صرح أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله تعالى بعدم موافقته على عقوبة المفطر علنا في رمضان، وأنه من المطالبين بحذف الفصل 222 من القانون الذي ينص على العقوبة السالبة للحرية مع التغريم. وشخصيا لم أفاجأ بهذا التصريح، لأنه يتوافق مع شخصية أستاذنا، ومع نسقه العلمي، ونفَسه الاجتهادي، لذلك تجده يصرح بتصريحات تدل على أنه يتجاوز أهل عصره في آرائه واجتهاداته، ولنا على ذلك أمثلة : أولها : رأيه في عقوبة الردة، وأنها ليست من الحدود الشرعية، بل هي من الأحكام التعزيرية التي يؤول تعزيرها إلى ولي الأمر ، وخالفه في ذلك الإسلاميون، وعلماء المجلس العلمي الأعلى الذين ما فتئوا يكررون قول الفقهاء في قتل المرتد. ثانيها : تنبيهه إلى ضرورة وجود لجنة للمجتهدين والمفتين بجانب الملك، وهو ما جوبه برد العلمانيين واليساريين، خصوصا الاستئصاليون منهم، وبعد أقل من عقد من الزمن، تمتشكيل لجنة للفتوى في المجلس العلمي الأعلى، ولم ينتقد إنشاءها من انتقدواالريسوني. ثالثها : في الوقت التي كانت مدونة الأحوال الشخصية تمنع ولد الزنا من كل شيء، تبعا للفقه التقليدي، اجتهد أستاذنا الريسوني، وقال بجواز إلحاقه بالنسب وإثبات حقوقه الأخرى بمجرد إقرار الزاني بأبوته للطفل، وبعد مدة، أقرت مدونة الأسرة ما وصل إليه اجتهاد أستاذنا في أطروحته للدكتوراه.... واجتهاداته كثيرة، يصعب علي استقصاؤها، ولعل تجاوزها لعصره، هو ما يسبب للمتتبعين عسرا في الفهم. الريسوني والإفطار العلني : غان عن البيان، أن أستاذنا الدكتور الريسوني هو فقيه الحرية بامتياز، وكثير من كتبه فيها فصل خاص بالحرية ومتعلقاتها، وأثناء الحديث عن الحرية انتقد القول بشرعية قتل المرتد، وتناغما مع هذا الأصل وانسجاما معه، قال بعدم معاقبة المفطر في رمضان، ولو قال بإنزال العقوبة عليه لكان رأيه نشازا، وغير منسجم مع آرائه الأخرى، لذلك أشرت ابتداء إلى أنه لم يفاجئني بهذا الرأي. وأستاذنا الريسوني هو أبعد الناس عن المطالبة بإنزال العقوبات، أقساها وأخفها على السواء، وهو من الداعين إلى الحوار والإقناع، في صغير الأمور وكبيرها، وحتى لما ظهرت حركة التنصير في المغرب، لم يطالب الدولة بالضرب على أيديهم بيد من حديد، بل قال " لقد أصبح لزاما على المغاربة عموما، وعلى العلماء والدعاة خصوصا، مواجهة هذه الحركة، والعمل على تحصين مجتمعنا وشبابنا من إغراءاتها واختراقاتها، وفتح الحوار المباشر مع دعاتها وضحاياها على حد سواء" ، في هذا النص، لم يوجه أستاذنا خطابه للدولة والحكومة أو جهاز النيابة العامة أو الشرطة القضائية، بل وجه نداءه إلى العلماء والدعاة وعموم المغاربة، وهذا متوافق مع نظريته أن "الأمة هي الأصل". ولو قال بضرورة معاقبة المفطر في رمضان سرا أو علنا لكان مخالفا لنظريته، ناقضا لأسسها. ردود الأفعال : مباشرة بعد انتشار رأي أستاذنا في وسائل الإعلام، بدأت تطالعنا المنابر الإعلامية بتصريحات تترى، ومواقف متسارعة، وكتبت العناوينوالمانشيطات الآتية : فلان يرد على الريسوني .... علان يرد على الريسوني .... وبدهي أن القضية التي يناقشها أستاذنا ليست بالقضية الهينة التي يمكن إقناع الرأي العام في شأنها بتدوبنة أو تغريدة، ناهيك عن مقال غير مبني على أسس. بل لا بد لمعالجة هذه المسألة من فتح نقاش مجتمعي حقيقي، يحضره العلماء والباحثون في المجالات الشرعية والقانونية والحقوقية