يثير استنساخ وتناسل ما يعرف بوكالات الإنعاش والتنمية بالمغرب، العديد من التساؤلات والاستفسارات، بدءا بالدواعي والأسباب والتبريرات التي أدت إلى إنشائها ومرورا بالأدوار والمهام الموكولة لها وانتهاء بالأهداف التي تسعى الجهات المعنية من وراء تفريخها، فما حقيقة الدور التنموي الذي تضطلع به هذه الوكالات؟ وهل عملية إنشائها، طريقة في التدبير؟ أم مجرد وسيلة لتهريب قطاعات معينة إلى جهات تتحرك خارج دائرة الرقابة؟ وماهي المصوغات والمبررات التي تقدمها هذه الجهات من أجل فعل كل ذلك؟ ومن المسؤول عن التزايد والتكاثر الكبير والملفت لأعدادها؟ وإذا كانت هذه الوكالات، حسب موقع رسمي، تسعى إلى ضمان التوازن والانسجام في قيادة المشاريع والبرامج والمخططات، وتوجيه أفضل لجهود مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والحقوقيين والجمعويين، لتحسين وقع البرامج الاقتصادية والاجتماعية على الحياة اليومية للسكان، وخلق هوية محلية تشكل منطلقا لخلق رأي عام ونخبة محلية تتكلف بتسيير شؤون جهات المملكة، فإنها إلى جانب ذلك شكلت عبئا ثقيلا على الميزانية العامة، على اعتبار أن بعضها يحتوي على ترسانة كبيرة من البرامج والموارد البشرية التي تتطلب نفقات مالية باهظة. معطيات رسمية وضعت الجهات الوصية على وكالات الإنعاش والتنمية، مجموعة من الأهداف، قالت بأن هذه الوكالات جاءت من أجل تحقيقها، ومن بين هذه الأهداف، ضمان الانسجام في قيادة المشاريع والبرامج الاقتصادية والاجتماعية، وتشجيع تحقيق تنمية بشرية مستدامة، مع ضمان الرفع من المستوى العام للمناطق التي توجد بها، والتي بحكم وضعها الجغرافي الاستراتيجي مدعوة لأن تلعب دور الواجهة في انفتاح المغرب على الفضاء الأوروبي والحوض المتوسطي، كما تسعى هذه الوكالات، حسب المدير العام لوكالة تنمية المناطق الشمالية بالمغرب، إلى خلق هوية محلية لتشكل منطلقا لخلق رأي عام ونخبة محلية تتكلف بتسيير شؤون المناطق، وبلورة استراتيجيات جهوية خاصة، فالجهات الموجودة في المغرب في حاجة إلى تقوية مؤسساتية والرفع من الموارد وتركيز سلطة القرار، مبينا أن البرنامج الذي وضعته وكالة تنمية مناطق الشمال مثلا، يرتكز على استثمار إمكانيات المنطقة وتحديد خصوصياتها مقارنة مع باقي مناطق المغرب ومحاولة شرح وتقديم ذلك للفاعلين. هذا بخصوص الوكالات الترابية التي تتداخل مهامها مع مهام المجالس الجماعية المنتخبة، أما باقي الوكالات فإنها أحدثت إما لتنمية منتوج فلاحي أو حرفي معين، أو لأسباب اجتماعية حسبما يتضح من خلال الإسم الذي تحمله، وأخص بالذكر في هذا الصدد وكالة التنمية الاجتماعية، التي تهدف، حسب تقرير حكومي، إلى تقليص معدل الفقر وإنعاش التنمية الاجتماعية بالمغرب، بتكامل مع الوسائل الأخرى للدولة التي تعمل على تقليص العجز الاجتماعي. ويتم تدخل الوكالة، حسب ذات التقرير، عبر تعزيز الرأسمال البشري والاجتماعي بفضل أنشطة التكوين وتقوية قدرات الفاعلين في ميدان التنمية المحلية، وإنعاش وتطوير الأنشطة المدرة للدخل، وخلق فرص للشغل، وكذا تحسين ظروف عيش الساكنة المستهدفة، سواء في المجال الحضري أو القروي. ومن المهام الموكولة إلى هذه الوكالة، تحديد العمليات المزمع تنفيذها، وإبرام الاتفاقيات مع مختلف الشركاء وتقييم تأثير مختلف المشاريع، وإشراك الشركاء مثل الجمعيات والتعاونيات والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية والإدارة والقطاع الخاص، على أن ينجز هؤلاء الشركاء، بتعاون مع الوكالة، برامج أو مشاريع التنمية الاجتماعية، لفائدة الساكنة المستهدفة من طرف وكالة التنمية الاجتماعية، إضافة إلى اللجوء إلى شركاء متخصصين لإنجاز أنشطة التكوين والدعم التقني، كالمنظمات غير الحكومية الخبيرة في الميدان ومكاتب الدراسات والجامعات ومؤسسات التكوين. خلفية سياسية غير أن هذه الأهداف والمهام المسطرة في القوانين المنظمة لمثل هذه الوكالات ولغيرها، تبقى مجرد واجهة وتبرير تشرعن من خلالها الجهات الوصية عملية تفريخ وكالات الإنعاش والتنمية، في حين أن الخلفية السياسية التي كانت وراء إنشائها هي غير ما هو معلن عنه، ففكرة فبركة وكالات الإنعاش والتنمية التي تعددت اختصاصاتها ومهامها وتداخلت فيما بينها، تلجأ إليها الحكومة فقط من