هبة… بتأثر كبير ممزوج بخجل صادق منك، و بقلب يعتصره ألم شديد، لك مني كل الدعوات بالرحمة و جنة الخلد. غادرتنا في مشهد دراماتيكي يفوق الوصف، وأنت الآن حيث لا تضيع حقوق، و لا يُحرق أطفال، و لا يموتون بلا سبب، و لا يُظلمون. أنت ملاك في جنة من رحمته وسعت كل شيء. لن تشعُري بوحشة و لا بغُربة. ستجدين كرما لم يستطع أحد منحه إياك هنا. و ستصادفين أرواحا طاهرة لشباب و أطفال مغاربة سبقوك إلى هنالك، بعد أن لم يجدوا، من بعض مواطني هذه الأرض و من بعض مسؤوليها، ما يستحقونه من عناية و رعاية و اهتمام و حماية. ستجدين أطفالا التحقوا بالرفيق الأعلى لأنهم كانوا هنا عرضة للاغتصاب، أو أهملوا حتى أصبحوا ضحايا للاتجار في البشر وتعاطي المخدرات، أو طالهم العنف و القتل المجاني. ستجدين رُضعا ماتوا، قبل أسابيع و أشهر، لأن قطاعا حكوميا من المفروض أنه متخصص لم يوفر لهم تلقيحا مناسبا لحالاتهم. كما ستجدين أطفالا ماتوا لأننا لم نوفر لها مصلا ضد لسعة عقرب. كما ستجدين أطفالا و شبابا غرقوا و هم يحاولون الهجرة بقوارب مطاطية، لكن محطة الوصول كانت غير تلك التي خططوا لها. و ستجدين غيرهم، و غيرهم كثير من ضحايا سياساتنا العمومية و فساد تدبيرنا، و تراكم سلوكات سيئة قمنا بالتكبيع معها سواء داخل بيوتنا و في إقاماتنا و أحيائنا، و في مدننا و قرانا، و في إداراتنا و مؤسساتنا. هبة… منذ يوم الحادث وأنا أحاول الكتابة و تناول الحادث الأليم الذي كنت أنت ضحيته، لكن يدي ظلت ترتجف من هول ما شاهدت. لم أجد كلمات ترقى إلى مستوى اللحظة. غضبت و بكيت. و لا زالت دموعي، إلى الآن، تغالبني كلما تذكرت المشهد و بشاعته، و استحضرت ألم الظلم الذي تعرضت أنت له. فكرت في أبويك فلم أحتمل إطالة التفكير. لا أدري كيف سيعيشون و قلوبهم تحمل وجع سماع صرخاتك و أنت في المحرقة وحدك؟ و لا كيف سيتجاوزون مصيبة موتك؟ و لا كيف يمكن أن يتراجع ولو قليلا أثرُ الرزء في ذاكرتهم، و صورها الحية ستبقى متداولة على شبكة الأنترنيت، بسبب ما اقترفه “جيل جديد” من البشر يعيشون بيننا، من توثيق لتلك اللحظات الرهيبة؟ وهي مناسبة لأعتذر منك نيابة عن كل أولائك “المخرجين السينمائيين” التافهين، أو لنقل “مخرجي فيديو” ساقطين أخلاقيا، الذي لم يستطيعوا نجدتك و هم لا احترموا “حقك” في أن يبقى منظرك الرهيب و أنت تموتين حرقا، و الملائكة تحفك و تدعو لك و إن لم نرها، بعيدا عن تطفل كاميرات هواتفهم الغبية. للأسف، ابتلينا بقوم تنبأ بظهورهم سيدي محمد جسوس، سنة 1991، دفعهم فراغهم القيمي و عجزهم عن تشغيل عقولهم إلى “استثمار” هواتفهم في هواية قبيحة مستهجنة، هي تسجيلةكل المناكر و المصائب التي تحدث في مجتمعنا، من عنف و اعتداء و اغتصاب، عوض أن يتحركوا ويهبوا بنخوة و بإنسانية، و من منطلق الواجب القانوني الذي يفرض “تقديم الدعم و المساعدة لشخص في وضعية الخطر”، و الدفاع عن الضحية أو إنقاذ من يحتاح إلى ذلك. هبة … بكيت حُزنا عليك، و بكيت