تعتبر الوساطة من أهم طرق تسوية المنازعات المدنية والتجارية، خاصة في الوقت الذي أصبح فيه اللجوء إلى المحاكم، والتحكيم، يأخذ وقتا طويلا، ويستنزف جهدا كبيرا، إذ تتجه معظم الدول إلى تنظيم هذه الوسيلة من وسائل حل المنازعات، لما أثبتته مبادئها من قبول لدى أطراف النزاع، حيث تظهر الاحصائيات في و.م.أ، أن الوساطة غالبا ما تنجح في التوصل إلى حل بين الأطراف. وربما يعود ذلك إلى أن الأطراف يضعون الحل بأنفسهم، فيتقبلونه بحسناته وسيئاته، على خلاف التحكيم والقضاء حيث يفرض طرف ثالث الحل فرضا. ولا يعني ذلك أن الوساطة تقتصر على حل النزاعات المدنية والتجارية، بل يمكن اللجوء إليها لحل النزاعات المتعلقة بكثير من المسائل الأحوال الشخصية النزاعات الإدارية، النزاعات الدولية، فهي تقنية لفض النزاعات في ميثاق الأممالمتحدة المادة 33 وفي ميثاق الوحدة الإفريقية وفي ميثاق جامعة الدول العربية. والوساطة ليست غريبة عن والواقع المغربي، فبالرغم عن عدم وجود إحصائيات علمية ودقيقة، تبين أن دور الوساطة في حل الخلافات، إلا أنه يمكن بالمشاهدة اكتشاف أن الوساطة تضطلع بدور هام في حل معظم النزاعات لما تتميز به من خصائص وما تقوم عليه من مبادئ، ومن هذا المنطلق نتساءل إلى أي حد ساهمت مبادئ الوساطة في تشجيع الأطراف المتنازعة على اللجوء إلى هذه الآلية مقارنة بباقي وسائل حل النزاعات؟ هذا ما سنحاول التطرق إليه من خلال محورين أساسيين كما يلي: أولا : المبادئ الواجب احترامها منذ بداية الوساطة المبادئ الواجب توافرها منذ بداية الوساطة هي مبدأ الخيار الذاتي (1)، ومبدأ تجاوز المواجهة، وسنفصل في كل مبدأ على حدا في ما يلي: 1) مبدأ الخيار الذاتي إن من أهم المبادئ التي تكفل فعالية الوساطة هو مبدأ الخيار الذاتي للخصوم بالمقارنة مع الطريق التقليدي في رفع الدعوى، حيث يرسم القانون طريق الدعوى من بدايتها إلى نهايتها دون أن يكون لإرادة الأطراف داخل في تحديدها، عكس اللجوء إلى الوساطة التي أساسها حرية الإرادة، وتعني هذه القاعدة أن الإرادة الفردية تلزم نفسها بنفسها، دون تدخل القضاء في ذلك، ومبدأ الخيار الذاتي يمتد عبر كامل مراحل الوساطة فيظهر من جهة القول باللجوء إلى هذه الآلية أي الوساطة، والسير في إجراءاتها والقبول بتنائجها وتنفيذها وكل ذلك من قبيل الأعمال القانونية التي تتطلب التقاء إرادتين، فليس من المنطق في شيء إجبار طرف على هذه الآلية البديلة لفض النزاع إذا كان حرا في قبول أو عدم قبول الحلول الاتفاقية التي تطرح عليه من قبل الوسيط، لكن هناك وسائل الاقناع الأطراف بأهمية ونجاعة الوساطة أو حتى إجبارهم أدبيا على اللجوء إليها وهذه المهمة يتقاسمها القاضي ومحامي الطرف المعني كما سنبين لاحقا[1]. فاللجوء إلى الوساطة كأحد أهم هذه الوسائل في المغرب يتطلب توافق إرادتي طرفي النزاع دون أي ضغط أو إكراه، وبعد تعين الوسيط، فإنه يملك كامل الحرية في القبول بهذه المهمة أو رفضها دون إكراهه على القبول بأن يكون وسيطا في النزاع، وهي إحدى الخصائص المهمة التي تميز عمل الوسيط عن عمل القاضي[2]. ويتعدى مبدأ الخيار الذاتي للخصوم إلى مراحل الوساطة فالأطراف هم من يقررون أين تجري الوساطة، وتجديد مدة الوساطة إذا تطلب الأمر ذالك، وإنهاء الوساطة. أما بالنسبة لنتائج الوساطة فيحكمها مبدأ اتخاذ القرار الذاتي من قبل المتنازعين، فالوسيط كما أشرنا سابقا ليس له سلطة إصدار القرارات عن طريق تطبيق القانون، وإنما دوره يقتصر على اقتراح حل ودي ينهي النزاع[3]. وعلى الوسيط أن يبتعد عن التأثير على قرارات الأطراف وخياراتهم الذاتية لأسباب تتعلق بسعيه لتحقيق معدل أعلى من المستويات أو رفع قيمة تسوية معينة. 