أثار قرار المجلس العلمي الأعلى القاضي بالسماح للمرأة المغربية بتولي مهنة "العدول" خلافا بين الباحثين؛ و مما يؤسف لها أن النقاش كان حامي الوطيس بين صنفين من الناس وهم: الصنف الأول: باحثون خارج دائرة القرار و التشريع، فيبقى نقاشهم وجدالهم مجرد كلام؛ لا يقدم ولا يؤخر من الأمر شيئا، و صنف ثان: غير ملتزمين بأحكام الشريعة أصلا، و همهم الخوض في قضايا الشريعة قصد تنحيتها عن ميادين الحياة. لا ينكر أحد أن هذه المسألة من مئات المسائل المختلف فيها، و لا يوجد إجماع على منع المرأة من تولي هذه المهنة، وبالتالي لا يجوز لأحد أن ينكر على الآخر رأيا مخالفا ما دامت الأدلة تحتمله. من القواعد المقررة شرعا: "تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والعادات"، هذه القاعدة يعبِّر عنها بعض العلماء بقولهم:" لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان". وقد نقل الزركشي عن العز ابن عبد السلام أنه قال: "يحدث للناس في كل زمانٍ من الأحكام ما يناسبهم." وقال عمر بن عبد العزيز: "يحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور." وقد أجاد ابن القيم في هذا الباب فقال بعد أن ذكر أن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، ما نصه: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة . على ضوء هذه القاعدة شرع توثيق عقد الزواج، حيث لم يكن في زمن النبوة، و لا في الأزمنة القريبة، وكذا في بعض المناطق النائية اليوم شيء اسمه الاشهاد أو التوثيق لعقد الزواج، لكن درءا لأي تزوير أو إنكار، أو نفي للنسب أصبح يشترط الكتابة، وتوثيق العقد. حكم الإشهاد على عقد الزواج: حاليا في المجتمع المغربي يقوم بالإشهاد على الزواج شاهدان عدلان، وهما في الوقت ذاته يقومان بتوثيقه، وقد أوكل المشرع المغربي للموثقين" العدول" مهمة الإشهاد وتوثيق عقد الزواج في الوقت نفسه، وقد أحسن المشرع المغربي صنعا لدرء جميع الشبهات و شهادة الزور، بخلاف مصر فإن الموثق تنحصر مهمته في التوثيق دون الإشهاد. فمهمة العدول تنقسم إلى قسمين: أولا: الإشهاد، ثانيا: التوثيق. ولقد ذهب المالكية في المشهور و الحنابلة في قول و الظاهرية إلى أنه لا يشترط الإشهاد بل يكفي الإشهار و العلنية. و استدلوا على ذلك بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية رضي الله عنها، و أن عددا من الصحابة تزوجوا بغير شهود، إضافة إلى أن الأحاديث الواردة في الشهود ضعيفة و معللة فلا يصح الاحتجاج بها. فالزواج يكون صحيحا متى توفرت شروطه و أركانه، لكن المصلحة اقتضت إيجاب الإشهاد للعلل التي ذكرتها قبل. فالعقد لا يشترط فيه الشهود لا العدول ولا غيرهم في المذهب المالكي، وإنما يكتفي فيه بالإعلان و التصريح، و ذلك للحديث المشهور: " فرق بين النكاح و السفاح الدف". وليس ذلك يعني إسقاط الشهود بالمرة، وإنما معناه حضور الشاهدين عند العقد ليس واجبا لكنه مندوب فقط. لكن هل من الضروري أن يكون الشاهد ذكرا؟ هنا موطن الخلاف و محل النزاع. ذهب الشافعية و الحنابلة إلى أن النكاح لا ينعقد بشهادة النساء، وقال الحنفية و الظاهرية و الزيدية: تقبل شهادة النساء في النكاح، فعقد النكاح ينعقد صحيحا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، بل إن الظاهرية أجازوا شهادة أربع نسوة في النكاح عوضا عن رجل و امرأتين. و لأن النكاح مثل البيع في أنه عقد معاوضة فينعقد بشهادة النساء مع الرجال. و احتجوا بقول الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ . فالله عزوجل جعل لرجل و امرأتين شهادة على الإطلاق، و روي عن عمر رضي الله عنه أجاز شهادة النساء مع الرجال في النكاح و الطلاق و لم ينقل أنه أنكر عليه منكر من الصحابة فكان إجماعا على الجواز، و أن شهادة رجل و امرأتين في إظهار المشهود به مثل شهادة رجلين لرجحان جانب الصدق فيها على جانب الكذب. من هنا يمكن تبني موقف الراحل عبد الكبير العلوي المدغري القائل: و يشترط في الشاهد المنتصب للعدالة أن يكون موصوفا بصفة الإسلام و الحرية و العدالة يقظا غير مغفل، مقبولا لدى القاضي و مأذونا له في تعاطي خطة العدالة، مجتنبا ارتكاب المحرمات و كل ما يقدح في مروءة الإنسان. ومما يعضد هذا التوجه أن مهنة العدول في وقتنا الحاضر لا يعدو أن تكون مهمة تقنية شكلية تتلخص في تحرير العقود، ثم إيصالها إلى القاضي المكلف بالتوثيق على الشهادات بعد إتمام الإجراءات اللازمة، والتأكد من خلو العقد من النقص و التزوير أو معلومات خاطئة. ثم بعد ذلك تسجيل عقد النكاح في سجل خاص بالأنكحة ليثبت التوثيق.