يقال عن النجاح إنه مزيج من الإستعداد الجيد مع توفر الفرصة. هذه الخلطة السحرية لا تتوفر دائما للإنسان. عندما يتوفر الإستعداد تغيب الفرصة، وعندما تأتي الفرصة يكون الإنسان غير مستعد. والإنسان المحظوظ هو الذي يجمع الله له استعداده بفرصة حياته، ويدله كيف يقتنصها بذكاء. مناسبة هذه المقدمة هو النقاش الحاد الذي اندلع في وسائل التواصل الإجتماعي بالمغرب حول الدكتور منصف السلاوي، هناك من يفتخر بكونه مغربيًا ولد بالدشيرة بأكادير وعاش بالدارالبيضاء، وآخرون يقولون أن الرجل أمريكي درس في بلجيكا وأن المغرب لم يعطه شيئًا يبرر افتخاره به اليوم. هذا بالنسبة لنا نحن المغاربة، أما وسائل الإعلام العربية فقد عودتنا دائما على وصف المغاربة محطمي الإرقام القياسية بالأبطال العرب، لكن بمجرد ما يفشلون يسمونهم الأبطال المغاربة، فهم تعودوا أن ينسبوا أبطالنا لجميع العرب وأن يخصونا لوحدنا بالهزائم والخسارات. ولذلك فقد عنونوا جميعهم تقاريرهم بكون ترامب يعين العالم العربي منصف السلاوي عوض العالم المغربي. بنظري أن يكون الدكتور منصف السلاوي الذي عينه ترامب على رأس مبادرة السرعة الفائقة للعثور على لقاح كورونا مغربيًا أو بلجيكيًا أو أمريكيًا ليس هذا هو المهم الآن، المهم هو أن ينجح في مهمته ويتوصل إلى اللقاح الذي سيخلص البشرية من هذا الوباء. آنذاك سيحق لنا أن نفتخر به ونقول بالفم المليان أن الرجل الذي أنقذ العالم مغربي أنجبته رحم مغربية في حي شعبي بأكادير. عندما نعيد سماع كلمة الدكتور السلاوي أمام ترامب والشعب الأمريكي والعالم نلاحظ أنه لم يقل أنه فخور بخدمة بلده، بل قال إنه فخور بخدمة بلدنا، بالجمع. ولو أراد أن ينسب نفسه لأمريكا لوحدها لقال إنه فخور بخدمة بلده أمريكا. أمثال الدكتور السلاوي ليسوا ملكًا لبلد معين بل هم تراث عالمي في ملك الإنسانية جمعاء. لأن ما يقومون به تستفيد منه البشرية ويبقى كإرث علمي للأجيال المقبلة. وهو كباحث وعالم يبحث عن البلد الذي يمنح أكبر قدر ممكن من الإمكانيات المادية والبشرية للبحث العلمي، وإلى أن يثبت العكس فأمريكا هي أكبر من يخصص الأموال الطائلة للبحث. بمعنى أن حلم كل باحث هو أن يشتغل في أمريكا ومختبراتها ومراكز بحثها. ولذلك فالمغاربة أمثال الدكتور منصف السلاوي كثيرون ومنتشرون في البلدان التي توفر ميزانيات كبرى للبحث العلمي، أمثال عبد الجبار المنيرة، أستاذ علم الأعصاب في معهد كارولينسكا بالسويد، الذي انتخب عضوا في الأكاديمية الملكية للعلوم بالسويد المانحة لجائزة نوبل. والبروفيسور خالد جليد سهولي، الأستاذ الطبيب الأخصائي في أمراض النساء والولادة بألمانيا، مدير قسم أمراض النساء والولادة بمستشفى شاريتي ببرلين، واحد من أكبر الخبراء في العالم في سرطان النساء. ومحمد عزيز بيهي، طبيب مغربي بالمستشفى الملكي بليفربول، مكتشف لعلاج واعد ضد سرطان البروستات. وعثمان لعراقي، نائب رئيس تويتر سابقا، مشترك في تأسيس عدة مقاولات للتكنولوجيات بالولاياتالمتحدةالأمريكية وحاليا رئيس شركة "كولور جينوميكس" المختصة في الكشف المبكر للسرطان على نطاق واسع. وفي مجال البحث العلمي البيولوجي فهناك أبطال منسيون لا يلتفت إلى إنجازاتهم أحد، وهم علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء والمعلوميات، والذين لولا أبحاثهم لما استطاع علماء البيولوجيا التقدم في مجال أبحاثهم. ولذلك فمجال البحث العلمي مجال متشابك يكمل فيه علم علمًا آخر. البعض عاد ثلاثين سنة إلى الوراء لكي ينبش في سيرة الدكتور السلاوي ويحكي كيف أنه عندما عاد من بلجيكا حاملًا دكتوراه في البيولوجيا الجزئية تخصص المناعة، وذهب إلى كلية الطب بالرباط والدارالبيضاء مقترحًا إعطاء محاضرات تطوعية مجانية، قبلوا عرضه في الأول قبل أن يقفلوا الأبواب في وجهه، دون تقديم أي سبب، فقرر بعدها الدكتور السلاوي أن يعود للإستقرار نهائيًا بالمهجر. ولابد أن الإنتماء السياسي للدكتور السلاوي لحركة إلى الأمام ونشاطه في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في الخارج كان وراء إغلاق باب كليات الطب في وجهه، مثله مثل المئات من الباحثين والدكاترة الذين درسوا في أوروبا الشرقية وعندما عادوا إلى المغرب وجدوا أسماءهم في لوائح إدريس البصري بانتظارهم. غادر الدكتور السلاوي المغرب وهو يقول "لا أريد منهم المال، ولا أي شيء، أريد فقط أن أفيد بلدي، والبيولوجيا الجزئية علم حديث ومهم للصحة العمومية، ويمكنني أن أقدم الكثير"، لكن لا مكان لنبي في وطنه. حكاية الدكتور منصف السلاوي مع الطب بدأت منذ سن 17 سنةً عندما قرر أن يكون طبيبا بعدما رأى كيف ماتت أخته الصغرى بالعواية، وهو المرض الذي كان يمكن معالجته بالتلقيح. وقليلون يعرفون أن الدكتور منصف السلاوي هو مكتشف لقاح إيبولا، وخلال خمسة عشر سنة من العمل مع مختبر GSK كان وراء التوصل لمعظم اللقاحات المسجلة باسم المختبر، من لقاح الملاريا وسرطان عنق الرحم إلى لقاحات الوطافيروس البنوموكوك. وبفضله استطاع مختبر GSK أن يخترع بين 2001 و 2016 حوالي 24 دواء جديدا. منذ مارس الماضي اشتغل الدكتور السلاوي مع شركة بيوتيكنولوجي بشراكة مع المعهد الوطني للأمراض المعدية على إنتاج لقاح في زمن قياسي ضد فيروس كورونا وتم تجريبه على متطوع في مدينة سياتل، ولذلك سارع ترامب إلى تعيينه على رأس الفريق الذي سينتج اللقاح بكميات كافية لتلقيح الشعب الأمريكي حتى يضمن ترامب إعادة انتخابه لولاية ثانية، فهدف ترامب ليس إنقاذ العالم ولكن إنقاذ نفسه من حبل المشنقة إذا لم يعد إلى البيت الأبيض. ومع ذلك أعتقد أن الدكتور السلاوي يحمل المغرب في قلبه، لأن المغرب ليس هو الحكومات أو الدولة أو المؤسسات، بل هو الإنتماء والتربة واللغة، هو تلك الجذور العصية على الاجتثاث التي تنمو داخل القلب. ولذلك فلابد أن الدكتور السلاوي يضع المغرب في حسابه وهو يتحمل مسؤولية ايجاد لقاح لفيروس يهدد وجود البشرية جمعاء. كثيرون مثل الدكتور السلاوي عاشوا علاقة متشنجة وصعبة وأليمة مع المغرب خلال حقبة سنوات الرصاص، ومع ذلك لم يترددوا لحظة واحدة في مد يد العون لبلدهم عندما احتاج إليهم. بنزكري قضى بسبب أفكاره ثمانية عشر سنة في السجن ومع ذلك عندما خرج قاد مصالحة بين ضحايا سنوات الرصاص والنظام. رغم كل ما يمكن أن نقول عن هذه المصالحة فإنها على الأقل ساهمت في طي صفحة أليمة من تاريخ المغرب المعاصر. بحيث أن المئات من الأطر والباحثين والطلبة والمثقفين غادروا السجون وتقلدوا مناصب في تسيير الدولة ومؤسساتها. التامك مدير مؤسسة