إصراري على تقييم واقع الشعوب العربية عند كل ذكرى سنوية لانفجار ثوراتها في شهري كانون ثاني وشباط من العام 2011، ليس من باب الترف الفكري، أو الاهتمام بالشأن العربي العام بعيدا عن الاهتمام بشأننا كمجتمع عربي في الداخل الفلسطيني يعاني ما يعاني بسبب سياسات التمييز العنصري والقهر القومي التي تمارسها إسرائيل ضدنا منذ قيامها وحتى الآن، أو نوع من التحليق الرومانسي في سماء احداث لم يبق منها عند البعض إلا الركام والاطلال والاشلاء والدماء من جهة، وتراجع الأداء العربي على المستويين الرسمي والشعبي حتى وصل حضيضا غير مسبوق في تاريخ الأمة منذ تشكيلها في عهد النبوة وحتى الآن من الجهة الأخرى. لكني أرى ان مجتمعنا العربي في الداخل الفلسطيني يمكنه تعلم الكثير واستخلاص العبر والدروس من تلك التجربة التي ما زالت مستمرة بالرغم من إجرام الأنظمة العربية وجبروتها وعمالتها الصريحة، فنحن في النهاية مجتمع عربي يتأثر سلبا او إيجابا بما يدور حوله من احداث وبما تمور به المنطقة من تطورات، كما اننا جزء لا يتجزأ من ديناميكية عربية شاملة تحاول ان تجد لها طريقا وسط أمواج الأحداث المتلاطمة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. ولأننا قبل كل ذلك وبعده طرف في الصراع كضلع أساس من أضلاع الشعب الفلسطيني صاحب القضية المركزية الأولى على مستوى العالم والتي ما زال تأثيرها الحاسم على الاستقرار والأمن الدوليين بارزا لا ينكره إلا جاهل! (1) مرت سبع سنوات على بدايةِ حركةِ غيرِ واحدٍ من شعوبنا العربية في محاولة جادة لنفض غبار السنين المتراكم استبدادا وظلما وفسادا، والتي خَلَّفَت من ورائها أرضا محروقة جَرَّفَتْ كل شيء جميل في حياة هذه الامة حتى كادت تنسى تاريخها العظيم، وإمكاناتها الهائلة المتاحة في حاضرها، ففقدت الأمل في المستقبل، والثقة في قدرتها على تجاوز الازمة.. قبل ان بدأت ثورة الشعوب أسأنا الظن في امتنا وشعوبنا العربية إلى حَدٍّ اعتقدنا معه ان هذه الشعوب قد ماتت، ولم يعد هنالك امل مهما كان ضعيفا في عودتها الى الحياة.. اعتقدنا خطأً أن أنظمة الدكتاتورية المتوحشة التي حكمتها لعقود نجحت الى حد كبير في تدجينها وتطويعها في خدمة مشاريعها الخيانية داخليا وخارجيا، كأنما حولتها الى (روبوتات / أجهزة آلية) تحركها ايدي النظام بعد ان سلبت عقولها وإرادتها، بهدف تنفيذ عمليات (كاميكازي)، يضحي فيها الشعب بنفسه وبمصالحه بشكل طوعي من أجل حماية الأنظمة التي تغتال شرفه وكرامته وتمتص دماءه وتقضي على كل فرص نهضته.. سبع سنوات مرت، وما زالت هذه الشعوب تخوض معركتها ضد أنظمة الفساد والاستبداد وأذرعها المختلفة (الدولة العميقة) التي خَنَسَتْ لفترة من الزمن امام موجات الثورات العاتية، لكن خنوسها لم يكن استسلاما كاملا وشاملا للشعوب، وإنما كانت (حركة !!) خبيثة شكلت فصلا اسودا مَهَّدَ لعودتها بصورة اكثر شراسة ووحشية.. ما يجري في ليبيا ومصر واليمن وسوريا، امثلة فقط لهذا الصراع الذي تخوضه الشعوب حماية لإنجازاتها التي حققتها في السنوات الأربعة الماضية.. كان من ثمرات الثورات العربية التمرد على دوامة الخوف التي كانت الأداة الفعالة في ايدي أنظمة الظلام المجرمة لترويض شعوبها وتحويلها الى كتل من اللحم بلا مشاعر ولا طموح ولا أحلام ولا كرامة.. اثبتت تجربة السنوات الماضية ان هذا التحرر من قبضة الخوف لم يكن ظاهرة عابرة، او طفرة لن يطول عمرها، ليعود الخوف من جديد وبصورة اشد تأثيرا على الوعي الجمعي للشعوب، خصوصا وان الأنظمة العائدة الى السلطة قد استباحت كل محرم في سبيل تشديد قبضتها على مقاليد الحكم، بما في ذلك استباحة الدماء والحريات الشخصية والجماعية، تدمير الحضارة والعمران على رؤوس الأبرياء من المدنيين، واستعمال القوة العسكرية الطاغية والغاشمة في مواجهة المتظاهرين والمدنيين العزل.. استعداد هذه الشعوب العربية في ليبيا ومصر واليمن وسوريا، إضافة