رفيق له في المهجر فترة تخرجه ببلجيكا، شهادة تثني عليه كمناضل غيور على ازدهار وتقدم بلده، إلا أنه لم يطق التجاهل الذي لقيه من قبل بعض مسئولي كليات الطب آنذاك، مما اضطره للاستقرار خارج الوطن. كان هذا شأن عدد من الشباب المتخرجين من الجامعات الأجنبية، والذين اضطرت الدولة المغربية آنذاك، نظرا للظروف الاقتصادية غير المواتية، أن تسهل بقاءهم في المهجر، وتتغاضى عن كلفة تعليمهم وتكوينهم للحصول على شهاداتهم العليا -على نذرتها في ذلك الوقت-، وهم الذين نوه الرئيس ساركوزي باستقطابهم من طرف بلده مستعملا عبارة “الهجرة الذكية”، دون مراعاة لمصالح الدول التي كونتهم. وفي المقابل، فإن العدد الأوفر من الأطر التي استقرت بالمغرب، تحملت في بداية تشغيلهم، الإكراهات الناتجة عن انسجامهم مع المجتمع المهني المغربي، من قلة الموارد، وصعوبة التواصل مع المسئولين، والبيروقراطية، إلى أن تغلبوا شيئا فشيئا على تلك الصعوبات، وغيرها، واندمجوا، فتحملوا المسؤوليات، وساهموا في الإصلاحات، وشيدوا ازدهار وتطوير البلاد. مما لا شك فيه أن شخصية اِلدكتور السلاوي طموحة وثائرة، متبصرة للآفاق المستقبلية، وهو صنف من الأشخاص الذين لا يتنازلون عن حلمهم وبالأحرى عن كرامتهم، ليقبلوا بواقع يقيدهم ويهضم طموحاتهم، والشخصيات المغربية من هذا الصنف عديدة يجب على القطاع المسؤول إحصاؤها، نذكر من بينها تلك التي برزت مؤخرا عبر وسائل الإعلام؛ الدكاترة: سميرة فافي كريمر مديرة معهد الفيروسات بستراسبورغ، وسمير مشور نائب رئيس سامسونغ بيولوجيا بسيوول، وسعيد الحمديوي خبير متميز في تقنيات النانو بجامعة هولندية، وغيرهم الكثير. ومما لا شك فيه أن مكانة الدكتور منصف السلاوي العلمية العالية، أهلته على الرغم من قوة منافسيه، ليحظى بمنصب مستشار للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيسا للبرنامج الأمريكي لصناعة اللقاح ضد الفيروس كورونا المستجد. إلا أن المسألة تصبح أكثر تعقيدا عندما نعي بأن هذا المنصب هو منصب علمي وسياسي، بل ربما هو منصب سياسي أكثر منه علمي. ويحق للقارئ أن يتساءل: وما المانع لهذا من ذلك؟ الجواب هو موضوع البرنامج-اكتشاف وإنتاج اللقاح ضد فيروس كورونا المستجد-، حيث تتعالى في -الظرف الحالي- أصوات من كل أنحاء العالم، تندد بمدى فعالية ونجاعة اللقاح، بل وتظنه ضارا بصحة الإنسان، لما تعرفه المنظومة العلمية تاريخيا من انتقادات للأدوية واللقاحات التي لم تستكمل مدة المراقبة الكافية للتعرف على التأثيرات والأعراض الجانبية المحمودة أو الخطيرة، والفئات التي يجب أن تأخذه ممن لا يجب، والتخوف الذي تعيشه بعض الدول والتي تخشى أن تكون أول من ستُلزم باستعماله، خصوصا الإفريقية منها. ناهيك عن كون المُنُتِج هي أمريكا، الدولة العظمى التي فقدت بعضا من مصداقيتها بتسجيل بما يناهز تقريبا مليوني مصاب، وما يفوق المئة ألف وفاة بالوباء، كل هذا بالموازاة مع تسريب معلومات مفادها فقدان عدد من المنظمات الدولية استقلالها