شكل مسار الإصلاح السياسي الذي دشنه العاهل المغربي محمد السادس منذ توليه عرش المملكة المغربية، مصدر فخر وإعتزاز لفئة واسعة من الشعب المغربي، هذا المسار جاء لتصحيح ما ترتب عن إحدى أسوء فترات تاريخ المغرب الحديث، والمشهورة بسنوات الجمر والرصاص. كانت سنوات الجمر والرصاص أكثر الأيام إيلاما ومرارة في تاريخ المغرب الحديث، شهدت هذه الحقبة إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وعرفت بانتشار القمع والترهيب، والإنفراد بصنع القرار السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، وطبعت بهيمنة الملك الراحل الحسن الثاني على الحياة السياسية، كما شهدت مختلف أساليب التزوير والنهب وسوء تدبير الشأن العام المغربي، في هذه الفترة من تاريخ المغرب الحديث، تكرس الظلم الإجتماعي والإستبداد والطغيان، وأستشرى الفساد بكل أنواعه في المؤسسات، غيب الآلاف في السجون وحكم على الآلاف بالموت في المعتقلات السرية تحت التعذيب الممنهج، كانت كل الإنفجارات الإجتماعية، التي شهدتها هذه الحقبة، تقابل بقمع شديد، وتصد بعنف من طرف الأجهزة الأمنية، التي منحت لها صلاحيات واسعة حينها، لتدبير الأزمات الإجتماعية وإخماد الغضب الشعبي بالقوة المفرطة، كانت تازمامارت وأكدز وقلعة مكونة ودرب مولاي الشريف ومختلف المعتقلات السرية من حصيلة هذه الحقبة وهي معتقلات سرية مورس فيها أبشع أنواع التعذيب بحق مواطنين مظلومين. كانت حقبة الجمر والرصاص، وما ترتب عنها من ممارسات وسلوكات، بمثابة نقطة سوداء طبعت تاريخ المغرب الحديث، وشكلت لعقود من الزمن وصمة عار على جبين الوطن. ومع إعتلاء العاهل محمد السادس عرش المملكة المغربية، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، أخذ على عاتقه مسؤولية تصفية ماضي والده السيء، ومحو تلك البقعة السوداء التي طبعت تاريخ المغرب الحديث، فكانت أولى تدابير ذلك العمل على إيجاد صيغة وآلية، لإنصاف ضحايا القمع والتنكيل، ممن ذاقوا مرارة التعذيب النفسي والجسدي في عهد أبيه الحسن الثاني، الذي أطلق العنان لآلة البطش والتنكيل. ولإنصاف ضحايا سياسات القمع وسنوات الجمر والرصاص، تم تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، وهي مؤسسة وطنية مستقلة، تم تأسيسها لتصفية ملفات الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي طبعت تاريخ المغرب، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والكشف عن حقيقة حالات الإخفاء القسري والاعتقال السياسي، وتعويض الضحايا ووضع ضمانات حقيقية، قصد تفادي تكرار مثل تلك الممارسات والإنتهاكات، كما كانت فرصة لتحسين صورة المغرب أمام الرأي العام المغربي والمنتظم الدولي، بعد سنوات من التنكيل والتربص بالنشطاء السياسيين والحقوقيين المعارضين للنظام السياسي بالمغرب. وقد تم تحديد مهمة هيئة الإنصاف والمصالحة في إجراء التحريات حول الإنتهاكات الجسيمة بعقد جلسات مع والإستماع إلى شهادات الضحايا وذويهم وكذا مسؤولين في الجهاز الأمني، والإطلاع على كل المعطيات للكشف عن حقيقة ما وقع من خروقات جسيمة لحقوق الإنسان في تلك الحقبة، كما كان من مهامها أيضا جبر الضرر من خلال تعويض الضحايا ماديا، وإعادة تأهيلهم وإدماجهم في الحياة العامة، وكذا إقتراح مشاريع تنموية للمناطق التي تعرضت للتهميش على خلفيات سياسية. وقد حققت الهيئة بعض النتائج المرجوة، وقوبلت بتنويه شديد من قبل المعنيين بهذا الملف، خاصة في ما يتعلق بتعويض الضحايا ماديا، والكشف عن المعتقلات السرية، ومصير المختطفين والمفقودين، وغيرها من النتائج التي من أجلها تم تأسيس هذه الهيئة. شكلت هذه المرحلة نقطة تحول في مسار المغرب السياسي، حيث إنخرط المغرب بعد ذلك في مجموعة من الأوراش الإصلاحية الكبرى، التي تستهدف النهوض بأوضاع حقوق الإنسان، وكذا لتثبيت أركان وأسس النظام الديمقراطي في المغرب، بعد سنوات من الإستبداد والظلم، وكان من نتائج هذه المرحلة ما يعرف بتجربة التناوب كانت أبرز وأهم مراحل الإصلاح السياسي بالمغرب، تلك المرحلة التي أعقبت ما يعرف بالربيع الديمقراطي، الذي إجتاح جزءا من العالم العربي كسوريا ومصر والبحرين واليمن، وكذا بعض الدول في شمال إفريقيا كالمغرب