كان يا مكان في حديث الزمان و حاضر العصر و الأوان، مواقعا اجتماعيا فايسبوكا و واتسابا منتشرا في كل الأوطان و يشغله كل إنسان ليكتشف بها أحوال أهل البلاد و ليختصر بها المسافات الطوال و يحد بها من احتكار أنباء العباد ويفضح بها الفساد المستبان وينهي من بواسطتها الاستبداد المستنار ويودع بفضلها الطغيان الأفاك و بها يوصل ما طاله من ويلات الازمان. وذات يوم من أغر أيام شعبان الأبرك اندلعت في بلاد المغرب الأقصى كالنار في الهشيم حملة شعبية كان الفايسبوك و مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى مسرحا لها. و تدعو هذه الحملة إلى مقاطعة ثلاث علامات تجارية رائدة في مجالات المحروقات وبسترة الحليب والماء الصالح للشرب. حملة لقيت صدرا رحبا من لدن شريحة واسعة من المجتمع المغربي الذي انخرط فيها قلبا و قالبا دون قيد أو شرط نظرا لضعف قدرته الشرائية و لاكتوائه بأسعار المنتوجات التي ارتفعت أثمنتها بشكل صاروخي بلا حسيب أو رقيب. وما زاد حملة المقاطعة هاته نجاحا أفراد الجالية المغربية المقيمة بأوروبا و أمريكا المنعم عليهم بالفرار من جحيم المغرب الظالم أهله. حيث شرعوا في توثيق فيديوهات داخل الأسواق و المركبات التجارية لمختلف المنتوجات التي تباع هناك بأثمنة بخسة و مغرية بالرغم من الأجور المرتفعة التي يتقاضونها. لتصبح بعدها حملة المقاطعة حديث الساعة لدى وسائل الإعلام الغربية و العالمية بشتى أنواعها المرئية و المسموعة و المكتوبة; حيث خصصت لها قسطا من الزمن و سارعت إلى عين المكان من أجل استقاء آراء المواطنين و جس نبض الشارع المغربي للبحث عن مكامن الخلل الذي كان سببا في تذمر المواطن من الشركات المعنية. أما القنوات التلفزيونية المحلية عفوا "قنوات الصرف الصحي " فاعتمدت كعادتها على أساليب التجاهل البين و التضليل الفاضح. لكن ما زاد الطين بلة هو التدخل الصبياني المستفز و غير محسوب العواقب الذي كان وراءه وزير الاقتصاد و المالية في قبة البرلمان حيث وصف المغاربة المقاطعين للشركات المذكورة "بالمداويخ" وسار على نهجه الأعوج وزير الفلاحة و الصيد البحري و التنمية القروية و الذي دعا فيه المقاطعين إلى العدول عن هاته التفاهات حسب قوله و صرح أن هذه المقاطعة مجرد لعبة وجب لعبها بعيدا عنه. و انضم إليهم مسؤول بأحد الشركات المعنية الذي ظهر في تصريح لأحد المواقع الالكترونية حيث لم يدخر جهدا في وصف شريحة واسعة من المجتمع المغربي المقاطع لعلامته التجارية بخونة الوطن. أما الجهات المختصة في ضمان روح التنافسية بين الشركات المنتجة و الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين على غرار الحكومة و وزارة الحكامة والشؤون العامة فلم تحرك ساكنا في القضية حيث دخلت في سبات عميق تهربا من المسؤولية الملقاة على عاتقها وما تطبيق "محطتي" إلا دليل قاطع يؤكد و بالملموس ذلك. بينما الجمعية المغربية لحماية وتوجيه المستهلك فيبدو جليا أنها تغرد خارج السرب فبدل أن تكون الذراع الأيمن للمستهلك و تدافع عنه من غلاء فاحش في الأسعار خرج إلى العلن أحد مسؤوليها يتبرأ من حملة المقاطعة وصفا إياها بأنها مجرد مزايدات سياسية. وفجأة صار الشعب الكادح منبوذا و متخليا عنه من لدن رجال الساسة و الوزراء و المنتخبين و الجمعيات و الإعلام و كأنه لقيط بلا نسب و حسب. فلا وزير يضمن له حقوقه و لا برلماني يوصل معاناته و لا جمعية تدافع عن كرامته ولا إعلام يسلط الضوء عن قضيته العادلة والمشروعة فهو مجرد دابة تدب في الأرض إحدى عشر شهرا إلى أن تصل لحظة الانتخابات فيعيش فيها شهرا سرياليا من تلك السرياليات المغربية الصرفة.