مفتي القدس يشيد بدعم المغرب تحت قيادة جلالة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟        إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عصر القومة ونهاية إيديولوجيا الاستخفاف
نشر في هسبريس يوم 06 - 02 - 2011

بسم الله وبالله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه وإخوانه وحزيه.
وبعد،
بداية دعونا نقف وقفة إكبار وإجلال لإخواننا الفلسطينيين رمز المقاومة والعزة والإباء، تحية الصمود للمقاومة الفلسطينية التي سرت روحها في شرايين الشارع العربي الإسلامي، المقاومة التي ألف المشاهد المسلم مناظرها اليومية على الفضائيات كأنها حدث يعيشه، تنقل له معاناة الشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة مخططات الصهاينة. لا نتنكر ولا نتناسى ما لهذه الأخيرة من فضل بعد فضل الله تعالى على الوطن العربي والأمة الإسلامية. رفعت المقاومة الفلسطينية رأس الأمة عاليا، وأحيت فيها روح المقاومة وجهاد الظلم بعد عصور الصمت والانبطاح وركوب موجة المفاوضات مع كيان لا يرى في العرب والمسلمين إلا وجه العدو الذي يهدد مصيره ووجوده وأمنه. أعطت الدرس العملي لكل من اقتنع بأن مصير الشعوب العربية المسلمة وقدرها التاريخي هو التبعية للغرب والخنوع للحاكم العربي المستبد. نحتت في وعي العقل العربي المسلم وما تزال إمكانية النصر متى توافرت شروطه الإيمانية وعدته التدبيرية وعتاده المادية. إنه جيل تربى في حمى بيت المقدس الذي بارك الله حوله وببركته وبركة المقاومة تتحرك الشعوب العربية التي سئمت وضعها، إنها تنتفض على ذاتها أولا والبقية تأتي تباعا.
إننا في هذه اللحظة التاريخية إخواني أخواتي نعيش "عصر القومة والمقاومة" بامتياز بطلها وقائدها وإمامها الشعب الفلسطيني الصامد قاطبة. اليوم وغدا تتغنى الأمة كلها ببطولة المقاومة ومجد والبذل والتضحية، وغدا تمد يدها إلى عالم المستضعفين. إنها البشائر تلوح في أفق مليء بالحراك الشعبي العارم والتدافع السياسي المقاوم ضد الفرعونية والهامانية والقارونية وجنودهم. إنها السنن الكونية الشرعية تتجدد في مسرح التاريخ الإنساني ليرِي الله فرعون وهامان وقارون ما كانوا منه يحذرون وليعلموا أنهم كانوا خاطئين وأنهم استكبروا في الأرض وما كانوا سابقين كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز.
تتوالى الأحداث وتتشابك، تتداعى الأفعال وردود الأفعال، ما إن تمسك بخيط من التحليل رفيع حتى تفاجئك الأحداث بسرعتها هادمة كل التوقعات والتخمينات. لكن في غمرة هذه الأحداث يتراءى للناظر المتمعن والباحث الحصيف خيط واحد وخط أوحد لن يخلف الموعد مع تاريخ التمكين . إن هذه اللحظة التاريخية في حياة الأمة تعتبر لحظة حاسمة ومفصلية، تفصل بين عهدين عهد بائد بدأت ملامح القطيعة معه ترتسم في جغرافيا التدافع السياسي، وعهد جديد بدأت عناصر التأسيس له تنحت في وعي الإنسان العربي المسلم وإرادته، وتكتب صفحاته بدماء شهداء الحراك الشعبي العارم.
إذن، بجميع المقاييس، نحن أمام لحظة تاريخية بما للكلمة من معنى، نحن أمام تحول حقيقي نحو مستقبل منشود ظل لعقود طويلة يراود أحلام الفئات المقهورة المحقورة لا يبرح مكانه، تملئ شعاراته وخطاباته الدنيا على ألسنة القادة منذ أمد بعيد. أقول حقيقي لأنه من صنع من يهمهم الأمر، صنع بيد الشعب الذي عانى الأمرين، فقر الإرادة وشيخوخة الاستبداد على جميع الأصعدة، عانت منه الأمة لأنه حرمها أمال الترقي والتنمية والكرامة الآدمية. نحن أمام لحظة تاريخية صادقة يقابلها العقل العربي المسلم الآن بالدهشة والذهول، إنه- أي العقل العربي المسلم -تحت وقع المفاجأة التاريخية المنتظرة لكن لم يكن أحد يعرف وقتها أو يتكهن بمكان وقوعها رغم توافر جميع مؤشراتها الدالة عليها في جميع دول العالم العربي الإسلامي، ولن يستيقظ هذا الأخير إلا بعد حين لكي يدرك أهمية اللحظة بعدما يأخذ المسافة الزمنية اللازمة للإدراك الواعي ويعطي تفسيرا إيمانيا قدريا كونيا تاريخيا سياسيا للحظة التي عاشها. هكذا هي اللحظات المفصلية في تاريخ الأمم.
