بغض النظر عن ما سببته هذه الجائحة من آلام للإنسانية جمعاء وما يحمله هذا الفيروس”كوفيد19″ في طياته من مكر فتاك، إلا أن دروسه وعبره كثيرة المعاني والمباني، والتي نرجو أن تؤدي بنا إلى مراجعة العديد من الأمور و القضايا، ولعله من ابرز الدروس المستفادة في هذا الصدد، والتي على الكائن البشري أن يلاحظها ويعيها ويلتقطها بسرعة الضوء، سواء كان من الصنف الحاكم أو طبقة المحكومين. نتحدث هنا عن درجة احترام هذا الفيروس لقيمة المساواة، فكورونا لا يفرق بين هذا أو ذاك سواء كان فقيرا أو غنيا حاكما أو محكوما قويا أو ضعيفا عالما أو جاهلا، فقانون كورونا لا يحابي أحدا. فمن أعوص الإشكالات التي لازلت الكثير من الدول تعاني منها إلى حد الساعة، غياب مبدأ وقيمة المساواة في التعامل بين الأفراد والمؤسسات، ليس على الصعيد الوطني فقط بل حتى على الصعيد الدولي، الذي يتم تعاطي فيه بازدواجية واضحة للعيان بين القضايا المتعلقة بالدول النامية و الدول المتقدمة والمهيمنة بالخصوص، هنا نستحضر القضية الفلسطينية التي وقع تكالب مشين عليها، كذلك مدى جدية التعاطي مع الأزمات المفتعلة بالمناطق العربية بغية الوصول إلى السلام وإنصاف المظلومين، نستحضر هنا سوريا واليمن وليبيا دون أن ننسى ما حدث في مصر، وغيرهم كثير. يبقى التساؤل المطروح هو هل يمكن لنا أن نصل إلى مستوى كورونا في تكريسها لمبدأ المساواة والإنصاف والعدل، خصوصا وأن من بين أسمى ما يسعى إليه الإنسان هو الوصول إلى تطبيق القانون وفقا لمبدأ المساواة تحقيقا للعدل المنشود بين بني البشر.ولعل هذا ما تتوخى تكريسه مجموعة من المواثيق الدولية التي تدعو إلى الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا. فعند الحديث عن حقوق الإنسان والمبادئ الكونية المؤطرة لها، أو عند التطرق للأنواع المتعلقة بها سواء التقليدية منها والحديثة، لا يمكن لنا أن نفي هذه الحقول حقها بعيدا عن قيمة المساواة، ولا يمكن أن نمر للحديث عن الحقوق الحديثة لحقوق الإنسان، ونحن لازلنا نغيب قيمة المساواة حتى في الحقوق التقليدية، ونخص بالذكر هنا الحق فالانتماء السياسي وحرية الرأي والمعتقد السياسي والفكري والديني، الحق في المشاركة والاختيار و الحق في حرية التعبير السياسي، الحق في المحاكمة العادلة، فالمحاباة مستشرية في جملة هذه الحقوق وغيرها، حيث نجد فوارق واضحة وشاسعة بين مكونات المجتمع فهذا ينعم بالامتيازات وهذا يتضرع من التضييقات. هكذا يتم الإعلان عن خيارين لا ثالث لهما إما الرضوخ لسياسة الاحتواء أو الإجهاز والقضاء على كل من سولت له نفسه أن يسبح ضد التيار. ويكاد يجمع معظم فقهاء القانون و الفلسفة وعلم الاجتماع على أن المدخل الأساسي والفعال لتكريس المساواة داخل البلاد والعباد هو إيجاد قانون يعلو ولا يعلى عليه، يكفل حقوق الأفراد كافة وينظم عمل المؤسسات في جو من المسؤولية تتخللها رقابة صارمة، هذا القانون الذي يعتبر هو أساس التعاقد الاجتماعي الذي انتقلنا به في الأصل من حالة الفوضى ولا مساواة حيث أن القوي يأكل الضعيف أي قانون الغاب، إلى حالة الاستقرار والتنظيم المبني على أساس التعاون المشترك بين جميع مكونات المجتمع لتطبيق ما تم التعاقد عليه بين الحكومة والمحكومين، وكما هو معلوم فالعقد شريعة المتعاقدين، ومن خالف الشريعة وجبت محاسبته في إطار ما هو مسطر في القانون نفسه، لكن الضامن لكل هذا هو سيادة حكم المؤسسات وليس الأفراد والأشخاص، ولعل هذا ما دعا رئيس قضاة محكمة الولاياتالمتحدة العليا في زمانه جون مارشال إلى القول بأن “الحكومة المثلى هي حكومة القانون والمؤسسات لا حكومة الرجال والأشخاص”. فالتجربة التاريخية أثبتت مما لا يدع مجالا للشك أن الشخص أذا استفرد طغى وحكم بهواه وأصبح هو مصدر التشريع يبيح ما يخدم مصالحه ويحرم ما يشوش عليه ويضره، وبالتالي يصبح القانون لعبة بيد الفرد، سواء كان هذا الفرد شخصا ذاتيا أم كيانا اعتباريا يرضخ لنزوات التمييز والمحاباة، يخرق بها سلطة القانون وقاعدة المساواة الأخلاقية، ولعل هذا ما اهتدى إليه المقدوني باوسانياس، إذ قال” ينبغي أن يكون للقانون سلطة على البشر، لا أن يكون للبشر سلطة على القانون”، بحيث إذا أصبح القانون سلطة بيد الفرد يفقد بذلك معناه الوجودي وغايته التي يسعى إليها ويسمو بها. ومن الأمور التي تؤدي إلى