المالي، واستقلال قراراتها بما فيها منظمة الصحة العالمية، مما يقوض مجهوداتها في النصح والتوجيه. يتضح إذن أن البرنامج العَملي للدكتور السلاوي، هو وضع خبرة وصورة الخبير العِلمي، ومدير إحدى كبريات الشركات العلمية المنتمي لبلد إفريقي مسلم –المغرب- على برنامج تصنيع ثم توزيع اللقاح الأمريكي دوليا ، حيث سيجد اللقاح المُنتَج حتما إقبالا في المغرب وفي إفريقيا عبر صورته التاريخية والدينية، وعبر سياسته الرشيدة في محاربة الجائحة وطنيا ودوليا، والجدية والثقة التي يحظى بها في الأوساط الإفريقية، ومستعينا في ذلك بعلاقات الأستاذ السلاوي الحالية أو المستقبلية مع الدوائر العلمية والسياسية المغربية، و بنوعية العلاقات الخارجية الخاضعة عادة لقوانين خاصة بها. فاختيار الدكتور السلاوي لرئاسة برنامج اللقاح شيء سديد لسمعة المغرب، وللأطر المغربية، لكنها وفي نفس الوقت خطيرة ولو بشكل جزئي، مما يلزم المغرب الحذر لكي لا يقع تحت تأثير الضغوطات الدولية، بل حتى تحت تأثير واقع القبول من الداخل الوطني، نتيجة الصورة الجذابة لاسم العالِم المغربي، ومكانته المتميزة عند المسؤولين والمثقفين في المغرب ومحيطه، والتي ستنتشر تلقائيا عبر القارة الإفريقية؛ لذا فأي خطأ في تقييم الأوضاع وتداعياتها الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتقديرها من وجهة نظر المغرب، ستجعله يضيع بعضا من حصاده الوطني والدولي. أما بالنسبة للخبرات العلمية والتقنية المغربية في الخارج، الغيورين بدون شك على نهضة وازدهار بلدهم، فبمجرد إتاحة الفرصة لهم للانفتاح مهنيا على بلدهم، سيزدادون تقربا وشوقا لأصولهم ، ولعقد روابط عمل مع مسؤولين في جل القطاعات، في الجامعات مع باحثين جامعيين مغاربة، ومع المختبرات المغربية، والمشاركة في تبادل الخبرات والمعارف الحديثة، أو في أضعف الإيمان المشاركة في تأطير الطلبة بالجامعات المغربية سلك الدكتوراه. حيث شهدت مؤخرا الجامعات المغربية التابعة للقطاع الخاص تطورا نسبيا لبرامج البحث والتكوين بمشاركة كفاءات مغربية مقيمة خارج الوطن، ويبقى على المشرع المغربي أن يطور كل الوسائل المحفزة لهذا التعاون المتميز، وأن يضع له إطارا خاصا للتدبير القانوني، والمالي وكل ما من شأنه أن يشجعه ويسهل توسيعه. تكمن مسألة البحث العلمي بالمغرب فقد أساسا في نوعية الدعم والترشيد على المستوى الوطني أولا، وخصوصا دعم أهم مكونات هذا القطاع من مختبرات البحث المنتمية للجامعات المغربية، والأساتذة الباحثين العاملين فيها، وطلبتهم في سلك الدكتوراه الذين يشهد الجميع بمستواهم العلمي الجيد في كل ندوة علمية يشاركون فيها. فهذه الجيوش الخفية تقوم بجهود مستمرة هادفة إلى مساهمات علمية متميزة تمكنت من نشر نتائج البحوث في أرقى المجلات الدولية، بجانب نظيراتها من كل جامعات العالم. يدل على ذلك الكم الهائل لمقترحات البحث التي قدمتها مختبرات الجامعات المغربية، استجابة لطلب المركز الوطني للبحث العلمي والتقني مؤخرا للبحث حول جائحة