بداية ينبغي الانطلاق من محاولة تحديد المقصود بالعنف، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود مفاهيم متعددة لتعريفه انطلاقا من العوامل المنتجة له والظروف المحيطة به، ومن خلال سياقه الزمني. ويذهب المدلول المتعارف عليه إلى اعتباره سلوكا يحاول فرض النفوذ والتسلط أكثر من ارتباطه بالقوة والتفوق بين الأشخاص الذين يتخلون عن اللجوء إلى أساليب أخرى متاحة لاحتواء النزاعات والحث على حل الخلافات بطرق سلمية بعيدة عن الوسائل العدوانية التي تؤدي إلى الحط من كرامة الشخص. وتشير الممارسات المختلفة للعنف إلى إحداث الضرر بالأشياء والممتلكات والقيم، وقد يصل الأمر إلى إنهاك حياة الأشخاص وتدمير ذواتهم عند إبدائهم المقاومة ضد تصرفات المعتدي. لذا فالعنف يبدو كأنه أسلوب خاص ووحيد لحل النزاع لدى البعض، لكونهم يرفضون اللجوء إلى وسائل التواصل المتاحة بين البشر، كالحوار المباشر أو الوساطة، والإقناع والتشاور، وقبول النقد بسعة الصدر. فهو عدوان صريح في شكل اعتداء جسدي أو تهديد بالسلاح ويمكن أن يكون مقنعا في شكل تخويف وتهديد وإكراه، يسعى إلى إخضاع الغير لإرادة ونزوات المعتدي، وينبغي التمييز بينه وبين الإكراهات الاجتماعية التي يكون هدفها حماية الأشخاص تطبيقا للنظم والقوانين. ومما ينبغي الإشارة إليه أن العنف كان حاضرا في جميع المجتمعات وعلى مر العصور، وإن اختلفت درجة حدته، فهو ملازم لوجود الإنسان، وكوّن إحدى العلاقات بين بني البشر جنبا إلى جنب مع التعاون والتفاهم، وهو كامن في عمق الطبيعة البشرية، وقد يتحول بحسب الظروف إلى عدوان (هجوم، اعتداء) مباشر وموصوف. ويذهب الكاتبان الفرنسيان المختصان في علم الاجتماع التربوي، فيرونيك بيدان Véronique Bedin و جان فرانسوا دورتيي (1956)Jean François Dortier في كتاب “العنف ومجتمع اليوم” Violence(s) et société aujourd'hui إلى التأكيد على أن العنف يخترق الزمن والثقافات والطبقات الاجتماعية، وكلما حاولنا احتواءه، إلا واتخذ أشكالا أخرى. وهو اليوم حاضر على جميع الواجهات، وأصبح يثير شهية وسائط الاتصال على مختلف أنواعها. ويقول الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679) في هذا الصدد بأن الإنسان ذئب بالنسبة للإنسان. والعنف يتخذ أوجها متعددة ومترابطة، تتنوع حسب المجتمعات وعبر الزمن والسياق التاريخي. نذكر من بينها : العنف اللفظي والبدني والجنسي والنفسي انطلاقا من مجرد الإهمال والتقصير إلى الإهانة القوية، والعنف الممارس على الذات (ذات الشخص) أو أفراد عائلته، والعنف الجماعي، والانتحار. ثم العنف في أوساط الشغل، العنف السياسي المتعلق بالجريمة والعقاب، والعنف ضد الأصول، ومن الانحراف البسيط إلى الإجرام، والعنف في المدارس. وهذا الأخير هو موضوع الحديث الذي نريد تناوله. وتعتبر المدرسة الحديثة بوابة لفتح آفاق المستقبل، وتحقيق أهداف وطموحات الأجيال، من حيث التربية والتهذيب والتكوين المعرفي والتطلع للرقي المادي والمعنوي والارتقاء الاجتماعي لتحصيل حياة أفضل، لذا ينبغي تحصينها مما يمكن أن يشوبها من معوقات تؤدي بها إلى الانحراف عن رسالتها المجتمعية، ودورها النبيل لبناء جيل متشبع