2) تجاوز مبدأ تجاوز المواجهة ان الوساطة لا تفترض العمل بمبدأ المواجهة كما هو الحال في القضاء والتحكيم، ويراد بالمواجهة اتخاذ كافة الاجراءات في مواجهة الخصوم بطريق يمكنهم من العلم بها سواء عن طريق إجرائها في حضورهم كإبداء الطلبات أو عن طريق إعلانهم بها أو تمكينهم من الاطلاع عليها ومناقشتها والهدف من هذا المبدأ ضمان تطبيق حق الدفاع للخصوم عبر الإحاطة بكل الاجراءات وتمكينهم من الرد عليها[4]. والمواجهة التزام يقع على عاتق الخصوم والقاضي على حد سواء، فأطراف الخصومة يباشرون دعواهم بما يكفل عدم الجهالة لدى الطرف الأخر، كما أن المحكمون والقضاة ملزمون باحترام مبدأ المواجهة وحقوق الأطراف في الدفاع، وهذا المبدأ مكرس في القانون المغربي وبقية القوانين المقارنة ويعتبر أساس الدعوى القضائية[5]. أما الوساطة لا تعمل بمبدأ المواجهة إذ لا يتوجب على الوسيط أو أي شخص ثالث أو من يحل محله الذي كلفه بحل النزاع دعوة الطرفين المتنازعين معا للاجتماع ولا يجوز إحاطة أحد المتنازعين علما بما سمعه واستلمه من الأخر بدون موافقة هذا الأخير، فالمشرع المغربي منح الوسيط السلطة في تقدير طريقة وكيفية سير الجلسات والاجتماع بالأطراف بالكيفية التي تسمح بإدارة الحوار والتفاوض بين الخصوم بما يعزز مكانة وفعالية هذه الالية[6]. ثانيا :المبادئ الواجب احترامها أثناء إجراءات الوساطة تحكم اجراءات الوساطة بمجموعة مبادئ يمتاز بها نظام الوساطة مقارنة بتقنيات أخرى لحل النزاع مثل التحكيم و المفاوضات حيث أن مبدأ الحياد و عدم الانحياز و مبدأ سرية المعلومات و مبدأ الصياغة الذاتية لمعالم الحل تميز نظام الوساطة عن باقي الأنظمة الاخرى لفض النزاع كالتحكيم هذا من جهة كما أنها تأطر تدبير المنازعة أثناء سير اجراءات الوساطة من جهة أخرى[7]، و نظرا للأهمية التي تحظى بها هاته المبادئ قررنا تحليلها على النحو التالي: 1) مبدأ الحياد و سرية المعلومات يعد مبدأ الحياد و عدم الانحياز من أبرز المبادئ التي تحكم سير اجراءات الوساطة حيث يحتم على الوسيط أن يسعى للابتعاد عن اصدار الأحكام و أن يبقى محايدا الى أقصى درجة ممكنة مع العمل على مساعدة الأطراف للوصول الى أفضل حل للنزاع و كذا أن يمتنع الوسيط عن تمثيل أحد الأطراف كما يحتم المبدأ على منع الوسيط من مشاركة في أي وساطة تهم نزاع قدم في اطاره مشورة مهنية لأي طرف من الأطراف أو أن يكون يمتلك معلومات اضافية حصل عليها الوسيط كنتيجة لعمله كمستشار و إذا لم يكن الوسيط قادرا على القيام بوساطة دون محسوبية أو انحياز أو أفكار مسبقة فعليه أن ينسحب[8]. و بالتالي فطبقا لمبادئ الوساطة فعلى الوسيط أن يمتنع قبول عملية الوساطة ادا عجز عن القيام بها بشكل حيادي و متجرد و المقصود بالحياد الابتعاد عن المحاباة و المحسوبية و الابتعاد عن التحيز أو التعصب أو التحامل و أن لا يقبل أي هدية أو خدمات أو قرض أو أي شيء اخر دو قيمة من شأنه أن يضع حقيقة حياده محل تساؤل. أما بخصوص مبدأ السرية فإذا كان مبدأ العلانية في المنازعة أمام القضاء يشكل أهم ضمانات المحاكمة العادلة فيما يخص اضفاء الثقة و الطمأنينة لدى الأطراف فان مبدأ السرية في نظام الوساطة يعد من الضمانات الهامة التي تشجع الأطراف على اللجوء الى هذا النظام لما يوفره هدا المبدأ من حرية في الحوار