لقد اشتعل رأسه شيبا بفعل قضاء حياته في تربية وتعليم الأجيال، وظل طيلة الحصة يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، باحثا هنا وهناك عن دعم من الزملاء، هكذا قال لي أحد الأصدقاء الذين اجتازوا امتحان الكفاءة المهنية السنة الماضية وهو يصف خمسينيا في قاعة الامتحان. وتتحدث أخرى عن أحد زملائها وهو يخرج الأوراق تلو الأوراق من صدره وبطنه وظهره فيبعثرها فوق الطاولة رغم وجود الرقيب والعتيد، فيلتفت إليها وليسألها قائلا: “ما معنى الآليات؟”. لقد كانت كلمة “الآليات” حينها هي الكلمة المفتاح في الموضوع بدون استيعاب معناها تتبخر الفائدة من كل تلك الأوراق المبعثرة. ويقول آخر: لقد رأيت الزملاء وهم يبحثون عن معنى “إعلان” في هواتفهم، ولكن لغبائهم كتبوا كلمة “إعلان” جافة فظهرت لهم إعلانات في الرياضة والإشهار والسياسة والاقتصاد بعيدا كل البعد عن المجال المطلوب. إنها أمة التواطئ على الغش: غش الموظف وغش المراقب وغش بعض المشرفين حين يخونون الأمانة ويقومون بتسريب الأسئلة لأقاربهم أو أصدقائهم ليسهموا بذلك في أكل حق المتفوقين والمجتهدين على اعتبار أن عدد المناصب محدود. قبل نهاية السنة الجارية ستكون كل امتحانات الكفاءة المهنية في جميع الإدارات المغربية بجميع تخصصاتها وقطاعاتها قد تمت وانتهت، نجح من نجح، وتعثر من تعثر. أما المتعثرون الذين اجتازوا المباراة بشرف اعتمادا على ما جعبتهم من أفكار ومعلومات ومعرفة، وما يمتلكونه من مناهج في تحليل الموضوع، ولم يكتب لهم النجاح فنقول لهم: شاء الله لكم أن تستمروا في البحث والمعرفة وتتبع الجديد مما ينشر في تخصصكم، وفي هذا خير لكم ولإدارتكم ولبلادكم، وسيفيدكم حتما فيما هو مقبل من امتحانات مهنية ونرجو لكم كل التوفيق والسداد. وأما الذين نقلوا وانتقلوا، أو غشوا وزيفوا وزوروا، سواء استعانوا بهواتهم الذكية الأذكى منهم، أو حررت لهم أوراق في المقاهي والملاهي والحانات، أو ترك لهم المجالَ حارس معتوه ليستعينوا بما حملوه في جيوبهم من طلاسم، وكتبوه في أياديهم وأفخاضهم من أوساخ، أو عن طريق تواطئ مع بعض أعضاء اللجان من الذين لا يخافون الله ولا يعدلون؟ فنقول لهم: هنيئا لكم، لقد فزتم في امتحان الكفاءة المهنية وترقيتم في سلالم الوظيفة، ولكنهم سقطتهم في امتحان الرجولة، وامتحان الشرف، وامتحان الكفاءة، وامتحان المصداقية، وحب الوطن والأنفة والمروءة. لقد فزتم بأرطال من اللحموم المسمومة ستدخلونها سحتا في أفواه أبنائكم، وفزتم بديكورات جديدة وضعتموها في أركان منازلكم ستكون شاهدة يوم القيامة عليكم، وفزتم بإرجاع وطنكم وأمتكم آلافا من الأميال إلى الخلف في سلم التخلف والهوان فهنيئا لكم، لقد فزتم بمنهج جديد أدخلتموه إلى حياتكم: فماذا ستقولون عندما يغش أبناؤكم؟ هل ستحرمون عليهم شيئا أبحتموه لأنفسكم؟ أم ستمنعوهم مما أجزتموه لذواتكم؟ ألم تفكروا لحظة بأنكم ستظلون هكذا طول حياتكم تأكلون أموالا ليست من حقكم؟ وتنعمون بترقية ليست من نصيبكم؟ وتتصرفون في أموال هي في الحقيقة ملك لغيركم؟ وحتما ستكون يوم القيامة وبالا وحسرة عليكم؟ لن تخبرونا عن نزاهتكم عندما نراكم في شبابيك أقسامكم، لأننا لن نصدقكم، ولن تحدثونا عن الأمانة والأخلاق والنزاهة لأنكم فقدتم كل ما بقي من نزاهة في مساركم، ولن نصدقكم حتى ولو رأيناكم معلقين بأستار الكعبة تجهش بالبكاء مقلكم. فلا تستدعونا عندما تحتفلون زورا بنجاحكم، لأننا لن نأتي لأننا نخشى أن يصيبنا بعض من علقم وسحت أطعمتموه ظلما لفلذات أكبادكم، إننا لن نعبأ بوجودكم بيننا لأنكم بكل بساطة ذبحتم إدارتكم كما ذبحتم أنفسكم وكل ما تبقى لكم من بصيص شرف في حياتكم. فإن لازال فيكم نبض من مروءة قد بقي ملتصقا بأرنبة أنوفكم؟ أو بصيص من شرف بقي عالقا في نواصيكم؟ فردوا المناصب إلى أصحابها، وشمروا من جديد على سواعد الجد فإن الوقت لا زال يسمح بتحري الحلال وحفظ الأسرة والأبناء واجتناب غضب الله. فهل أنتم فاعلون؟؟