بقيم المواطنة. وتتطلب التربية الحديثة تكوين الطفل من الناحية الجسمانية كما الفكرية، بتقويم وتطوير المكون الثقافي والمعرفي لديه، وكذلك بنيته الجسدية بالتكوين السليم لتنمية قدراته البدنية، كما يتطلب العمل على إنماء التربية الروحية، لمساعدته على إبراز مكانته وتفتق مواهبه الفنية والإبداعية وتوفير الحرية اللازمة لذلك عن طريق التشجيع الإيجابي، وإغلاق باب العنف بكل أشكاله. وهذه عوامل أساسية ستمنحه الثقة في النفس وتحفزه على الدراسة، والاطمئنان لوسطه المجتمعي لكي يتمكن من بناء شخصية قوية، ويتعلم بذلك كيف يتحمل المسؤولية بالتدرج ويختار دوره عن قناعة في وسطه العائلي دون خضوعه لسلطة الإكراه. كما تترسخ لديه قيم الاحترام دون تمييز بين الطفل والفتاة. إلا أنه مع الأسف الشديد فقد أصبح يلاحظ تنامي العنف في الوسط التعليمي بوثيرة متزايدة. أنواع العنف إذا كان المفهوم المتداول للعنف يختصر في كونه استخدام القوة من طرف شخص للسيطرة على شخص آخر أو أشخاص آخرين، فإن العنف المدرسي يتخذ صفة اعتداءات وردود فعل، سواء بين المتعلمين أو يمارسه الأستاذ في حق التلميذ، أو العنف الذي يوجهه المتعلم إلى أحد الأطر التربوية والإدارية. يتجلى العنف في مظاهر عديدة تتنوع حسب المجتمعات وعبر المراحل التاريخية. وتعرف المدرسة المغربية أنواعا متعددة، منها الرمزي واللفظي والجسدي والنفسي. العنف المدرسي مثل باقي أنواع العنف المجتمعي، ليس وليد اليوم، فقد عرف منذ قدم الزمن، وكان سلوكا عاديا لا يثير الانتباه، ويدخل ضمن المنظومة التعليمية ولا ينفصل عنها. فقبل دخول الاستعمار كان التعليم العتيق في المسيد هو السائد واستمر خلال فترة الحماية مع ظهور نواة المدرسة العصرية التي يقتصر ولوجها على أبناء الأعيان وبعض الفئات الشعبية القليلة، وكان التعليم مبنيا على تعنيف التلاميذ في المسيد وبدرجة أقل في المدرسة العصرية. عرف التعليم التقليدي الفلقة والضرب المبرح بالعصا، وكانت قولة مشهورة يرددها والد التلميذ للمدرس ” أنت أقتل وأنا أدفن” وهناك إشارة صريحة في رواية الكاتب المغربي أحمد الصفريوي (1915 – 2004) المقررة في التعليم الثانوي “صندوق العجائب” La boite à merveilles لاستعمال الفقيه للعصا خلال حصة التدريس. وهذا الوضع أنتج مواطنا خانعا ومسالما، يتعلم الخوف قبل أن يتعلم القراءة والكتابة، وتتكون لديه شخصية منحطة. إلا أن ما ميز هذه الفترة عن الزمن الحالي، كان العنف يمارس من جانب واحد ويمتاز بالغلبة والاستقواء وتسانده أسرة المتعلم ويتقبله المجتمع. أما ردود فعل التلميذ، أو الدفاع عن نفسه، فلم تكن سوى حالات نادرة ومنبوذة من المجتمع، وتنتهي بفصله عن الدراسة تفاديا لانتشار العدوى، بدل البحث عن حلول تضمن سير العملية التربوية بطريقة عقلانية توازي ما بين التكوين المعرفي وتقويم السلوك. يحصل هذا رغم أن بعض نصوص المقررات في المدرسة العصرية كانت تتعرض لحماية الطبيعة وتنص على عدم إيذاء الحيوان والطيور. العنف اللفظي والنفسي الممارس بين التلاميذ أنفسهم أو بينهم وبين المدرسين والذي غالبا ما يؤدي بالتلاميذ الذين يتعرضون للإهانة إلى مغادرة الدراسة. التحرش الجنسي والتمييز الذي