الفوضى داخل المجتمعات عدم احترام القانون، أو توجيه القانون لخدمة مصالح طبقة دون أخرى، أو تطبيقه على الضعفاء منهم فقط، وهذا ما حاول المحامي لويس برانديز أن يبرر به خروج الأفراد عن القانون حين قال” أذا لم يكن القانون محترم فلا يستحق الاحترام”. ولب هذا الإشكال هو عدم تطبيق القانون على قدم المساواة، فلو احترم الجميع القانون، أمام الرقابة الشعبية ودستورية، بل وحتى أمام الرقابة الدولية، لكان احترامه واجبا أخلاقيا على الأفراد ناهيك عن الزاميته التي تستمد قوتها من الجزاء المقرون بمخالفته، وسيكون أكثر فعالية بين مكونات المجتمع إذا تم سنه من رحم الأمة على اعتبار أن القاعدة القانونية هي قاعدة اجتماعية، ليعتبر بذلك حقا وحقيقة أسمى إرادة عن تعبير الأمة. مما لاشك فيه أن الحقل القانوني غني و زاخر بالمواد والفصول والقواعد التي تكرس وتعزز العديد من القيم و بالخصوص”المساواة” لكن الخلل كما يقال هو في الأجرأة والتطبيق، فما قيمة النصوص على الألواح والصحف، دون جدوى على أرض الواقع، ولربما صعوبة الوصول إلى الكمال المطلق لقيمة المساواة يكمن فيما قاله زينون الرواقي من أن” المساواة من صنع الله والتمييز من الصنع البشر”، لكننا نقول أنه بالتطبيق السليم للقانون داخل دولة المؤسسات يمكن الوصول إلى نتائج محمودة عبر هذه القيمة. وسنقوم الآن بقراءة خفيفة لبعض المواثيق الدولية التي تعمل على تكريس مبدأ المساواة ضمن موادها وفصولها: أولا تجدر الإشارة إلى أنه من المسلمات التي لا يمكن أن يغفل عنها أي قانون في وقتنا الراهن هي التنصيص على مبدأ المساواة بين المواطنين كافة، فمن الخصائص المعروفة للقاعدة القانونية كونها عامة ومجردة أي من معانيها أنها تخاطب الجميع ولا تستثني أحدا. ولهذا نجد في الفقرة الأولى من ديباجة ميثاق الأممالمتحدة تكرس هذا المبدأ بنصها”…وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية…” كذلك في الفقرة الأولى من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة وأصدرته سنة 1948، يتم التنصيص فيها على مبدأ المساواة، حيث جاء نص الفقرة كما يلي:”لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم”، وفي نفس السياق تأكد المادة الأولى من نفس الإعلان على أن جميع الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء. و تردف المادة الثانية أن لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي…وتضيف المادة السابعة من نفس الإعلان كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا. هذا وللدلالة على أهمية قيمة المساواة الكبرى ومركزيتها في إطار احترام القوانين، نجد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ذكر كلمة المساواة أكثر من ثمانية مرات في سياقات مختلفة، كما نهى عن التمييز في العديد من الحالات وفي مواضيع مختلفة أكثر من خمس مرات، ولم يقف عند هذا الحد بل استحضر مصطلحات أخرى لها نفس الدلالات من قبيل “سواسية” و “التفرقة”، ولعل هذا ما يعزز لنا القول بأن أهم دعامة تستند عليها المبادئ الكونية لحقوق الإنسان هي المساواة، فلا قانون بدون مساواة ولا مساواة بدون قانون. و نجد المساواة حاضرة بقوة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وأيضا العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبذلك نكون قد مررنا على بعض قوانين الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وفي الأخير لابد من الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية السمحاء كانت سباقة، لترسيخ هذا المبدأ بين المسلمين وغيرهم بقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” سورة الحجرات الآية 13. ومن خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: ” يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لأدم وأدم من تراب، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى”. فالدين الإسلامي الحنيف حض على مختلف القيم الفاضلة، منها المساواة، ولنا في ذلك مواعظ وعبر كثيرة يضيق المجال هنا لذكرها، وهاهي معظم المواثيق الدولية تؤكد وتعزز هذه القيم بعدما مرت البشرية من أسوء الحروب دمارا وفتكا بالإنسان، ومعظم القوانين الداخلية تمتح من نفس المنهل، وكورونا بمثابة رسالة تذكير فهل من تطبيق. *طالب باحث