الى الأمواج العاتية تحت السطح في أكثر الدول العربية، للمضي في طريق الثورة حتى النصر او الشهادة، ودفع الاثمان الباهظة من الدماء والاشلاء والمعاناة والتشريد والسجون والتعذيب والتنكيل، دفاعا عن الكرامة والحرية، ولسان حالهم ومقالهم ينشد: وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ كلها تزيدنا قناعة ان قرار الشعوب بإنجاز الاستقلال الثاني (بعد الاستقلال الأول بعد انتهاء حقبة الاستعمار الحديث)، هو قرار استراتيجي وليس تكتيكيا محكوما بالمكان والزمان والحال.. قرار عَمَّدَتْهُ الشعوب بالدم، ولذلك لن تتوقف حتى تهزم أنظمة الاستبداد لتمنح الفرصة لشمس الحرية ان تشرق بعد عقود طويلة من الغياب.. (2) عرفت شعوبنا في سنوات المعاناة االسبعة الماضية أن الحرية لا تُوهَب أو تُمنَح للناس هكذا بكل بساطة دون تضحيات جسام وضريبة يدفعونها من أرواحهم ودمائهم وأعصابهم وراحتهم ، وأن شعوبنا العربية وشعوب الأرض لم تنل حريتها من المحتلين والمستعمرين والطغاة والظالمين وأنظمة الحكم الفاسدة بغير ثمن باهظ وتضحيات كبيرة يبذلها الرجال والنساء والشباب والشيوخ ، وكل من تتوق نفوسهم للحياة الحرة الكريمة دون إذلال أو مهانة .. لذلك تستحق منا هذه الشعوب ان نعلن اعتزازنا بها وافتخارنا بتضحياتها، وثقتنا بنصرها، وذلك بعد ان قدمنا لها الاعتذار على إساءة الظن بها قبل انفجار بركان ثوراتهم ضد جلاديهم، وإن كان ذلك ثمرة مرة لصبر دامَ عقودا طويلة تجرعت فيها معها كؤوسا مترعة من الذل والهوان في كل ساحة وميدان… لقد تفاجأتُ من التطور المتسارع للأحداث واستمرار الثورات العربية بكل قوة حتى الآن، ونجاحها في فرض شرعيتها على اجندة العالم العربي والمجتمع الدولي، الى درجة فرضها لخريطة تحالفات ستغير الواقع في الشرق الأوسط الى امد بعيد … تفاجأت من شجاعة هذه الشعوب التي أعادت إلينا الأمل من جديد … لم أتصور في أكثر أحلامي وردية أن نصل إلى هذا اليوم المشهود الذي بدأت فيه شعوبنا تصنع تاريخا يليق بها وبمكانتها كما نتخيلها ونريدها، ويضعها على طريق الإقلاع في عالم الإنجاز والإبداع، تماما كما كانت على مدى قرون، بالرغم من الصورة القاتمة التي نراها امامنا والتي لا تدعو إلى التفاؤل … من نافلة القول التأكيد على تأييدنا الكامل لحركة الشعوب في عالمنا العربي بهدف تغيير الأوضاع المتردية، والتخلص من تلك الأنظمة الاستبدادية المزمنة التي تصر بكل وحشية على مواجهة هذه الحركة الطبيعية والمتفقة شكلا ومضمونا مع روح العصر وتوْق الشعوب إلى الحرية والعدالة والكرامة الوطنية، الأنظمة التي سئمتها الشعوب بعد أن عطلت مؤسساتها، وفرطت في حقوقها، وامتصت خيراتها لمصلحة قلة من منتفعيها، لأن ذلك حق دستوري وطبيعي تقره وتكفله الأديان والشرائع والقوانين ، بل هو واجب شرعي تأثم الأمة كلها إن لم تنهض به على الوجه الأكمل، وتُعَرِّضُ نفسها إلى سلسلة من العقوبات الإلهية إن هي قَصَّرَتْ في القيام به، أقلها حبس الرعاية الربانية عنها، وتشديد قبضة الظلم عليها حتى تعود إلى الاضطلاع بدورها وأداء الأمانة الملقاة على عاتقها في الضرب على يد الظالمين، فإما الاستجابة لمطالب الشعب، وإما الخلع والإبعاد كما جاء في قواعدنا الشرعية …. (3) يبدو أن أكثر الأنظمة العربية لم تُبْقِ لشعوبها خيارات غير الاستمرار في الخروج إلى الشارع في ثورات شعبية عارمة بهدف إسقاط منظومات الاستبداد فوق إسقاطها للمستبدين، وتحرير نفسها من أغلال الدكتاتورية التي ظنت للحظة أنها قد أطفأت في نفوس شعوبها شعلة الكرامة الوطنية ، ونجحت في شلِّ حركتها بسبب ما فرضته عليها من ثقافة الخوف بسبب قبضة أجهزتها الأمنية الحديدية، وبسبب ما روجت إليه من ثقافة الاستهلاك الغرائزي التي امتلأت به فضاءات العرب من خلال (كباريهات) الإعلام الرسمي المفتوحة، وحلفائه في قطاع الإعلام الخاص التي سخرت نفسها لخدمته ولو دمرت في طريقها حصون