تتعرض له البنات وحتى بعض الذكور ذوي البنية الضعيفة أو الإعاقة، وقد تمارس عليهم الضغوط بمنحهم نقطا موجبة للسقوط، وبالتالي طردهم من الدراسة. بعض حالات الاغتصاب، وهي حالات منفردة تقع داخل المدارس، واعتراض سبيل الفتيات، وحتى بعض الذكور ضعيفي البنية الجسمية، في طريق العودة من المدرسة، وخاصة بعد الحصة المسائية عند سقوط الظلام وبُعْد المسافة بينها وبين مقر الإقامة، وغياب توفر النقل المدرسي. الاستهزاء بالتلميذ والسخرية من آرائه من طرف بعض المدرسين، بالإضافة إلى النظرة التربوية التقليدية المتخلفة التي تجعل من المدرس سلطة قامعة للتلميذ. وأيضا عدم مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ في الاستيعاب والفهم لتفاوت المدارك داخل نفس المجموعة، وإهمال أولئك الذين يجدون صعوبة في تتبع المناهج الدراسية. إذا كانت العقوبات التي يمارسها أساتذة التعليم الابتدائي تتميز في غالبيتها باستعمال الطرق الترهيبية العتيقة ودون الأخذ بعين الاعتبار مستوى المدارك العقلية والخصائص النفسية للطفل، فإنها تترك أثرا يبقى عالقا بالذاكرة، أو “الذاكرة الموشومة” بتعبير السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي (1938 – 2009)، والتي تتنوع أساليبها والطريقة السادية التي تمارس بها دون وازع ضمير أو رأفة بطراوة أعضاء الطفل التي ما تزال في طور النمو، منها : – الضرب باليد أو بأداة : مسطرة، أنبوب مطاطي، عصا خشبية، الصفع والركل، جر الشعر والأذنين، وتستمر ممارسة بعض هذه العقوبات حتى في الثانوي الإعدادي. – العقاب الجماعي في حالة عدم التعرف على مرتكب مخالفة داخل المؤسسة، وامتناع زملائه التبليغ عنه. – التحقير والحط من كرامة التلميذ ووصفه ببعض الأوصاف القدحية التي تثير الاستهزاء أمام أقرانه، أو إطلاق لقب عليه يتميز بوصمة أو عاهة لديه، أو حرفة وضيعة يمارسها أحد أبويه. – المنع من حضور حصص الدرس، أو الطرد خلال الحصة. والتهديد بالرسوب، وهناك من يقوم به فعلا. – التفريق في المعاملة بين التلاميذ لاعتبارات تمييزية ولاأخلاقية. – تمزيق كتب ودفاتر التلميذ. – حركات الإضراب والاحتجاج التي يقوم بها التلاميذ في بعض المناسبات، ويشارك فيها عناصر من الجانحين غير الممدرسين، وتحدث أعمالا تخريبية لممتلكات المدرسة، وقد تمتد لتدمير ممتلكات عامة وخاصة بالفضاء العام لتفريغ شحنات زائدة من الطاقة. – عمليات السرقة بلجوء بعض التلاميذ إلى سرقة أدوات زملائهم، وقد تتطور هذه الآفة لتمتد إلى بعض الأدوات البيداغوجية بالمدرسة، وقد تستمر لتنمو مع الطفل ويتعود عليها ما لم يتم تقويم سلوكه بعد التعرف على الأسباب التي دفعته للالتجاء إلى مثل هذه الأفعال. – التنمر أو التخويف l'intimidation وهو سلوك عدواني يقوم فيه المتنمر بالإساءة بكل الأشكال المتاحة أمامه للطفل الضحية. يمارسه أشخاص أكثر قوة على آخرين أصغر حجما، باستعمال العنف الجسدي أو الاحتقار أو التهديد، وذلك رغبة في فرض سيطرته على الآخرين، وغالبا ما يكون المتنمر يعاني من حالة نفسية تسمى “الشخصية المضادة للمجتمع” ويحاول شغل (منصب عصابة). هذه بعض أنواع العنف الذي تتكرر ممارسته على التلاميذ في مراحل الطفولة