كلما وقعت جريمة من الجرائم التي تصنف في باب الأعمال الإرهابية، نادى منادون بتجفيف منابع الإرهاب، واستئصالِ البيئات المنتجة له. وهذا كلامٌ حقٌّ لو أريد به الحق، ولكنه، في غالب الأحيان، حق يراد به باطل. وهو أيضا من باب “طاحت الصومعة، علّقوا الحجام”. مؤخرا، وكما هو معلوم، قُتلت بالمغرب شابتان أجنبيتان بريئتان (دانماركية ونورويجية)، كانتا في رحلة سياحية. قتلتا ظلما وغدرا، على النحو الذي قد عرفه الجميع.. وقد أجمع المغاربة قاطبة على إدانة هذا العمل الهمجي الخسيس، والمطالبة بأقصى العقوبات لمقترفيه وشركائهم.. بعدها قام المنادون المذكورون، يطالبون بالتجفيف والإغلاق والاستئصال والمنع والقمع… طالبوا باستئصال كتب التراث الإسلامي، وأهمها وأكثرها بالمغرب هي كتب الفقه المالكي، لكونها منبع الفكر المتطرف الإرهابي، كما يقولون. وطالبوا يتطهير مقررات التربية الإسلامية من كل تربية إسلامية، لكونها تزرع التطرف والكراهية في قلوب أبنائنا. وطالبوا بإغلاق دور القرآن الكريم والكتاتيب القرآنية. وهي دعوة مقَنَّعة لمنع القرآن الكريم، وقالوا: إن الإرهاب موجود في القرآن نفسه. وطالبوا بإغلاق المجالس العلمية، وبعدها سيأتي الدور على المساجد. وطالبوا – مرة أخرى – بحل حزب العدالة والتنمية وجمعيات الدعوة الإسلامية، لأنه ليس في القنافذ أملس، كما يرددون دائما. وهذه – كما ترون – غنائم كبيرة وثمينة، يريدون حيازتها وتحفيظها فورا، قبل أن يجف دم الضحيتين وتبرد القضية أو تُنسى. هكذا في فرنسا: يقولون هذا إمام متطرف، فيغلقون مسجدا أو مسجدين؟ ويقولون هذا مسجد كان يصلي فيه أحد المتطرفين، فيغلقونه فورا. وحين تقع عملية إرهابية يغلقون فورا عشرة مساجد أو أكثر، انتقاما من عامة المصلين. وبهذا بلغ عدد المساجد التي تم إغلاقها في فرنسا – خلال السنوات الأخيرة فقط – حوالي خمسين مسجدا، عدا تدابير انتقامية أخرى، موجهة ضد الإسلام والمسلمين، وليس ضد الإرهاب والإرهابيين. إنه نهج واحد هنا وهناك: “طاحت الصومعة، علّقوا الحجام”. نحن الآن متفقون على شيء واحد، هو “تجفيف منابع الإرهاب وإغلاقُ مصانعه”، لكن ما هي منابع الإرهاب؟ وما هي مصانعه؟ وأين تقع تلك المنابع والمصانع؟ تلك هي القضية.. يقول المتربصون: هي القرآن ومراكز تحفيظه، وهي التعليم الديني، والتربية الإسلامية، وكتب التراث الفقهي، والمجالس العلمية… لكن هناك أسئلة يتحاشاها هؤلاء “التجفيفيون الحداثويون”، ولا يحبون سماعها: هل وجدتم إرهابيا واحدا يحفظ القرآن؟ هل وجدتم إرهابيا واحدا تخرج من جامعة القرويين، أو جامعة الزيتونة، أو جامعة الأزهر، أو من دار الحديث الحسنية، أو من التعليم العتيق، أو التعليم الأصيل؟ هل وجدتم إرهابيا واحدا متخصصا في الدراسات الإسلامية؟ هل وجدتم إرهابيا واحدا يفقه شيئا في الفقه الإسلامي؟ هل وجدتم إرهابيا واحدا كان عضوا في أحد المجالس العلمية؟ هل وجدتم إرهابيا واحدا تتلمذ على أيدي علماء التراث وتأثر بهم؟ هل تم حجز كتب الفقه الإسلامي أو كتب التفسير أو الحديث، أو كتب التربية الإسلامية، عند الإرهابيين المعتقلين، أم وجدوا عندهم فقط الإنترنت وما يأتي من بواباتها؟ وهل تم تحديد شيوخ الإرهابيين، ومصادر فكرهم وثقافتهم، ومساراتهم الفكرية؟ هل أجريت لهم تحليلات طبية لمعرفة ما إن كانوا جميعهم أو بعضهم يتعاطون مخدرات؟ وهل خضعت حالاتهم النفسية والاجتماعية للتحليل والدراسة؟ وماذا لو ثبت – وقد ثبت فعلا – أن الإرهابيين أكثرهم ميكانيكيون وحدادون ونجارون وحشاشون وعاطلون، وأنهم أبناء البؤس واليأس، وأن قادتهم وشيوخهم مهندسون وتقنيون وضباط مخابرات وفيزيائيون وكيميائيون وعسكريون سابقون؟ يقول بعض التجفيفيين وبعض التسطيحيين: نعم، ولكن بالرغم من كل ما سبق، فإن الإرهابيين يعتمدون على القرآن والتراث الديني والعقيدة الدينية.. وأقول لهم: القرآن الكريم يؤمن به كل المغاربة، ويقرأونه ويحفظونه ويستمعون إلى ترتيله وتفسيره صباح مساء، فلماذا لم يجعل منهم متطرفين وإرهابيين؟ وأما التراث الفقهي، فيتخصص فيه ويحفظه ويعيش في أجوائه – حاليا وبالمغرب وحده – مئاتُ الآلاف من التلاميذ والطلبة والأساتذة والفقهاء، فلماذا لم يتحولوا جميعهم ولا أكثرهم ولا أي واحد منهم إلى إرهابيين؟ بل لماذا نجدهم، ونجد حفَظة القرآن، هم الفئة الأكثر حصانة ومناعة ضد الفكر الإرهابي وثقافته ومقولاته؟ المشكلة إذن: ليست في القرآن ولا بسبب القرآن، بل هي في أحوال الإنسان؟ المشكلة ليست فيمن يحفظ القرآن، وإنما فيمن تُعطى له آية واحدة، مبتورة معزولة، أو ربما شطر آية… والمشكلة ليست في التراث الإسلامي، وإنما هي في الجهل بالإسلام وبالتراث الإسلامي. وهو الجهل الذي يفتح ثغرات عديدة ويعطي فرصا كثيرة للتحريف والتلاعب والتضليل. وفي أحسن الحالات وأخفها: يكون الجهل سببا لعسر الهضم ومنبعا لسوء الفهم. وقديما قالوا: كثيرُ الفلسفة يؤدي إلى العرفان والإيمان، وقليلها يؤدي إلى الزندقة والإلحاد. نحن متفقون تماما على ضرورة “تجفيف منابع الإرهاب وإغلاق مصانعه”… لكننا نبحث عن منابعه الحقيقية لتجفيفها، وعن مصانعه الفعلية لإغلاقها. بينما آخرون تتركز أعينهم دوما: على القرآن لإبعاده، وعلى التراث الإسلامي لإدانته، وعلى التعليم الإسلامي لإغلاقه، وعلى التربية الإسلامية لحذفها، وعلى التدين لمحوه. وهم فقط ينتظرون هدايا الإرهابيين..