و الادلاء بما لدا الاطراف من معلومات و إفادات و تقديم تنازلات في مرحلة المفاوضات بكل حرية و هو الأمر الذي من شأنه أن يصل بالأطراف الى بحث النزاع في أصوله و أسبابه الحقيقية مما يساعد الطرف الثالث أي الوسيط على تقريب وجهات النظر بين الأطراف مراعيا في دلك كل الظروف المحيطة بالنزاع و أطرافه و على العكس ادا كانت السرية غير متوفرة فقد يدفع الأمر بالأطراف الى عدم البوح ببعض الأسرار التي يكون تأثيرها و أهميتها فاعلة في حل النزاع وهده الميزة لا يمكن تحققها في ظل مبدأ العلانية[9]. و نظرا لأهمية هدا المبدأ في نظام الوساطة فقد ألزم المشرع المغربي في الفصل 66-327 من قانون 05-08 الوسيط بوجوب كتمان السر المهني بالنسبة للأغيار وفق المقتضيات و تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي المتعلق بكتمان السر المهني و لا يجوز أن تثار ملاحظات الوسيط و التصاريح التي يتلقاها أمام القاضي المعروض عليه النزاع إلا باتفاق الأطراف و لا يجوز استعمالها في دعوى أخرى. و بالتالي ينبغي أن تحترم سرية كل ما يقال خلال الوساطة إلا اذا اتفق الأطراف بشكل مشترك على غير ذلك و على الوسيط أن لا يفشي المعلومات التي يقدمها الطرف سرا و تلك التي يحصل عليها الوسيط خلال عملية الوساطة سواء كان دلك في لقاءات مشتركة أو منفردة إلا في حالة الموافقة الصريحة للطرف أو ادا كان القانون يقتضي ذلك[10]. و يقصد بمبدأ السرية أن اجراءات الوساطة و مداولاتها لا يجوز الكشف عنها أو الاحتجاج بها لدى المحكمة أو أي جهة أخرى و على سبيل المثال فالتنازلات المقدمة في اطار الوساطة لا يجوز الاحتجاج بها أمام القضاء في حال فشل الوساطة. و بالتالي فمبدأ السرية في نظام الوساطة يقتضي على الأطراف و كدا الوسيط الالتزام به طوال فترة الاجراءات المتعلقة بالوساطة و حتى بعد فشلها لكي يبقى النزاع بعيدا على الأضواء و عن مبدأ العلانية و في دلك حماية للحقوق و احقاق للعدالة[11]. 2) مبدأ الصياغة الذاتية لمعالم الحل تمثل الوساطة عملية يساعد من خلالها وسيط محايد الأطراف المتنازعة في سعيها لتسوية النزاع و في هدا الاطار يمتاز نظام الوساطة بمدأ أساسي يلزم الوسيط على بدل الجهود لتمكين الأطراف المتنازعة بالخروج باتفاق طوعي بمحض ارادتهم من خلال التفكير الذاتي و دون اكراه و يسعى الوسيط لمساعدة الأطراف على الوصول لحل النزاع يكون مناسبا للظروف الخاصة للأطراف على أساس المصالح المتبادلة و ليس بالضرورة بالنتيجة التي قد تصل اليها الأطراف من خلال اللجوء الى القضاء[12]. و مبدأ صياغة الذاتية لمعالم الحل يفرض تمكين الاطراف من الحفاظ على سلطة اتخاذ القرار كاملة ازاء النزاع و لا يعني وجود الوسيط أنه سيتخذ القرار مكان الأطراف اد أنه مسؤول على تسهيل الوصول الى حل فقط و يترتب على هدا المبدأ الوصول الى حل رضائي أساسه العدالة التعاقدية لأنها تسمح للأطراف بأن يصنعوا الحل بأنفهم و لأنفسهم و هدا لا يعني أنها تعمل خارج اطار القانون[13] بل أن المشرع المغربي أسس للعدالة التصالحية في نظام الوساطة الاتفاقية بإقراره لهدا المبدأ باعتبارهه ركيزة أساسية في نظام الوساطة حيث أكد في الفقرة 5 من المادة 68-327 من قانون 05-08 و يحرر دلك في وثيقة صلح تتضمن وقائع النزاع و كيفية حله و ما توصل اليه الأطراف على الشكل الذي يضع حدا للنزاع القائم بينهم[14]. و تجدر الاشارة الى ان نجاح الوساطة في سبيل ايجاد حل توافقي ليس متوقفا فقط على شخصية الوسيط و مهاراته بل يتوقف أيضا