والمراهقة إلا أن الإحصائيات المتعلقة به تبقى محدودة، وغير معروفة بالكامل، والمعلومات المتاحة يمكن استنتاجها من أبحاث جمعية أطفال 2001، ووزارة التربية الوطنية من قبل المدرسة العليا لعلم النفس (إحصائيات 2005) بتعاون مع منظمة الأممالمتحدة لرعاية الطفولة اليونيسف. وقد أشارت هذه المؤسسات إلى استفحال العنف الممارس على الأطفال بالمغرب، واستمرار اللجوء إلى العقوبات البدنية رغم منعها رسميا. الدراسة التي قامت بها المدرسة العليا لعلم النفس بتجميعها من التلاميذ والمدرسين والآباء تشير إلى أن %87 من التلاميذ عوقبوا بدنيا داخل المدرسة، وأن %60 تم ضربهم بواسطة أنبوب مطاطي أو مسطرة أو عصا خشبية، و44% ضربوا على أيديهم وأرجلهم، و%35 تلقوا ألفاظا عنيفة. وهذه المعاملات القاسية كلها لم يتم التبليغ عنها من طرف التلاميذ الضحايا. كما أن انتشار هذه الممارسات العنيفة تم إقرارها من طرف المدرسين، حيث أن %73 منهم أعلنوا بأنهم لجأوا إلى العقوبات البدنية. ومن جهة أخرى صرح %33 من المديرين أنهم يلجأون إلى ضرب التلاميذ. كما شارك الآباء في هذه العملية حيث أعلن %61 منهم بضرب أبنائهم، و%37 استعمل الضرب باليد والركل بالرجل. وأشارت وزارة التربية الوطنية بناء على إحصائيات تم تجميعها عن طريق “بوابة مرصد” أنها سجلت 86 حالة عنف برسم السنة الدراسية 2016 – 2017 من بينها 47 حالة بين التلاميذ مع بعضهم البعض، و19 بين المدرسين والتلاميذ، والحالات الأخرى قام بها أشخاص غرباء عن المؤسسة التعليمية. بناء عليه فإن العنف لا يزال يتمحور كوسيلة لا مفر منها في تربية الأطفال لاستمرار مستعمليه من الآباء والمدرسين رفض قبول الاختلاف ووسائل التواصل والحوار، والاعتراف بحقوق الطفل بمنحه التربية السليمة التي تساهم في تكوين فكره وجعله متمتعا بنفسية سوية. أسباب العنف وتطورها والآثار المتربة عنها يرجع المحللون المختصون في علم الاجتماع التربوي تفشي العنف داخل المؤسسات التعليمية إلى أسباب متعددة من بينها : – الأمية التي لا تزال مستفحلة في أوساط الأسر المغربية، وبالخصوص الأمية المعرفية، مع ضعف البرامج التحسيسية التي يبثها الإعلام لتوجيه الآباء نحو تربية الأبناء بالطرق الحديثة التي تبني السلوك القويم، وبالتالي يتم توسيع الهوة بين ما يتلقاه التلميذ داخل الفصل الدراسي، وما يتعود عليه في البيت، الشيء الذي يخلق تشويشا على تفكيره. – انعدام التواصل بين الأسرة والمؤسسة التعليمية الذي ينبغي أن تقوم به جمعية الآباء باعتبارها ممثلا للأسر، وتلعب دور الوسيط بينها وبين المؤسسة التعليمية والقطاعات التي لها ارتباط بها. – افتقار أغلبية المدرسين للتكوين البيداغوجي والمستمر الذي يراعي قواعد النمو السليم، ويهتم بحاجيات التلاميذ وإمكانياتهم لاستيعاب المعلومات. وأيضا التدريب على طرق تدبير التعامل مع ذات المشاغب، مع التركيز على أن هذا التعامل لا ينبغي أن يكون عفويا، وإنما يكون مبنيا على قواعد ومعرفة، ويتعامل مع الوضعية بكيفية ممتهنة. – عملية الإسقاط التي يقوم بها المدرس على الطرف الضعيف في العملية التربوية أي التلميذ، نظرا لضغوطات الحياة الاجتماعية والسياسية وظروفه الاقتصادية. – الواقع