السجون معتقل سياسي سابق، محمد الصبار رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان السابق كان زميل التامك في السجن. يونس مجاهد رئيس المجلس الوطني للصحافة معتقل سياسي سابق. عبد الصمد بنشريف مدير قناة المغربية معتقل سياسي سابق. شوقي بنيوب المندوب الوزاري لحقوق الإنسان معتقل سياسي سابق. وأنا شخصيًا عشت البطالة بعد مناقشة دبلوم الدراسات المعمقة وتسجيل رسالة الدكتوراه ورفضت كل الجرائد تشغيلي، وأذكر أنني وضعت طلبات عمل في كل المدارس الخصوصية، منها مجموعة مدارس أمر أمامها اليوم كل صباح فيه إلى الدارالبيضاء، لكن ولا واحدة نادت علي للعمل، وبعدما ضربت وأهنت أكثر من مرة في الشارع العام دفاعا عن حقي في الشغل مع جمعية المعطلين التي أسست فرعها، قررت أن أهاجر بلدي فعملت في الفلاحة والمقاهي والمطاعم والديسكوطيكات وأوراش البناء، وعندما لاحت أول فرصة للعودة للبلاد من أجل للعمل كصحافي في أول يومية مستقلة لم أتردد. وحتى عندما اعتقلت بسبب كتاباتي وقضيت سنة سجنا ضاع مني فيها كل ما بنيته طيلة خمس سنوات من العمل الدؤوب، لم أختر مغادرة البلد كما صنع البعض لكي أصفي حساباتي معه بشتمه عن بعد مقابل نيل رضى الجهات التي لا تنتظر سوى ذلك، بل إنني بقيت في بلدي غير حاقد ولا ناقم وأعدت بناء ما ضاع وعوضني الله خيرا مما كان. ولو أردت أن أعدد أسماء كل المغاربة الذين عاشوا محنة الإعتقال والنفي والتعذيب قبل أن يصبحوا في خدمة بلدهم لاحتجت إلى مجلدات. فليس هناك تنظيم سياسي في المغرب لم يدفع نصيبه من حرية أعضائه وحياتهم لكي يكون المغرب على ما هو عليه اليوم. ويبقى المثال الأقرب للدكتور السلاوي هو الخبير الأممي المغربي جمال بنعمر الذي عاش الإعتقال السياسي في المغرب في سن مبكرة بسبب انتمائه لمنظمة إلى الأمام قبل أن يحصل على عفو ملكي ويلتحق بمنظمة العفو الدولية في لندن ثم بعدها انتقل إلى الولاياتالمتحدة حيث انضم إلى معهد الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر، حيث تسبب للمغرب في ألم كبير بسبب التقارير التي كان يحررها والتي كانت تؤثر على قضية الصحراء. لكن جمال بنعمر عندما بدأ العهد الجديد عاد إلى المغرب وحصل على جواز سفره واستطاع أن يعوض كل ما تسبب فيه للمغرب من أذى مع منظمة جيمي كارتر وصار أكبر مدافع عن مصالح المغرب في الأممالمتحدة حيث شغل منصب نائب الأمين العام للأمم المتحدة. لذلك فأمثال السلاوي وغيره من المغاربة الذين جارت عليهم بلادهم ذات وقت لا أعتقد أنهم يحملون حقدًا عليها، بل إنهم يرددون مع الشاعر : بلادي وإن جارت علي عزيزة وقومي وإن ضنوا علي كرام. ولذلك قبل ثلاث سنوات عاد منصف السلاوي إلى المغرب وألقى محاضرات علمية وناقش شراكات مع جامعات مغربية مثل UM6P الموجزة بمدينة بنكرير وUM6SS الموجودة بالدارالبيضاء. خلاصة القول فالدرس الذي يجب استخلاصه من وقفة السلاوي محاطا بكبار قادة الجيش الأمريكي ورئيس أقوى دولة في العالم وتسليمه ميزانية هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية وجيش من الباحثين هي أن المهم في هذا العالم هو العلم والعلماء، ولذلك قال الله تعالى في محكم كتابه "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". صدق الله العظيم.