منذ 1924م تاريخ سقوط وتفكك الإمبراطورية العثمانية والشعوب العربية المسلمة تعيش مرارة وحرارة- ولا أقول تحت ظل لأن الظل يفيء الكائن إليه للرحمة الموجودة فيه- بقايا وشظايا "الرجل المريض" تلفح نيران تجزئتها الشعوب، تلك التجزئة التي مهدت للاستعمار وإحكام القبضة والسيطرة على الشعوب المسلمة المستضعفة. لكن هذه الأخيرة ولمدة عقود قاومت وجاهدت الاستعمار لتحرير الوطن لما اعتبرت الغازي المستعمر كافر عدو للدين وجب جهاده، حاكمته من منطلقاتها العقدية الشرعية ، لم يكن يدور بخلد هذه الأخيرة أن الاستعمار المباشر سوف يخلفه استعمار آخر أشد وأنكى على بني جلدته لا يراعي في الشعب إلا ولا ذمة.
تسلمت مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية نخب امتلكت العناصر العلمية لتدبير مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، صنعت وتشكلت ذهنيتها ونفسيتها في طاحون التعليم الغربي، ومنهم من استفاد من حالة الفراغ الذي فرضته اللحظة التاريخية، ومنهم من استفاد من صلات القرابة السياسية الحزبية أو العشائرية القبلية أو القوة العسكرية فرفعته إلى مقاليد السلطة. لم يملك الحكام القادمون إلى السلطة من بيداء العزلة عن الشعب وفيافي بؤس وفقر الإحساس بالمستضعفين من الشعب الحياد عن خارطة الطريق التي رسمها الاستعمار إنها خارطة الاستخفاف وإذلال المواطن العربي المسلم.
تنوعت الأنظمة العربية وتباينت في شكلها ورموزها لكنها توحدت في شيء واحد هو إيمانها العميق الراسخ بالايدولوجيا العربية للاستخفاف وتشربها لكافة تفاصيلها. جاءت من أقصى القبائل السياسية رموز تسعى إلى السلطة والحكم، وما منها إلا ورفع شعارات وألقى خطب رنانة طنانة يدغدغ بها عواطف ومشاعر المواطن العربي والجماهير المقهورة ويبشرها بفجر جديد تتنسم معه عبير الحرية، قلت ما منها إلا وأمعن في الاستخفاف وإذلال المواطن العربي المسلم واعتبره في أدنى مراتب الآدمية وعامله معاملة غير إنسانية.
إيديولوجيا الاستخفاف العربية تشربها الحاكمون في مدارس الغرب الفلسفية والسياسية عقيدة وسلوكا، فمهما رفع الغرب شعارات العدل والمساواة، ومهما أظهر الحاكم العربي على رقاب المسلمين من سلوك العطف الأبوي أمام وسائل الإعلام والتظاهر بمظهر الحنون العطوف تبقى إيديولوجيا الاستخفاف العربية بكل مكوناتها المفاهيمية من قمع وحصار وتفقير وتجويع وتجهيل متحكمة في سلوك القادة العرب.
إن الغرب المومن بمركزيته في هذا العالم ما كان ليقبل بشعوب تحررت من الاستعمار وبدأت البحث عن طريقها إلى جمع أنفاسها ثم البحث عن مواقع أقدام في الرقعة الدولية أن تنافسه نرجسية التمركز ونشوة قيادة العالم، لهذه الغاية صنع الغرب نخبا تتفانى في الإخلاص لهذه العقيدة/ الايدولوجيا التي يكتب المواطن العربي المسلم صفحاتها بدماء معاناته اليومية. إن الفرعونية المحلية ما هي إلا امتداد عضوي وظيفي للفرعونية الغربية التي تقود حضارة القرية الكونية اليوم.
تعيش الأمة العربية الإسلامية، ونحن على عتبة العقد الثاني من الألفية الثالثة، لحظات انقلاب وتحول تاريخي اندفعا بقدرة الله تعالى من وعي الشعوب وانبثقا من إرادتها التي تحررت أو بالأحرى بدأت من عقال "عقائد الاستبداد"، وعي فجرته المقارنة اليومية المتكررة بين طبقة تملك كل شيء وطبقة محرومة من كل شيء، وبين شمال متخم بالمادة وجنوب مثخن بجراح الألم والحرمان. لحظة انعطاف تاريخي اجتمعت شروطه التأسيسية وأمعنت أسبابه التنويرية في فعلها ودورها. نعم العناصر المادية لها دور أساسي في تحريك بواعث الثورة على الأوضاع القائمة القاتمة لكن الشعب العربي المسلم في نظري بحكم طبيعته وبنيته ونفسيته وعقيدته قد يجوع لكنه لا يصبر على معاناة الإذلال والاستخفاف والاحتقار والقمع والحصار.