المجتمعي العام الذي تطغى عليه ثقافة اللاتمدن المتمثلة في العنف. – الظروف المهنية والصحية غير المريحة داخل المؤسسة التعليمية – واقع الفضاء العام الذي يعج بثقافة اللاتمدن المتمثلة في العنف اللفظي مثل استخدام أبواق السيارات دون حاجة، واستعمال ألفاظ بذيئة مع الرفع من نبرة الصوت والصراخ لمحاولة فرض الذات في التعامل بدل الحوار المقنع، وأيضا اللجوء إلى العنف الجسدي، وهي مظاهر أصبح لها انعكاس على المدرسة التي من المفروض أن تقوم من خلال برامجها ومدرسيها بمحاربة هذا السلوك وتقويم سلبياته. – ضعف الممارسة الديمقراطية داخل المؤسسة من حيث التعامل العادل بين التلاميذ، والتفرقة في المعاملة بينهم بناء على الطبقية أو المعارف. – الضغط الممارس على التلميذ من خلال تكدس الواجبات المدرسية دون مراعاة العامل الزمني بطريقة معقلنة أثناء برمجة التوزيع السنوي. – عدم وجود انسجام داخل العائلة، والإهمال الأسري، وتعاطي الوالدين أو أحدهما للسكر أو المخدرات. واعتبر علماء التربية هذا السبب من أهم أسباب العنف وتولده لدى الأطفال. – الشعور بالنقص لدى بعض الفئات من الأطفال كالأيتام والأبناء غير الشرعيين وعدم حصولهم على الرعاية والعطف مما يولد لديهم شعورا بالحقد على مجتمعاتهم. – الإعلام المرئي نظرا لكثرة ما يقدمه من أفلام الرعب وتعظيم أبطال المشاهد التي تمجد المغامرة والقوة، وتأثيره على الأطفال لعدم اكتمال النضج الفكري لديهم. – تدني الوضع المعيشي للأسرة مع كثرة عدد أفرادها، وعدم قدرة الوالدين على تلبية حاجياتهم الأساسية مقارنة مع أقرانهم الذين يوجدون في وضع مادي أحسن، مما يدفعه إلى الإحساس بالحقد. – الجو غير المريح في علاقة التعامل بين المدرسين والإدارة، وبين المدرسين أنفسهم، وكذلك فيما بينهم وبين التلاميذ. – الغياب المتكرر للمدرسين، سواء بمبرر أو بدونه، وعدم توفر المؤسسة التعليمية على الإمكانيات الضرورية لتكليف من ينوب عنهم بإعطاء مديرها صلاحيات تدبير شؤونها المادية بالسرعة المطلوبة تفاديا لهدر الزمن المدرسي وضياع الحصص الدراسية (احتجاج أساتذة التعاقد خلال السنة الدراسية 2018- 2019 وانعكاساته السلبية على التحصيل الدراسي). يحدث العنف أضرارا ومخاطر جسيمة للأفراد والمجتمعات، ويكون تأثيره على الأطفال والمراهقين أكثر نفوذا، بحيث يؤدي إلى نقص في الإدراك المعرفي والتحصيل الدراسي، وتحطيم الحوافز والتطلعات التي يصبو الطفل إلى تحقيقها. هذه العقوبات المطبقة على التلاميذ بطريقة لاتربوية ومنافية للتعليمات والنظم البيداغوجية تخلف آثارا نفسية عميقة لديهم، ويكون مفعولها قويا يلازمهم طوال حياتهم. وقد يفجرها البعض على غيرهم عندما يمتلك القوة البدنية، في شكل ردة فعل قوية يطلق عليها التحليل النفسي مصطلح ” إسقاط الصراعات اللاواعية ” (projection des conflits inconscients)، ويلاحظ هذا ابتداء من مرحلة التعليم الثانوي التأهيلي في مواجهة مدرسيهم وأطر الإدارة. بينما يفضل آخرون تجنب المماحكة، ويلجئون إلى الغياب عن الحصص التي يسيء مدرسوها معاملتهم. وقد يصل الحال ببعضهم إلى الانقطاع عن الدراسة، كما ينجرف آخرون نحو السلوكات المنحرفة كتعاطي التدخين