أخبركم بأنّني فارقتُ الحياة، قبل أن تشتعل في النيران. تركتُ لكم جسدي يعانق النار، وقد أمسك به الشباك، في الطابق الثاني من عمارتنا، ليكون مشهدا مرئيا للجميع. لا تبكوا، فلا قيمة لجسدي، أمات موتة طبيعية، أم مات حرقا وغرقا وطحنا، فمآله التراب. أنا الآن أجلس بينكم، لكنني لا أَحْمل هاتفا. أتابع معكم، بروحي احتراق جسدي، الذي يجلس في النافذة، وتتدلى رجلاه. ها أنتم ترون النار تأكل وجهي. أخبركم بأنني لا أتألم، فلا تتألموا، فروحي في أمان. ها أنتم ترون النار تأكل صدري، أخبركم بأنني مطمئنة، فلا تبكوا، فروحي، روح وريحان. ها أنتم ترون النار تأكل رجلي، أخبركم بأنني راضية، فلا تحزنوا، فروحي في سلام. ها أنا أرى معكم جسدي تحول إلى رماد، لكن روحي عصية على الاحتراق، لأنها مشتعلة بنور الله. لا تبكوا، إن ربي وعدني بأنني سألتحق بالشهداء والنبيين والصديقين والصالحين. لم أكن جسدا فقط، أنا طيف ملائكي. صدقوني، لم أتألم، لم أبك، لم أصرخ، ولم أشعر بأنني أتعذب بالنار، روحي كانت تحلق في السماوات، ثم تطوف في مكان اجتماع الناس، ثم ها أنا أجلس معكم، لأتابع احتراق جسدي. أنا الآن حزينة، أرى الناس يصورون جسدي يحترق بهواتفهم، لينشروا الصور على الفيسبوك. حزينة ليس لأنهم يصورون جسدي لجمع أرقام قياسية في المشاهدات. حزينة، لأنهم سيبكون المغاربة لأيام، والحق أن روحي في سلام. أرى الآن موكبا ملائكيا يزفني بالتهليل والتكبير إلى الجنان، فأتوسل إليهم، أن يجلسوا لمتابعة احتراق جسدي، ثم سجدت سجدة تعظيم لله الرحمن الرحيم. أنا سعيدة، أنا مسرورة، أنا مقبلة على العيش في الخلد، فلم الحزن يا أيها الناس؟! لا تبكوا، لا تتألموا، لا تحزنوا، أنا بخير، أنا في سلام. يا أمي، هللي وزغردي، ابنتك ستلتحق بالجنة. أنا لن أذهب إلى العدم، كل ما رأيتِهِ، أن جسدي أصبح رمادا، وسيعود إلى التراب. أما أنا هبة، بنتك الملائكية، فهي على قيد الحياة، خلقها الله لتخلد. نعم، تموت هبة، لكنها لا تنتقل إلى العدم. لا تظني يا أمي أنك فقدت ابنتك إلى أبد الآبدين. يا أمي، فقدت جسد ابنتك في الدنيا، لكن لنا لقاء، غدا في الجنان، في مقام كريم عند رب عظيم. إياك يا أمي، أن تيأسي، نحن جميعا سنموت، وقد يموت أحدنا ميتة ظاهرها الألم وباطنها الرحمة. أمي، إنك ستفتقدينني ليوم أو بعض يوم، هذا زمن الحياة الدنيا، وستلتقينني لنعيش في جنة النعيم خالدين فيها أبدا. أمي، كل شيء زائل، توجهي بقلبك إلى الله، كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. أقبلي على الله، تعلقي بالله، أكثري من مناجاة الله، فهذا الدواء. هذا الذي وقع، لا يمكن أن يتقبله العقل، لكن الرضا بقضاء الله وقدره هو الدواء الشافي. أيها المغاربة، أرسلني الله إليكم، لأختبركم، لأختبر الوقاية المدنية في نجدة الناس، لأختبر الناس الذين سيشاهدونني الآن، وأنا أحترق، لأختبر الضمائر جميعها في هذا البلد العظيم. لن أقول لكم، نتيجة هذا الاختبار، فأنتم رأيتم ما وقع، وتعرفون كل شيء. جئت إليكم، لتعرفوا قيمة الإنسان في بلدنا… أستغرب بكاء الناس، حزنا علي. أنا فارقتكم، وأعيش في سلام. لا تنظروا إلى المشهد نظرة سطحية، وتتألموا لاحتراق جسدي. أنا الآن، أتابع معكم الاحتراق، وأندهش لتفاعلات الناس. قد يبدو المشهد مؤلما جدا، لكن هذا هو الاختبار… لا تبك يا أبي، أنا سأكون عروسا في الجنة، بإذن الله، لأنني كنت طيفا ملائكيا في الدنيا. مهما عشت سأموت. أعرف أنك متألم جدا، لبشاعة احتراق فلذة كبدك. أطمئنك، روحي كانت في سلام. أنا الآن أحترق في الشباك، وأعرف أن الوقاية المدنية لن تنقذني… كانت روحي تقهقه كثيرا، وهي ترى رجال الإنقاذ يحاولون إعادتي إلى الحياة… رفضتُ العودة إلى الحياة، لأن روحي في سلام… لا تحزنوا على احتراق جسدي، بل احزنوا على احتراق ميزانيات بلدي، التي تصرف في العبث، ولا تصرف من أجل توفير خدمات عمومية تحمي المواطن من كل سوء. لا تحزنوا على احتراق جسدي، بل حاسبوا من يسمح باستيراد «الشاحن القاتل»، الذي أحرق الكثيرين، ومازال يقتل، وسيقتل… أنا في سلام… أدخلوها بسلام آمنين.