حُزنا علينا، و حُزنا على تفاهتنا نحن الذين بقينا بعدك. نحن الذين خرج فينا من “وثقوا” بالفيديو واحدا من مشاهد الموت الأكثر بؤسا و فظاعة. نحن الذين تركناك تحترقين بسبب استهتار إداري و تجليات واقع مجتمعي سيء و فاسد، ساهمنا جميعا في تشكيل تضاريسه بسلبيتنا، و بأنانيتنا و غرورنا، و بفسادنا و تكاسلنا و تهاوننا، و بانعزالنا عن المشاركة في الشأن العام و الضغط القوي ليكون تدبيره جيدا و غير منحرف، و باختياراتنا الخاطئة لبعض مسؤولينا و ممثلينا و نخبنا و قياداتنا، و بسوء ترتيبنا لأولوياتنا حتى صارت فوضوية و عبثية و بلا أفق، و بقبولنا التعايش مع منطق أصبح فيه كثير من الناس يستيقظون ليبدؤوا البحث عن “المغانم” كيفما كانت، حتى و لو لم تكن مشروعة، و لا اكثرات بالحق و بالقانون. نحن تركناك تحترقين لأننا غيرنا كل القواميس القيمية المتعارف عليها، فصار “المسؤول الذي يسرق المال العام” يسمى “قافز و تايضبر على راسو”، و صار “الإبن العاق و المهمل لوالديه في الشارع أو في خيريات” يقال عنه “مسكين ملهي مع مشاكلو الخاصة، و على ربي غير يقابل راسو و أولاده”، و صار “السمسار الحرامي” يسمى “عفريت و تايجيب الهمزة من فم السبع”، و أصبح “المرتشي” يسمى “تايفك المشاكل و تايخذ حقه”، و أصبح “الموظف الشبح” يسمى “هو اللي فاهم، ما تايخافش و مشا يضبر على راسو … و داير الخدمة غير تقاعد”، و صار “الموظف النزيه” يسمى “راجل نية و بليد ما عارفش فين هي مصلحتو”، و أصبحنا نقبل أن يحاصر “الإطار الكفؤ” بدعوى أن “هذاك إذا خليناه زاد غادي تبان خدمتو و غادي يدي لينا بلاصتنا”، و أصبح “المسؤول الجاد و الحريص على تطبيق القانون” يسمى “هذاك ثقيل و بيروقراطي و داير لينا زعما داكشي ديال النزاهة… ما فاهم والو… و إذا بقا هكذا غادي صحابو يزولوه من بلاصتو”… إلخ… و من المؤسف أننا بهذا الإنحدار القيمي، لا نعي كم نضيع على أنفسنا وعلى وطننا من فرص تحقيق تنمية مدمجة نفتخر بها، و نثمن من خلالها كل المكتسبات المتراكمة و التي لا يمكن نكرانها، سواء على المستوى المؤسساتي و على مستوى التجهيزات و المشاريع الكبرى. و مع توالي المشاهد المحزنة التي تتكرر كل حين، و في مناطق متعددة من الوطن، و تأخذ أشكالا غير مسبوقة، سنظل نتسائل عن مبررات كل هذه السلبية و اللامبالاة التي أصبحت تميز سلوك الناس العاديين، و تطبع سلوك بعض القائمين على تدبير الشأن العام، مركزيا و جهويا و إقليميا و محليا. لامبالاة و استرخاء أصبح يتميز بها أيضا جزء كبير من المعنيين بتتبع و تقييم السياسات العمومية، سواء منهم هيآت الوساطة السياسية أو منظمات المجتمع المدني. وكأني بالجميع أصبحوا مشغولين بمشروعهم الخاص و أهملوا مشروع الوطن و الإنتماء. لست أدري هل أنهكنا جميعا هذا الواقع البئيس الذي نحن جزء ممن صنعه، فاستسلمنا للإحباط؟ أم أن غرورنا و تحللنا من انتمائنا الوطني و القيمي دفعنا إلى التواطأ مع “ثقافة تدبيرية جديدة” اخترقت بخبث شديد، ثنايا تدبير الشأن العام و أشاعت فيه سياسة، أسميتها في مقال سابق، “سياسة خليها تخماج… ما سوقكش… أنت مالك ؟؟”. هبة… ليس بإمكان أي أحد منا أن يعتبر نفسه غير مسؤول عما جرى لك. “محرقتك” فضحت، بحرارة اللهب الذي أكل جسدك في دقائق، عيوبا كثيرة تنخر هذا المجتمع، و تنخر التدبير العمومي. حاولت أن أرتب أفكاري، و اعتقدت أن تعداد تلك العيوب و تحديد المسؤوليات أمر سهل. لكنني وجدت أن ما جرى اختلطت فيه المسؤوليات بكل أنواعها و بكل مستوياتها السياسية و الإدارية و الأخلاقية و القانونية. ستكتبين يا هبة بأنك كنت ضحية عبثنا الجماعي السمج و استهتارنا بكل القيم الإنسانية و قيم الدين و القانون و الأخلاق و الوطنية، و ضحية الاستهتار بمقام المسؤولية العمومية الذي أصبح لازمة ابتلينا بها في السنوات الأخيرة بشكل رهيب. و يجب أن نعترف أن تساهلنا مع الممارسات التدبيرية الفاسدة، و تطبيعنا مع السلوكات المجتمعية الشاذة و تبريرها بكل الطرق، و قبولنا بشيوع قيم اللامواطنة، قد بلغ حد التواطأ في الفعل المقيت. و بالتالي علينا أن نقر أننا نتحمل المسؤولية الجماعية في نتائجه. و محرقتك إحدى تلك النتائج الشديدة القسوة. هبة… أخبري دعاء، الطفلة ذات الأربع سنوات، التي لسعتها عقرب و ناتت قبل شهر، و أخبري غيرها ممن ستجدينهم هنالك في الجنة، أننا أذنبنا حين استهترنا بمسؤولياتنا. و التمسي لنا منهم العفو و الصفح الجميل لأنهم لما كانوا معنا، تورطنا في إيذائهم، إما بفسادنا أو بصمتنا على فساد غيرنا، أو بشهادتنا الزور لما كنا نختار من سننتخبهم ليسيروا أمورنا. فكان من نتائج فعلنا ذاك، أننا تركنا أطفالنا و شبابنا في بؤسهم يهيمون بفضل سياسات عمومية تافهة، و برامج اجتماعية غير فاعلة لم تجعل من الإنسان المغربي محورا و هدفا لكل الاستثمارات و المبادرات، فشاع التهميش و انهارت قيمة المواطن، و انهارت مع ذلك كله منظومة القيم التي كنا نمتلكها، و غابت نُخبنا و توارى، للأسف، دورها المحوري الذي كان يضيء الطريق و يعطي المثال بالقدوة الحسنة. و أنت يا هبة من الله لم نصُنها… أتوسل إليك أن تكوني أكرم منا، حين ستسألين بأي ذنب تركناك تحترقين؟ التمسي لنا الصفح من صاحب الصفح و المغفرة، و لا تحملينا كامل وزر مصيبتك. فوالله لن نستطيع دفاعا عن أنفسنا، و لن ينفعنا أن نُلقي باللائمة على “جهة ما” نعتقد أن من مسؤولياتها و أن عليها، و أن بإمكانها لوحدها، أن تحُل لنا كل مشاكل واقعنا. ذلك اعتقاد خاطئ. المشكل في الجميع، و لو بدرجات متفاوتة و بأثر غير متساوي. يوم سنفهم ذلك، و نشرع في تصحيح ما بأنفسنا، و نصحح سلوكاتنا، و نبدأ في احترام الذات و القوانين و توقير الآخرين، و اعتبار “الإنسان المغربي” أهلا لكل عناية و تكريم، و ننطلق في الاهتمام الفعلي و العملي بالشأن العام و تتبع السياسات، و نمتلك الشجاعة لانتقاد السيء منها و فضحه، و فضح أصحابه، و قول الحقيقة و لو كانت قاسية أو مؤلمة