والسرقة أو الإدمان على المخدرات والسكر. وأيضا تتجلى أثار العنف في الأعمال التخريبية التي تتعرض لها تجهيزات المؤسسة من الكتابة على الطاولات وتكسيرها، وتخديش السبورات، وسرقة الأدوات البيداغوجية، وكتابة عبارات نابية على الجدران تدين الأساتذة وتخدش الحياء. وهناك أبحاث تشير إلى أن ممارسة العنف على الأطفال تؤدي إلى الإصابة بالعديد من الأمراض ولو على المدى المتوسط أو الطويل، منها المغص والصداع والربو، وضعف المهارات الاجتماعية، والعزلة والتهميش. ومنهم من يصاب بالحمق وانفصام الشخصية. كما يتعرض الطفل للأحلام المزعجة كالكوابيس المتكررة والخوف والتبول اللاإرادي. ومن جهة أخرى قد تحدث آثار العنف تكاليف اقتصادية تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية، وخسارة مادية بأداء تكاليف العلاج في حالة الإصابة بجروح أو كسور أو إيذاء نفسي، بالإضافة إلى مصاريف الدعاوي المقامة لدى المحاكم. وقد ينتقل العنف بين الأجيال لاتسام بيئته بالعدوى، وهو يسبب جوا من القلق والتوتر في المجتمع، ويخلق للأفراد عادات تتجه بهم نحو الانحطاط والكسل وتعطيل المصالح، وتبني الأفكار العدمية. مقترحات للحد من العنف نظرا للوضعية الصعبة التي يحدثها العنف على الناشئة وسريان آثارها السلبية في المجتمع، أصبح من الضروري تكاثف الجهود بين كل الأطراف المعنية بالجانب التربوي سواء من الأطر التعليمية والأسر وجمعيات المجتمع المدني، وخاصة جمعيات آباء وأولياء التلاميذ، للبحث عن حلول ناجعة للحد من الانتهاكات الخطيرة لبراءة الطفولة واليافعين، ومن بين ما ينبغي اللجوء إليه : – محاربة الأسباب والعوامل المجتمعية والنفسية والمهنية السلبية باعتماد مشروع تربوي شامل ومتعدد التدخلات. – احترام كرامة التلميذ وإنسانيته ككائن حر ومستقل مع توجيهه التوجيه السليم، ومنحه الرعاية والحنان، وضمان حقوقه وحمايتها من الانتهاك، – الامتناع تماما عن ممارسة العنف الجسدي والنفسي واللفظي بكل أنواعه. – التعريف بحقوق الإنسان الأساسية وخاصة اتفاقية حقوق الطفل بإقامة اللقاءات وحملات التوعية الإعلامية، وتحسيس الأسرة وخاصة الأم بتتبع وحماية حقوق طفلها في الحياة والحرية والاحترام، مع استخدامه في مواضعه. وتشجيع التلميذ بتبليغ الأسرة عن الاعتداءات التي يتعرض لها في حينها وعدم التستر عنها. وأيضا تذكير المدرسين بواجباتهم التربوية مع حق التلميذ في الاختلاف في الرأي، والتعامل معه في إطار الحوار الهادئ المتعقل دون تعصب، – العمل على زيادة الوعي الديني والأخلاقي والتربوي لكل من المدرسين والمتعلمين. – توفير وسائل الترفيه السليم والنافع وبحد معقول داخل المؤسسة التعليمية وفي محيطها، وفي مختلف الأحياء السكنية لامتصاص شحنات الطاقة الزائدة لدى الأطفال والشباب واستخدامها فيما يعود عليهم بالنفع. – تعزيز وتقوية المنظومة التشريعية التي تضبط التعامل مع الناشئة، وإشراك ممثلي التلاميذ في تهيئ النظام الداخلي للمؤسسة التعليمية وتحيينه سنويا لتحديد المسؤوليات. وقد نص القانون الإطار الصادر بتاريخ 19 غشت 2019 في المادة 26 على ضرورة وضع ميثاق يحدد حقوق وواجبات المتعلم، ويوضع رهن إشارة كل متعلم. – تنظيم