درس بليغ يلقى هذه الأيام في وسائل الإعلام على مرأى ومسمع من الكل لا يمكن تخطيه بسهولة، إنها سنة الله تعالى في أخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر. إن الغرب الأمريكي لا يتردد لحظة في إزاحة الأوراق المحروقة التي ربطت شرعية وجودها في الحكم بمدى قدرتها على حماية مصالح الغرب في الوطن العربي وتأمينها. بعيدا عن سجال الشرعية وجدال المشروعية الشعب العربي المسلم اليوم يثور على حكامه ويدوس بقدم فكره كل الشرعيات المزعومة الموهومة، استفاق الشعب وبعض نخبه ليكتشف حقيقة التزوير التاريخي الذي قاده إليه مخطط الاستبلاد والاستبداد والاستعباد الذي عزف الحكام ألحانه وموسيقاه طيلة سنين عددا. اليوم وغدا بإذن الله تعالى تكتسب الأمة المناعة الكافية ضد المخدرات الفكرية لتنقلب هذه الأخيرة سببا يمعن في اليقظة والوعي ضد المؤامرة التاريخية التي تحاك للأمة حاملة رسالة الحرية من كل عبودية رسالة الكرامة الآدمية.
إنها الإرادة الشعبية تتجلى فيها الأقدار الإلهية في تحريك عجلة التاريخ اتجاه التغيير المحتوم وقطع دابر إيديولوجيا الاستخفاف الفرعونية الهامانية القارونية القرونية. يدخل العالم العربي اليوم وأقصد به اليوم السياسي التاريخي وليس الزمني مرحلة تاريخية جديدة أبرز سماتها وأقواها انقلاب إيديولوجيا الاستخفاف على أصحابها وأخذ الله رؤوس الاستبداد ورموزه تباعا بذنوبهم السياسية فمنهم من حصب سياسيا ومنهم من أخذته الصيحة السياسية ومنهم من خسف الله به الأرض السياسية ومنهم من أدركه الغرق السياسي وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. إن منظر الزعماء العرب اليوم وهم مذعورون جراء ما يرون من زحف الإرادة الشعبية المتوثبة إلى التغيير بقدر ما يثير الشفقة النابعة من العواطف الإنسانية نبيلة الينبه على مدى تفاهة الزعماء العرب الذين يأوون إلى جبل الإصلاحات الشكلية ليعصمهم من "الغرق السياسي" ولم يفقهوا أن لا عاصم اليوم من أمر الله تعالى الا التوبة الانقلابية الى الله تعالى من عقائد الاستبداد والأوبة القلبية العقلية السياسية إلى منهاج الحرية وتحكيم الإرادة الشعبية. إنها إيديولوجيا الاستخفاف تعبر عن نفسها وتتجلى في أكثر اللحظات إحراجا، تحتقر ذكاء الشعب وسحرة الفكر والسياسة والثقافة والفن الذين ما يزالون في معظمهم قابعين تحت مظلة وهم الاستقرار عاكفين على نظام الحاكم يجمعون فتات موائده وفضلاته. يجري الحاكم إصلاحات شكلية وهو يعلم أنه المتحكم في كل شيء. إنها قمة البلادة السياسية حين لا يدرك الحاكم أن الشعب استفاق وأنه على وعي تمام بما يدور حوله، إنها البلادة السياسية حين يتأخر الفهم ويعبر عن نفسه في اللحظات الأخيرة. إنها علة البلادة السياسية التي تسقط عن الحاكم العربي أهلية الحكم قطعا، والحكم في الفقه السياسي يدور مع العلة وجودا وعدما.
إن هذه اللحظة التاريخية تظهر بوضوح وجلاء مدى ضعف الحاكم العربي الذي يتقوى بضعف شعبه وطيبوبته، ويتمسك بخيط العنكبوت الممدود من أمريكا التي لن تتردد لحظة واحدة في قطعه متى اقتضت مصالحها الحيوية ذلك. إن هذه اللحظة التاريخية التي كسر فيها الشعب العربي المسلم أصفاد الخوف وطوقه وقال لا لفرعون نظام الحكم جهارا وخرج لكي يعبر عن رفضه له ولوجوده في السلطة لا ينبغي لها أن تكون لحظة منعزلة جغرافيا، ولا منفصلة عن حركة التاريخ العربي الإسلامي وتراكمه، بل الواجب تأسيس الاستمرارية وتحدي التجزئة القطرية للدول العربية الإسلامية. إن لحظة الانتصار الحقيقة حين ينتصر الإنسان على قابليات الانهزام النفسية والعقلية في ذاته.