وتونس إضافة إلى دول أخرى ك ليبيا، وكانت من نتائج هذا الربيع سقوط أنظمة إستبدادية، حكمت شعوبها بالحديد والنار، كما هو الشأن بالنسبة لنظام حسني مبارك في مصر ونظام القدافي في ليبيا، ونظام بن علي في تونس، حيث ميدان إنطلاق الشرارة الأولى للربيع الديمقراطي. على غرار تونس ومصر وغيرها من الأقطار نال المغرب حظه من نيران الربيع الديمقراطي، ووصلت عاصفته العاصمة الرباط، قبل أن تجتاح كل المدن المغربية، فتمخض عن هذا الإجتياح ميلاد حركة شبابية ثورية، تحمل مسمى حركة 20فبراير. كانت حركة 20 فبراير الممثل الشرعي لحراك الشارع المغربي، والمتبنية لمطالب الشعب المغربي وهمومه، كانت حركة 20 فبراير كغيرها من الحركات الإحتجاجية التي برزت في كل بقاع العالم، تقابل بقمع شديد، وتصد بعنف من طرف النظام السياسي المغربي في بداياتها، لكن سرعان ما إستعادت توهجها، وفرضت نفسها في المعادلة السياسية بالمغرب. وأمام هذا المعطى وجد النظام السياسي المغربي نفسه أمام خيارين، أولهما : الرضوخ لمطالب الحركة الإحتجاجية وبالتالي إحتوائها وإخماد الغضب الشعبي، أما الثاني فهو الإنجرار نحو العنف والخراب والدمار أسوة ببعض الأنظمة العربية، التي مازالت شعوبها ودولها تدفع ثمن إستكبارها وعلوها في الأرض، وبين هذين الخيارين أظهر النظام السياسي المغربي حنكته وفطنته، وأظهر رغبته في إستكمال مسار الإصلاح السياسي الذي دشنه في ما مضى، فأختار سبيل التفاوض والمساومة على المطالب والإستجابة لها درءا للخراب والدمار، وتجنيب الوطن الوقوع في غياهب الفوضى ومستنقع الدماء والأشلاء. ترجم النظام السياسي المغربي رغبته في إستكمال مسار الإصلاح السياسي بخطاب ألقاه العاهل المغربي محمد السادس في مارس من سنة 2011 أعلن من خلاله بداية مرحلة جديدة أكثر ديمقراطية، تضمنت هذه المرحلة وضع دستور جديد للبلاد، وتنظيم إنتخابات برلمانية جديدة، ويعتبر إقرار دستور 2011 أبرز ما ميز هذه المرحلة، خاصة وأن التمعن في طبيعة المكتسبات التي جاء بها دستور المملكة المغربية الجديد، يوحي بما لا يدع مجالا للشك، أن هذا الدستور يسمو إلى مصاف الدساتير ذات التقاليد الديمقراطية، نظرا لتكريسه لمجموعة من الحقوق والحريات الأساسية، وكذا بعض المكتسبات المتعلقة بطبيعة ونظام الحكم. إعتبر الكثيرون إقرار الدستور الجديد وما ترتب عنه، خطوة جيدة لترسيخ مسار الإصلاح السياسي بالمغرب، ومما لا شك فيه فإن المغرب شكل بهذه الخطوة إستثناءا فريدا، وسطر نموذجا ديمقراطيا فريدا من نوعه، حظي بإهتمام الرأي العام الوطني والدولي على سواء، إلا أن الإشكال الحقيقي يكمن في مدى رغبة النظام في مواصلة هذا المسار، ومدى إستعداده لحماية وصون نموذجه الديمقراطي من الأخطار المحدقة به، والمتمعن اليوم في ما آلت إليه الأوضاع يدرك لا محالة، أن النظام السياسي المغربي رغبته في التخلص من إرث الربيع الديمقراطي، أكبر من رغبته في إستكمال مسار الإصلاح السياسي، بل نيته القطع مع مسار الإصلاح بشكل نهائي، هذه الرغبة الجامحة في التخلص من النموذج الديمقراطي وإقباره، تجلت في مواقف كثيرة، إتخذها النظام السياسي المغربي، بدايتها كانت طريقة التعاطي مع الأشكال الإحتجاجية، والبعيدة كل البعد عن الطرق السليمة، التي تنهجها الدول والأنظمة التي تتبنى الديمقراطية كآلية للحكم، ومن المواقف أيضا التي يتأكد لنا به أن النظام السياسي المغربي، يسارع الزمن من أجل إقبار ما تبقى من ذكرى الربيع الديمقراطي، ما أرتكبه في الأيام القليلة الماضية من مجزرة قضائية، بحق معتقلي الرأي، حيث وفي تطور خطير في المشهد الحقوقي بالمغرب، أدان القضاء المغربي نشطاء حراك الريف بأحكام قاسية تجاوزت في مجموعها أكثر من 200 سنة، نصيب بعض منهم 20 سنة نافذة، على خلفية أحداث الريف، في أبشع تجليات الظلم الإجتماعي والإستبداد والطغيان، ليجهز النظام المغربي بذلك على ما تبقى من نموذجنا الديمقراطي، ويستحضر ذكريات الماضي السيء، كذكرى إنتفاضة الكوميرا، وغيرها من الذكريات السيئة التي لطخت سمعة الوطن وأساءت لصورته أمام العالم، ويذكر المغاربة أن سنوات الجمر والرصاص ما زالت قائمة، وأن زمن تزمامارت ودرب مولاي الشريف ومختلف المعتقلات السرية لم يول بعد.