على العلاقة بين الطرفين المتنازعين فادا كانت العلاقة بينهما مستمرة أو لهما مصلحة في استمرارها فان دلك يشكل ضمانة لنجاح مساعي الوسيط في تحقيق مبدأ الصياغة الذاتية لمعالم الحل أما اذا انقطعت العلاقة بين الطرفين و لم يعد لهما مصلحة في استمرار العلاقة فتضائل حينئذ ضمانات نجاح الوسيط في احقاق مبدأ الصيغة الذاتية لمعالم الحل[15]. خاتمة تتميز الوساطة مقارنة بباقي وسائل حل النزاع بمجموعة من المبادئ ساهمت في مأسستها كآلية منافسة لباقي تقنيات حل المنازعات مما شجع جميع الأطراف المتنازعة عى اللجوء اليها، ولعل التجارب الدولية سواء في كندا و الولاياتالمتحدةالأمريكية و كذا الدول الاوربية أكد الاقبال الملفت للنظر لآلية الوساطة في شتى المجالات. و لعل الفضل في نجاح الوساطة كالية بديلة لحل النزاعات في هاته التجارب يعود للمبادئ التي تميزها سواء على التحكيم و القضاء و كذا المفاوضات و الصلح. لائحة المراجع 1 سوالم سفيان، الطرق البديلة لحل المنازعات المدنية في القانون الجزائري، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق تخصص قانون خاص، جامعة محمد خيضر، بسكرة كلية الحقوق و العلوم السياسية، السنة الجامعية، 2014. 2 عروي عبد الكريم، الطرق البديلة في حل النزاعات القضائية "الصلح و الوساطة القضائية طبقا لقانون الاجراءات المدنية و الادارية|" مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير فرع العقود و المسؤولية، جامعة الجزائر، كلية الحقوق بن عكنون، السنة الجامعية 2012. 3 دليل التدريب على الوساطة للوسطاء ومدربي الوسطاء، منظمة البحث عن أرضية مشتركة، الرباط.2008. 4 قانون رقم 05-08 الصادر بظهير شريف رقم 1.07.169 بتاريخ 30 نونبر 2007 منشور بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 6 دجنبر 2007. الهوامش [1] سوالم سفيان، الطرق البديلة لحل المنازعات المدنية في القانون الجزائري، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق تخصص قانون خاص، جامعة محمد خيضر، بسكرة كلية الحقوق و العلوم السياسية، السنة الجامعية، 2014،ص: 70. [2] عروي عبد الكريم، الطرق البديلة في حل النزاعات القضائية "الصلح و الوساطة القضائية طبقا لقانون الاجراءات المدنية و الادارية|" مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير فرع العقود و المسؤولية، جامعة الجزائر، كلية الحقوق بن عكنون، السنة الجامعية 2012، ص: 97-96. [3] دليل التدريب على الوساطة للوسطاء ومدربي الوسطاء، منظمة البحث عن أرضية مشتركة، الرباط.2008،ص: 20 [4] سوالم سفيان، مرجع سابق، ص: 69. [5] دليل التدريب على الوساطة للوسطاء ومدربي الوسطاء، مرجع سابق، ص: 20. [6] سوالم سفيان، مرجع سابق، ص: 70. [7] عروي عبد الكريم، مرجع سابق، ص: 99-98. [8] دليل التدريب على الوساطة للوسطاء ومدربي الوسطاء، مرجع سابق، ص: 27-28. [9] سوالم سفيان، مرجع سابق، ص: 72. [10] دليل التدريب على الوساطة للوسطاء و مدربي الوسطاء، مرجع سابق، ص: 27. [11] سوالم سفيان. مرجع سابق، ص 72 [12] دليل التدريب على الوساطة للوسطاء و مدربي الوسطاء،مرجع سابق، ص: 27 [13] سوالم سفيان،مرجع سابق، ص: 73 [14] قانون رقم 05-08 الصادر بظهير شريف رقم 1.07.169 بتاريخ 30 نونبر 2007 منشور بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 6 دجنبر 2007، ص: 3894. [15] سوالم سفيان، مرجع سابق، ص: 73-74 متخصص في التقنيات البديلة لحل النزاعات ووسيط في حل النزاعات