إن الحقوق تأخذ ولا تعطى هكذا يقول الحاكم العربي، أنا لا أعطيكم بل أنتم من ينتزع، هذا الدرس العملي لا ينبغي أن تنساه الشعوب في علاقتها بحكامها مستقبلا لأن الاستكانة إلى نشوة النصر تنسي الدروس والعبر ولا ينبغي ذلك لمن بذل وصبر.
الدرس الآخر هو أنه لا مناص للحاكم العربي من التصالح مع شعبه بشروط الشعب لا بشروط الحاكم وأن يعبر عن إرادة سياسية لتأسيس مستقبل جديد، ويترجم هذه الإرادة في إطار تعاقد جديد قوامه إعادة الاعتبار للشعب ونخبه الفاعلة وإلا فإنه "الغرق السياسي" شاء أم أبى. إنها حركة التاريخ وقوانين الاجتماع والسنن الكونية لا تحابى أحدا.
إن موسى الشعب وهارون الإرادة ومعهما الله جل شأنه يسمع ويرى لن يخشيا بطش فرعون الحكم إذا ذهبا إليه فقالا له قولا لينا لعله يذكر أو يخشى، وقال له موسى الشعب هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فإما أن يستجيب فرعون الحكم فيحقق المصالحة التاريخية مع ربه وشعبه، وأما إن كذب فرعون الحكم وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربك الأعلى فان الله سيأخذه نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
إن الشعب العربي المسلم ونخبه السياسية في حركتهما التغييرية يتحتم عليهما أن يتخذا عنوانا بارزا وشعارا واضحا لمطالبهما السياسية وشرطا في قيادتهما الجديدة هو التعبير الدستوري بوضوح عن الرغبة في "القيادة الخادمة" لا "القيادة الهادمة"، "الحاكم الخادم" لا "الحاكم الهادم" لمعنويات الشعب وإرادته ومصالحه، وكل ما خالف هذا المقتضى فلا اعتبار به ومحكوم عليه بالبطلان الدستوري. فلتهدم إذن عقيدة الحكم في الوطن العربي الإسلامي بمقتضى "أنا ربك الأعلى" ومقتضى " لا أريكم إلا ما أرى". المرحلة القادمة هي مرحلة تقوية التمثيليات الشعبية دستوريا وتقويتها وتمتيعها بالصلاحيات الحقيقية لتحصين خطوات الانتقال إلى الحرية والمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق الأمة المسلمة والاستمرار وفقها.
المرحلة القادمة هي تحرير دين الأمة والنظر في شؤونها الدينية وعلاقتها بربها من قبضة ووصاية فرعون الحكم وتنزيه الدين عن التوظيف السياسي واستقلال المؤسسات الدينية عن كل سلطة سياسية ورفع المؤسسات الدينية عن كل رقابة أمنية، بل الأفق- حين يصل مستوى إدراك الفاعلين ووعيهم إلى درجة ما ما بأهمية مقوم الأمة الديني ودوره في إعادة الاعتبار لها - هو تدخل المؤسسات الدينية لتوجيه الحياة العامة وفق مقومات الأمة التاريخية. نعم لحظات الانتقال التاريخي تحتاج إلى بصيرة العقلاء لا إلى جهل السفهاء، تحتاج إلى حكمة المخلصين لا إلى خبط المدلسين، تحتاج إلى صبر الصادقين لا إلى نزق الكاذبين. العاصم الأوحد من الانزلاق إلى الفوضى في لحظات التحول التاريخي بعد لطف الله تعالى هو الإيمان بالرفق عقيدة وسلوكا ورفض العنف نبذه مبدأ ومنهجا.
حكى الراغب الاصبهاني في كتابه "الأغاني" أن الرشيد لما ضرب أبا العتاهية وحبسه، وكل به صاحب خبر-جاسوس- يكتب إليه بكل ما يسمعه. فكتب إليه أنه سمعه ينشد:
أما والله إن الظلم لوم ... ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
قال: فبكى الرشيد، وأمر بإحضار أبي العتاهية وإطلاقه، وأمر بألفي دينار.
فتأمل هذه الحكاية لتدرك مدى الفرق بين حكام العض وحكام الجبر. وإلا فان الاستبداد ملة واحدة. فاعتبري بذلك يا امة وسطا ويا خير أمة أخرجت للناس تآمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
*كاتب وباحث مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.