كورونا. كما نذكر بالمناسبة أن الأستاذ الباحث في الرياضيات لحسن أوخطيط، من كلية العلوم والتقنيات بالراشدية صنف سنة 2015 من بين مئة باحثين الأكثر فاعلية علمية على الصعيد الدولي. من جهة أخرى، فإن رفع معنويات وقيمة الأستاذ الباحث في الجامعات المغربية، وصورته عند المواطنين وخصوصا عند الشباب سيخفف من الوهم الرائج أن الجنة فوق الأرض موجودة خارج المغرب. الوهم الذي تعززه صور وشرائط مثل تلك التي تظهر الدكتور السلاوي وغيره وهو ينعم بسمعته في عمله وبخيراته مع أهله – مع كل المتمنيات الخالصة له بالتوفيق – قد أصبحنا وللأسف نصادف كتابات خطيرة تروج للفرار والتخلي عن قطاع الصحة العمومي الذي لا يحقق كرامة العاملين فيه، مع العلم بما قد ستخلفه هذه التأثيرات السلبية من ضياع للموارد البشرية الثمينة. إن المغرب اليوم يعيش التحاما متجددا بين أقطابه الأساسية، وهي فرصة يجب انتهازها والحرص على استغلالها، وذلك بتعزيز مكونات التدبير الرشيد الذي ظهر في مواجهة الجائحة، من خلال الاهتمام بالسياسات الاجتماعية، ودعم ذوي الدخل اليومي المحدود، وتوفير البنية التحتية الكافية للمستشفيات، واستعمال وتطوير بنك المعلومات السوسيو-اقتصادي للبلاد، الشيء الذي من شأنه تيسير المخططات الاجتماعية المقبلة، وتطوير خطط استباقية لتنظيم الحجر الصحي، والتطوير المكثف لرقمنة المعاملات وتيسير استعمالها والتعلم عن بعد. كما أن نجاح هذه السياسة الرائدة على المدى الطويل، يبقى في آخر المطاف مرتبطا بالممارسة الحقيقية والفعالة -على مختلف المستويات- لعملية التشاور مع المعنيين بالأمر ومع ذوي الخبرات والتجارب، والأخذ بآرائهم والاستعداد المستمر لتصحيح المسار والتأقلم مع الواقع المتجدد، مما سيعزز إحساسا جماعيا بالمسئولية ويمكن من رفع مستوى الوعي العام الإيجابي، ويرسخ الشفافية والمواطنة. فالهيكلة السياسية التي بإمكانها توفير هذه الديناميكية إقليميا ووطنيا، هي التي دون سواها، يمكنها تحقيق الازدهار الراسخ والمتين، المنزه عن كل أسباب التبذير اللاعقلاني، وعن العواقب الفادحة والمفشلة بسبب أخطاء عادة ما تكون بسيطة. إن السيناريوهات التي قدمتها هذه الورقة، وإن كانت قراءة في قرائن تسلسل الأحداث وتسارعها، والسباق لاكتشاف اللقاح والترويج له، فهي تخضع لاحتمالات مطابقة تماما لنظرية اللَعب Game theory، والتي تركز على توازنات المصالح المتشابكة لكل الأطراف المعنيين بالمسألة المتداوَلة، وتدفع مستعملي برامجها للسعي -كلا من جهته- وراء تقوية وتعظيم مصالحه. وقد عرفت هذه النظرية تطبيقات عديدة منذ أن وضعها باحثون في الرياضيات في أوائل القرن العشرين، وبرزت فائدتها خلال الحرب العالمية الثانية، ولازالت تستعمل إلى يومنا هذا، كمكون من أهم مكونات الذكاء الاصطناعي. إعداد: * محمد يوسفي الكتاني، أستاذ باحث، جامعة ابن طفيل، شعبة الرياضيات. * محمد لكزولي، أستاذ باحث، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، سوس ماسة، شعبة البيولوجيا.