بمزيد من العناد، تعيد تركيب صورته المشوشة في ذهنها، وكأنها أمام لعبة البوزل، تسترد ذكرياتها معه بنوع من الإجهاد، هل لأنها رأته صدفة؟ لا تعلم، ولا تعلم إن كانت رؤيته حركت شيئا ما بداخلها، وهل أربكها الصمت عندما تلاقت أعينهما للحظة، كما لا تعلم إن كانت قد سمحت لأمواج الانفعالات أن تهز صدرها، وهل أخبرته بهذا أنه استطاع أن يزرع الفوضى داخلها بعد مغادرته. ما تعلمه أن سنوات طويلة مرت على رحيله، طولها لم يترك للوم والعتاب مكانا. كانت تكتفي بالسؤال: هل كان ذلك الحلم طائرا مقصوص الجناحين، وهل كان ذلك الحب رقصة سكر سرعان ما فقدت مفعولها بعد أن طلع النهار. تراها قد نسيته؟ لا، لم تنس أنه كان بخيلا بالوعود، لكنه وعد بأن يملأ كأسها بالحياة. تمسك طفلها الرضيع، تهدهده، تنظر إلى الرجل النائم بجانبها، لا شبه بين هذا وذاك إلا بالهجر. بعد رحيله كانت تفكر فيه وهي تنظر إلى عيني زوجها دون أن تخشى من أن تشي ملامحها بلحظات العشق التي كان خيالها يتفنن في خلقها. هل كان ذلك الحبيب الغائب السبب في تبديد ابتسامتها وغياب بريقها؟ هل هو من جعل كل الأشياء بمذاق واحد؟ لقد جعلها غيابه امرأة قادرة على الارتفاع، امرأة تخرج للتحليق ليلا وتعود قبل أن يستدير زوجها إلى الجانب الآخر، امرأة تسممت بالوحدة والصمت، وجعلت من حياتها غرفة ضيقة، عالية الجدران، لا نوافذ تطل بها إلى العالم، لكنها كانت وكأنها تعيش في الخفاء حياة مغايرة، كأنها تمشي في مدينة فارغة دمرتها الحرب، كأنها تحاط بالنار ولا تحترق، وكأنها من فرط شساعة عالمها تمنت أن تحتويها تلك الفرقة الضيقة شرط أن يغمرها الحب.