ورشات لتدريب المدرسين على كيفية حل المشكلات النفسية والاجتماعية المترتبة عن مرحلة الطفولة والمراهقة، وجذب التلميذ للمدرسة بأسلوب الترغيب وليس الترهيب. وجعل المدرسة فضاء محبوبا للتلاميذ عن طريق إدماج أنشطة متنوعة، كالرياضة والمسرح والموسيقى والشطرنج وإقامة أندية السينما والقراءة والرسم والنحت والتربية على الجمال وغيرها، كفترات فاصلة تتخلل المقرر الدراسي للتخفيف من حدة الإرهاق الذي يحدثه لهم. وإعداد الخزانات المدرسية وتجهيزها بالكتب والمراجع، وتهيئ الظروف المريحة للمراجعة والمطالعة، وإنجاز البحوث، وتكليف إطار مختص في التسيير والتنشيط المكتبي. – تفعيل أدوار جمعيات الآباء باعتماد المقاربة التشاركية مع المؤسسة التعليمية ومحيطها الخارجي، والتنسيق بين الأسرة والمدرسة عن طريق القيام بالأنشطة التربوية والثقافية والاجتماعية المشتركة، ولعب دور الوساطة لربط علاقات التواصل بين التلميذ ومحيطه الاجتماعي عن طريق الحوار والتشاور في محاولة فهم مشاكل التلاميذ، وتحسيس الأسرة للقيام بدورها التربوي في تنشئة أبنائها، وتعميم خلايا ومكاتب الإنصات والاستماع ولجن اليقظة داخل المدرسة، وتنظيمها في إطار جمعيات تعمل على تشخيص وضعية التلاميذ النفسية والاجتماعية، وعلى الخصوص منهم ذوو الحاجات الخاصة، وفهم معاناتهم اليومية داخل محيطهم التربوي والاجتماعي لجمع أكبر عدد ممكن من المعلومات حول التلميذ من أجل استثمارها، ومساعدته على تخطي الصعاب التي تعترضه خلال مساره الدراسي. – تنبيه الآباء لمراقبة الإعلام الذي يدخل بيوتهم دون استئذان، ويؤدي إلى تكوين التلميذ المراهق على العنف، بما في ذلك ما ينشر على شبكات التواصل الاجتماعي. – إعادة النظر في إدماج تلاميذ الاستعطاف من حيث تقديم الدعم النفسي لهم، وتتبع مسارهم الدراسي والسلوكي، ودراسة أسباب انقطاعهم لمساعدتهم على العودة إلى التأقلم والانضباط مع وضع المدرسة الذي يتغير بصعود تلاميذ يصغرونهم سنا. – إعادة النظر في المجالس التأديبية، وتغيير أنواع العقاب، وإقرار عقوبات بديلة بإلزام التلميذ بالقيام بخدمة لصالح المؤسسة، بحيث تكون ذات جدوى ردعي وتربوي، ومحاولة إشراك التلميذ المشاغب في منع العنف. – الاهتمام بمنظر بناية المدرسة العمومية والاعتناء بفضائها بما ينمي الحس الجمالي والفني لدى التلاميذ والمدرسين. – مراعاة عامل الأخلاقيات خلال عملية توظيف المدرسين وتعيين أطر الإدارة التربوية، وتكوينهم على طريقة وكيفية التعامل النفسي والبيداغوجي للتلميذ مع ضرورة تجديد معارفهم عن طريق التكوين المستمر، والتثقيف الذاتي، ومواكبة ما يصدر من أبحاث، وذلك وفق المنظومة التربوية التي تراعي تنمية القيم الحداثية وصيانة حقوق الطفل. – برمجة أيام دراسية منتظمة طوال السنة الدراسية للتحسيس والتوعية للحد من ظاهرة العنف داخل المؤسسة تشارك في تأطيرها هيئة التدريس وجمعيات الآباء وتدخلات التلاميذ للبحث عن الحلول المستنتجة من واقع المدرسة والمحيط الأسري والاجتماعي. والتخطيط لهذه العملية ضمن المنظومة التربوية التي تشرف عليها المديريات الإقليمية للتربية، وتسهر على تنفيذها المؤسسات التعليمية. ويشار إلى أن وزارة التربية الوطنية في المغرب قد أصدرت بعض المذكرات والتوجيهات للتصدي لظاهرة العنف المدرسي. وبهذا الصدد عممت الوزارة المذكرة عدد 14-867 بتاريخ 17 أكتوبر 2014 في شأن تبديل عقوبة التوقيف المؤقت عن الدراسة التي يتخذها مجلس القسم ضد التلاميذ غير المنضبطين، بعقوبات ترتبط بالتربية والتهذيب في محاولة منها لعدم حرمانهم من الحصص الدراسية. كما أشارت إلى ضرورة القطع مع العقوبات البدنية. هذه المذكرة أثارت جدلا كبيرا في الأوساط التعليمية. ثم أعقبتها المذكرة الوزارية عدد 15 – 002 بتاريخ 09 يناير 2015 حول التصدي للعنف والسلوكات المشينة بالوسط المدرسي. هذه المذكرة بعد أن أشارت إلى العنف الممارس في حق التلميذات والتلاميذ وتأثيراته التربوية والجسدية والنفسية والسلوكية والصحية والاجتماعية للمتمدرسين، نددت بكل الممارسات العنيفة سواء التي تطال المتعلمين من طرف مدرسيهم أو تلك التي يتعرض لها أفراد هيئة التدريس بمناسبة القيام بمهامهم. كما أكدت على ضرورة تفعيل الأندية والوحدات المدرسية المتمثلة في مجالس المؤسسات، ومراكز رصد العنف بالوسط المدرسي، ومراكز الاستماع والوساطة، وخلايا اليقظة، كتدابير للوقاية والحد من العنف ضد المتعلمين. ثم صدرت المذكرة الوزارية عدد 17 – 116 بتاريخ 07 نونبر 2017 في موضوع : التصدي للعنف بالوسط المدرسي. اعتبرت هذه المذكرة العنف سواء الممارس في حق التلميذات والتلاميذ، أو في حق الأطر الإدارية والتربوية العاملة بالمؤسسات التعليمية، سلوكا سلبيا ومنبوذا بكل المقاييس التربوية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية، ويتعين التصدي الحازم له بمختلف التدابير المتاحة.. هذه المذكرة أشارت إلى سابقتها الصادرة بتاريخ 09 يناير 2015 كمرجع وسارت في نفس منحاها، ولم تتطرق لتلك التي نصت على إقرار عقوبات بديلة عن التوقيف المؤقت، وربما جعلتها لاغية المفعول، وأكدت على ضرورة اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان حسن سير الدراسة والنظام، والتزام الإدارة بتوفير الحماية لموظفيها. وقد أحدثت الوزارة لنفس الغرض المركز الوطني لمناهضة العنف بالوسط المدرسي بتعاون مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، من أجل تقويم قدرات المكونين، وهم الأطر التي لها علاقة بأندية المواطنة والدفاع على حقوق الإنسان، وأصدر دليلا للمدرس، ودليلا للتربية على المواطنة. وهناك نصوص كثيرة صدرت في السابق ضمن مذكرات وزارة التربية الوطنية، في إطار المجهودات المبذولة سعيا للحد من ظاهرة العنف، إلا أن النتائج المحصل عليها تبقى دون المستوى المطلوب، مما يتطلب دراسة تشخيصية معمقة مع إشراك جميع الفعاليات التي لها ارتباط بالعملية التربوية للعمل سويا على إنجاح ورش تقويم السلوك داخل المؤسسات التعليمية بكيفية مستمرة. وأخيرا فالقانون الإطار رقم 17.51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، الصادر بتاريخ 19 غشت 2019 يتضمن فقرات تدعو إلى إنجاز برنامج لتأهيل مؤسسات التعليم عن طريق الاهتمام بظروف المدرسين، والعمل على إقامة وتطوير وحدات الدعم النفسي وخلايا الوساطة ووضع برامج للتحسيس لفائدة المتعلمين. * كاتب وباحث