أجل تهريب قطاعات معينة إلى جهات أخرى حتى لا تنضبط لمؤسسة البرلمان، ولا تسمح لهذه المؤسسة التي تضم ممثلي الأمة بالإطلاع أو المصادقة على ميزانياتها الضخمة ومعرفة البرامج والاستراتيجيات التي تشتغل عليها، وبذلك تكون الحكومة قد ساهمت بشكل مباشر في عرقلة عمل دور المؤسسة البرلمانية وحرمتها من ممارسة حق الرقابة على وكالات تشتغل على قطاعات حيوية ونشيطة في البلاد وتضطلع بأدوار مهمة تدخل في إطار الاستراتيجية الوطنية القريبة والبعيدة المدى، ناهيك عن أن هذه الوكالات تحظى بميزانيات تفوق من حيث القيمة المالية ميزانيات بعض الوزارات. ومن هذا المنطلق يتبين أن سلطات البرلمان التشريعية والرقابية شكلية فقط، بحيث تتحول الحكومة داخل هذه القبة، إلى مشرع رئيسي، بينما تقوم المؤسسة التشريعية في هذا الإطار بأدوار ثانوية، فالحكومة لها الأولوية في التشريع بحيث يسمح لها الدستور بأن تتقدم بمشاريع القوانين وتكون لها الأسبقية في المناقشة، في حين أن مقترحات القوانين التي يتقدم بها النواب يصعب عليها المرور إلى الجلسة العامة، فالأسبقية تكون دائما لجدول الأعمال الذي توافق عليه الحكومة. فمجلس النواب، كما يرى مهتمون، لم يعد قادرا على القيام بمهمته الرقابية كما هو الحال بالنسبة لوكالات الإنعاش والتنمية، فكل الآليات الرقابية تم تسييجها بإجراءات شكلية ومسطرية يصعب في كثير من الأحوال تحققها بالنظر إلى التشكيلة الحزبية المكونة للبرلمان بغرفتيه، فمن الصعوبة بل من المستحيل مثلا، على المعارضة تحريك هذه الآليات الرقابية وإعمالها على أرض الواقع إلا بتصويت الأغلبية المطلقة، وملتمس الرقابة في هذا الصدد شاهد على ذلك، حيث تنص المادة 76 من الدستور المغربي على أنه يمكن لمجلس النواب أن يعارض مواصلة الحكومة تحمل مسؤولياتها وذلك بالموافقة على ملتمس الرقابة، ولا يقبل إلا إذا وافق عليه ربع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس، ولا تصح الموافقة إلا بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء. تهميش المنتخبين ثم إن منح كل هذه الامتيازات للوكالات وبصفة خاصة وكالات الإنعاش والتنمية الترابية، لا يخدم لا من قريب ولا من بعيد العملية الديمقراطية في المغرب، بل على العكس من ذلك، يشكل حاجزا وحجرة عثرة أمام كل تطور أو تقدم في هذا المجال، وإلا فلماذا لا تمنح الامتيازات التي تتمتع بها وكالات إنعاش المناطق الجنوبية والشمالية والشرقية من المملكة للمنتخبين المحليين الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع واختارتهم الإرادة الشعبية ووضعت الدولة من أجل ذلك جيشا عرمرما من الأطر والموظفين، وصرفت الشيء الكثير من المال والجهد؟ فما هو دور المنتخبين إن لم يكن هو المساهمة في التغيير وخلق التنمية المحلية من خلال البحث عن الاستثمار وتهييئ المناخ والأرضية الصالحة لذلك وتوفير الآليات والوسائل الضرورية التي من شأنها النهوض والدفع بعجلة الاقتصاد المحلي. أضف إلى ذلك أن مديري وكالات الإنعاش والتنمية لا يتوفرون على أية مسؤولية سياسية يمكن من خلالها محاسبتهم بعد إعفائهم أو إقالتهم أو انقضاء مدة ولايتهم، في حين أن الهيئات المنتخبة تمتلك هذه المسؤولية وهي مستعدة بذلك لكل أشكال وأنواع المحاسبة، ومن ثمة سيكون لزاما على التنمية المحلية أن تسير في طريق التطور والتقدم، على اعتبار أن هذه المسؤولية السياسية ستجبر المنتخبين على الكد والاجتهاد من أجل تطبيق برامجهم الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.. التي على أساسها انتخبوا، فهي الداعم والمحرك الأساسي لعجلة التنمية ومن دونها لا يمكن للمغرب أن يسير على درب الرقي والازدهار الذي يتطلع إليه. وعلى هذا الأساس يمكن القول على أن المسئولية السياسية القائمة على أسلوب ومبدأ الانضباط الذاتي للمسؤول المنتخب أحد أهم مظاهر النضج السياسي في الدول الديمقراطية، فهي، كما يشرح أحد المهتمين بالميدان، تعبير عن نوع من الجزاء الذي يوقع على المسؤول عند الإخلال بتطلعات الفئة الناخبة، وفي حالة انتهاء الولاية أو الاستقالة الاختيارية فإن المسؤول هو أول من يوقع هذا الجزاء على نفسه بما يتضمنه هذا من تعبير عن أعلى درجات الاحترام ليس فقط لجمهور المواطنين وإنما للمنصب نفسه.