الأمة الأخلاقية والقيمية… جاءت الثورات/الانتفاضات/ الحركات الشعبية لتثبت أن الشعوب العربية قد تصبر طويلا على الظلم وحكم الاستبداد وظلم الدكتاتوريات، إلا أنها إن تحركت فهي قادرة على إحداث التغيير المطلوب ولو بعد حين، مهما كلفها ذلك من ثمن. واضح أن الشعوب العربية قد وصلت إلى قناعة أن أنظمة الاستبداد واستئثار الحزب الواحد بالسلطة الكاملة، والإعداد (لتأبيد !!!) نظام الحكم من خلال استحداث نظام التوريث بمعناه الحرفي أو السياسي، واختزال الدولة والشعب والمال العام والثروات في شخص الرئيس (الصنم الإله !!!) الذي لا يُسأل عما يفعل، وتزييف إرادة الشعب والضحك على ذقنه من خلال انتخابات مزورة وصورية، كل ذلك لن يتم تغييره بالبيانات والتصريحات وملاطفة النظام واستجدائه لرفع حذائه عن كرامة الشعب ولقمة عيشه وقراره، وإنما يكون بالثورة الشعبية عليه، واقتلاعه من جذوره وإلقائه في مكب نفايات التاريخ. أنا لا أستطيع أن أتنبأ بنتائج ما يجري في أكثر من دولة عربية، لكني على ثقة بأن حاجز الخوف قد انكسر بالفعل، ولم يعد أمام النظام العربي في اغلبه إلا أن يرحل، لتتسلم القوى الحية مهمة الإنقاذ ووضع الآليات لعملية انتقال سلسة إلى مرحلة الحريات والديمقراطية الحقيقية، ووضع الضمانات القادرة على حماية الإنجاز من المتربصين والنفعيين، ووضع دستور يؤمن مسيرة الشعب من خلال ضمانٍ لتداول السلطة بين أحزاب الأمة وقواها الحية، ويكفل رحيل الاستبداد إلى الأبد في ظل إطلاقٍ لحرية التنظيم والتعددية الحزبية والصحافة، وتعميق وسائل الرقابة والشفافية، وضخ ثقافة احترام الرأي والرأي الآخر ما لم يخرج عن ميراث الأمة وهويتها الدينية والقومية والوطنية. لن يكون مقبولا من الآن فصاعدا على الشعوب العربية (شراؤها) ببعض التعديلات التجميلية المزيفة، ولا (امتصاص) غضبتها الحقيقية من خلال إقالة حكومة هنا أو هناك، فالشعوب أذكى من أن تنطلي عليها هذه الحركات البهلوانية المكشوفة… الشعب قرر إسقاط منظومة الاستبداد كلها وليس فقط رأس هذه المنظومة أو بعضها، فمرض سرطان الاستبداد يجب أن يجتث من جذوره، وإلا سيبقى مهددا لصحة الجسم كله. (4) قلبي على هذا الحراك الشعبي من أعداء ثلاث… أولها، منظومة الاستبداد بما تملكه من وسائل الترهيب والترغيب. وثانيها، المتسلقون من صيادي الفرص من القوى العلمانية الاستئصالية الذين يتأهبون في الخفاء (لسرقة) الثورة، او إعاقة مسيرتها (مصر كنموذج) الى درجة دعم الانقلابات لمنع القوى الشعبية الحقيقة من الوصول الى السلطة وإن عبر صناديق الاقتراع، كما حصل في عالمنا العربي بعد فترات التحرر من الاستعمار الغربي، والتي شكلت شعوبنا المخلصة وقودها الحي، لكن الخفافيش التي نعاني منها حتى اليوم اختطفتها من أصحابها الشرعيين، وصادرتها تحت مختلف الشعارات لتحول تحررنا إلى استعمار أشد فتكا من استعمار الغرباء. وثالثها، أنظمة الغرب عموما والولايات المتحدةالأمريكية وروسيا خصوصا، وبعض القوى الإقليمية كإيران ودولة الامارات العربية، التي دعمت بكل قوة الدكتاتورية قبل حقبة الثورات وبعد انطلاقها، وغضت الطرف عن جرائمها بسبب ما تقدمه في سبيل سياساتها وامتيازاتها ومصالحها من خدمات جليلة، بل وساهمت في أكثر من مناسبة في الإجهاز على محاولات حقيقية للتغيير في عالمنا العربي والإسلامي كما حدث في الجزائر وفلسطين، ثم هي تأتي اليوم لتُخَيِّلَ للرأي العام العربي من سحرها أنها تسعى لدعم الثورات الشعبية ، وهي في ذلك ليست أكثر من أفعى تحاول أن تلدغ هذه الجهود في مقتل … أنا على ثقة من قدرة ملايين الثائرين على تفويت الفرصة على كل هؤلاء الأعداء، وعلى أن يرسموا بصلابتهم ووحدتهم وإيمانهم واستمرار ثوراتهم، لوحة النصر في حياة امتنا، وعلى أن يفتحوا بوابات الأمل أمام الأجيال لطالما اشتاقت إلى يوم ميلادها من جديد… *** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني