عاد الحديث مجددا، في أوساط التيار العَلماني المتطرف، عن موضوع المسؤولية المعنوية لمناهج ومقررات التربية الدينية في تغذية التطرف والإرهاب، لدى الناشئة المغربية، وعن ضرورة إعمال مشرط التعديل والتنقيح في مفاصلها الجوهرية، المؤسَّسة- حسب زعم هذا التيار- على مرجعيات تراثية تغذي بذور التطرف والإرهاب، وتنشر ثقافة الكراهية والحقد إزاء كل رأي أو دين مخالف!. ولئن كانت دواعي الإثارة، وأسباب النزول، التي ململت هذه الكائنات العَلمانية، من جديد، وبعد طول رُقاد، هي التوجيهات الملكية الأخيرة لوزيري الأوقاف والتعليم بضرورة وضع برنامج عمل لمراجعة هذه المقررات والمناهج بما يؤصل فيها لتعليم ديني سمح ووسطي، مستند إلى الاجتهاد المالكي السني؛ فإن هذه التململات المشككة ليست وليدة اللحظة، ولا "ماركة مغربية مسجلة" صرفة، بل هي محاولات سبق المغرب إليها، دعاة تجفيف التدين في تونس بورقيبة ثم ابن علي، وتركيا أتاتورك، وقبلها في دولة الالحاد روسيا ضد الاقليات الدينية،...حيث كانت آلة التجفيف تشتغل ليل نهار على "تنقية" المناهج والمقررات الدينية من كل ما هو دين، فضلا عما يحيل على الإرهاب والتطرف. فلم تكتف بحذف آراء العلماء المتشددة التي جرت الكثير من الويلات على الأمة، وغزت العديد من المصادر المعتمدة لدى الأمة قديما وحديثا، من كتب التفسير، والفقه، والحديث، وغيرها، بل توجهت رأسا إلى أصول الدين، وقطعيَّاته، تعبث بها، وتعمل فيها مقص الحذف والبتر حتى حولتها إلى رزمانة من أفكار بشرية، وترانيم تعبُّدية أشبه ما تكون لفلكلور شعبي، يتغنى به من لا خلاق له ولادين. فقد أدخل المقبور بورقيبة تغييراتٍ جذريةً غير مسبوقةٍ على مناهج التربية الدينية ومقرراتها، وأصدر قرارات رئاسية غير مسبوقة في تحريم الحلال وتحليل الحرام. وجاء بعده الهارب ابن علي، ليواصل نهجه، غير الصالح، في تجفيف منابع التدين، وقطع الأمة عن تاريخها، ودينها. وحارب المد الإسلامي المنافس، واعتقل وشرد وأعدم، واختلق عمليات إرهابية حمَّل مسؤوليتها لحركة الغنوشي المعتدلة،... لكنه انتهى إلى ما انتهى إليه، وعاد الدين، وعاد تدريس الدين، ونشر تعاليمه، وانخرط الناس في حفظ كتاب ربهم، وأقبل الشباب على التعليم الديني؛ أشدَّ حماسا، وتعطشا،... وهكذا حدث في تركيا أتاتورك العلمانية، وروسيا لينين وستالين قبلها،... واليوم تتململ بين ظهرانينا هذه الكائنات الشائهة، بعد أن قادت حملتها الطويلة ضد "بقايا دين" في معاملات الناس وتشريعاتهم، ضمن مدونة الأحوال الشخصية، لتتطفل على ما لا تجيده من علم العلماء، وتخصصاتهم، وتدعي أن اجتهادات سلف هذه الأمة، في التفسير، والفقه، والحديث،... مما يدرس في مادة التربية الإسلامية؛ أغلبه لا يوافق العصر، ولا يتناغم مع المبادئ المؤسسة للحقوق الكونية للإنسان، ويغدي التطرف والإرهاب، وينشر الحقد والكراهية، ووو... في محاولة منها للدفع بإلغاء هذه المادة اليتيمة التي تحولت حصتها- للأسف- عند العديد من التلاميذ، إلى حصة ثانوية لاستدراك جزء من حصة النوم التي ضاعت منهم أمام شاشة الهاتف والحاسوب، في خلال الدردشات الليلية التي لا تنتهي.. !. ولنا أن نسأل، في حوار هادئ، هؤلاء الحاقدين على دين الأمة، وأخلاقها: بالله عليكم، هل أحصيتم عدد خريجي هذه التربية الدينية، مِمَّنْ نحى نحو الإرهاب والتطرف، وتشَرَّب الحقد والكراهية، وخرج على الأمة بالسيف؛ كم عددهم؟. ألسنا وأنتم، من دَرَس نفس التربية، وتخرَّج من نفس المدرسة؟. فأين تأثير هذه التربية المتطرفة في سلوكنا وسلوككم؟. أليس غالبية المغاربة، خريجي هذه المدرسة؛ من وسَطِيِّي الدين، ومن عامة المتدينين؟. كيف تفسرون أن أغلب العمليات الإرهابية حدثت في الغرب العلماني من متطرفين تخرجوا من مدارس أوروبا وأمريكا العلمانية، وليس الدينية؟. فأين مسؤولية هذه التربية الدينية في تخريج هؤلاء؟!!!... إنها محاولات مستمرة ومستميتة، لتحويل المغرب، البلد المسلم، إلى بلد علماني لاديني، يُحصر فيه الدين في شأن شخصي. ولا تُرَى تعاليمه؛ لا في حياة الناس، ولا في معاملاتهم، و لا في تعليمهم، و لا في قضائهم، ولا في حكومتهم، ولا في برلمانهم،... دولة بلا دين، وكفى !!. إنها الأمنيات التي يخفيها هؤلاء الحاقدون، خلف رطانة ألسنتهم، وخطابهم الخشبي، وإشاراتهم المرموزة التي يفرون منها إلى سواها، كلما انفضحت مقاصدهم، وبانت حقيقة ما تُكِنُّه صدورهم..!!. نعم، نحن لا نقول إن آراء العلماء، واجتهاداتهم، وحي منزل لا يقبل النقد، ولا يخضع للمراجعة؛ وإلا لكانت دعوة الإسلام إلى إعمال العقل، والاجتهاد، من العبث الذي لا يفيد. ولكن لا يمكن أن نقبل أبدا أن يتطفل من ليس من أهل العلم بالدين وشرائعه، على علم العلماء، وآرائهم، واجتهاداتهم. كما لا يقبل سائر علماء الطبيعة والإنسان أن يتطفل على علمهم من ليس أهلا له. فاحترام التخصصات من أخلاق العلم، ومن التزامات العلماء. فحينما ندعو إلى إصلاح المنظومة التربوية، فإننا لا نستثني منها مادة التربية الإسلامية. فأزمة المنظومة أزمة هيكلية، وذات امتداد بنيوي، ولا يمكن أن نصلحها إلا إذا أعملنا التعديل في مفاصلها الأساسة، وقطعنا مع الترقيعات التفصيلية، وأسسنا لهيكل جديد يلبي رغبة متوازنة، لتعليم متوازن، لا يغلب جانبا من مُدخلات التلقي و التعلُّم على جانب؛ فلا يغلب العقل على الوجدان، ولا الحس على العقل، ولا الوجدان على الحس والعقل، بل يؤسس لنسق متوازن يشبع عقل المتعلم وحسه ووجدانه، بنفس القدر، وفي ذات الآن. ولا يكون ذلك إلا بتحويل مادة التربية الدينية إلى مادة تلبي الحاجة الوجدانية لدى المتعلم، في نفس الوقت الذي تنمي فيه الحس النقدي، وتُقْدِره على الحِجاج العلمي، والحوار المحترِم، وتكسبه ملكة الاختيار الحر والديمقراطي، وتمكنه من ناصية الأدوات العلمية التي تحصنه من الانزلاق خلف دعوات التطرف والإرهاب والحقد. فمحاربة الفكر المتطرف لا يكون أبدا بمنع الناس من حاجتهم إلى الإشباع الروحي؛ إذ الممنوع مرغوب كما يقال. ففي الدول التي حاربت التعليم الديني، وبالغت في السخرية من الدين والمتدينين، بهدف تجفيف منابع التطرف، وتكوين العقل النقدي والحس الحداثي لدى الشباب، ازداد عندها النزوح نحو التطرف والإرهاب، أكثر من الدول التي حافظت على نسب معتبرة من التعليم الديني الوسطي. فالدعوات التي تتعالى اليوم في المغرب، لإقصاء التربية الدينية من المدارس، وإعادة النظر في تعاليم دينية قطعية، وأحاديث نبوية شريفة صريحة وصحيحة، بل وآيات قطعية من القرآن الكريم؛ كآية الإرث، بحجة أنها تخالف مقتضيات المبادئ الكونية لحقوق الإنسان؛ لتُعَدُّ، بالفعل والقوة، دعوات مباشرة لاستثارة التطرف، والنزوح نحوه، وتغذيته. إن محاربة الفكر المتطرف لا يكون أبدا بفكر متطرف مقابل؛ بل بتقديم فكر ديني وسطي ومعتدل، كافٍ، وبوسائطَ تربويةٍ حديثة، وفي قالب عصري يُحبِّب إلى المتعلمين دينهم، ويكسبهم الأدوات العلمية التي تحصِّنهم من الانزلاق نحو تصديق التخاريف، والأفكار الشاذة، والقراءات المتشددة للدين، التي تلج عليهم من الفضائيات، والأنترنيت، فيتلقَّفونها كدِين لا يقبل الطعن ولا النقد. إن جزءا كبيرا من المسؤولية الأخلاقية والمجتمعية يتحملها علماء الدِّين الذين انسحبوا من هَمِّ الأمة، وارتكَنوا الزوايا والمجالس العلمية، وتركو شباب الأمة إلى مصيره المجهول، يغترف من أفكار التطرف، ليصرفها إرهابا وتطرفا وحقدا. كما تركوا هذه النكرات العَلمانية تقدم للأمة دروسا فيما يجوز وما لا يجوز من الدين، وتعاليمه، مما زاد في تذكية الحقد، وتغذية التطرف بين أبناء الشعب الواحد. كما تتحملها وزارة التربية الوطنية بسبب احتقارها لمادة التربية الإسلامية، وتحويلها إلى مادة على هامش المواد الأساسة؛ زمنا مدرسيا، ومُعَامِلَ. و حصر مقرراتها في حزمة من قضايا الدين والتدين البعيدة عن واقع المتعلمين وانتظاراتهم الدينية، وحاجاتهم الاجتماعية. مما حوَّل العديد منهم إلى هواة البحث عن مصادر أخرى لإشباع حاجاتهم الدينية، وتساؤلاتهم المُعَلَّقَة؛ غالبها لا يتأسس على علم، ولا يستند إلى موثوقٍ،.. لهذه الأسباب مجتمعة، اصبحت الحاجة إلى إصلاح مناهج التربية الدينية وتنقيح مقرراتها، وفق مقاربة علمية، وعلى أرضية شرعية دينية؛ من الأولويات ذات الاسبقية ! دمتم على وطن..