وغيرها، من أجل إنضاج موقف وطني مناسب لعصرنا. والغريب في الأمر، أن بعض الردود التي انهالت على تصريح أستاذنا، انتقل أصحابها مباشرة إلى منطق التعالم، وهو منطق بئيس لا يُستنَد إليه في بلورة موقف علمي أكثر نضجا، من ذلك قول الدكتور الشريف حمزة بن علي الكتاني (صيدلاني، قيادي سابق في حزب النهضة والفضيلة) : "موقف الأستاذ أحمد الريسوني هذا خطأ فادح، مخالف للشرع، ولوظائف إمارة المومنين، وللخصوصية المغربية المتمثلة في تقديس خصوصية رمضان". وهذا كلام غير علمي ألبتة، وهو مليء بالتهويش والتهويل، حيث بموجبه أصبح أستاذنا وبجرة قلم مخالفا للشرع، مع أنه عاش مدافعا عن الشرع، وباحثا في الشرع، ومنافحا عن الشرع..... وبموجب هذا الكلام، أصبح أستاذنا مخالفا لوظائف إمارة المومنين، ويالخوفي عليه إن لفقت له تهمة ما بناء على هذا الكلام التحريضي غير العلمي... وما معنى أن أستاذنا مخالف للشرع ولإمارة المومنين وللخصوصية المغربية ؟ هل هذا كلام علمي ونقاش راقي أم أنه مجرد شيطنة للأستاذ المجتهد ؟ وما لم يقله الدكتور حمزة الكتاني أتمه شقيقه حسن الكتاني (أحد شيوخ ما اصطُلح عليه إعلاميا بالسلفية الجهادية)، حيث قال : "العلامة الشريف أحمد الريسوني نحبه ونحترمه، و لكن الحق أحب إلينا، وحماية الشريعة وما بقي منها أعظم واجباتنا اليوم، وما قاله الشيخ يخالف مقاصد الشرع"..... ولم يورد دليلا علميا واحدا يمكن أن يواجه به العلامة المجتهد، وكلامه واضح في أن الريسوني مخالف للحق، ولا يسهم في حماية الشريعة، ويخالف مقاصد الشرع.... مع العلم أن مقاصد الشرع لا تكاد تعرف في عصرنا إلا بالريسوني.... وإذا ثبت خلو القولين من الدليل والبرهان، بقي أن أشير، إلى أن القضايا الخطيرة لا نبت حكمنا عليها وفيها بالإنشاء، وإرسال الكلام على عواهنه، بل بمقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، وهو ما لم نجده عند المنتقدين. وقد تفاعل مع تصريح أستاذنا الأساتذة حماد القباج وعادل رفوش والبشير عصام وغيرهم، لكني لم أجد لأحدهم دليلا قويا في معارضة أستاذنا. كما لا يفوتني أن أنبه إلى أنه عورض من قبل المحافظين في حركة التوحيد والإصلاح ذاتها، مثل أستاذنا عبد السلام بلاجي والدكتور محمد نجيب بوليف. الريسوني والمخالفون : لا ينطلق أستاذنا الريسوني في اجتهاده إلا من الدليل، فما وافق الدليل قال به، وما عارضه الدليل ابتعد عنه، ولا يستدل بما درج عليه الفقهاء، قال فلان، ورجح فلان، واستظهر فلان.... لذلك يعتبر آراء الفقهاء واجتهاداتهم هي نُسخ من الدين، وهو يحاول الرجوع إلى ما يسميه النسخة الأصلية من الدين، وهي الرجوع إلى ما نص عليه القرآن ودل عليه الحديث وفهم الصحابة والتابعين، الذين يسمي نسختهم من الدين ب"نسخة المتقدمين" التي يجب الرجوع إليها للأخذ عنها أو المقابلة عليها... وهو لا يفهم التجديد الديني ولا يعترف به إلا إن كان على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق، "أي : إعادة التأسيس وإعادة الانطلاق، من الأصول الأولى، ومن المنطلقات الأولى" . فهل التزم المخالفون بالنسخة الأصلية من الدين ؟ أم رجعوا إلى نسخة المتقدمين وقابلوا عليها ؟ أم أنهم ذهبوا إلى كتب متأخري الفقهاء الذين أفسدوا الدين كما وصفهم الشاطبي رحمه الله ؟ ونموذج ذلك ما قاله الدكتور البشير عصام في رده على أستاذنا الريسوني،ونصه :"قال خليل في مختصره الذي هو عمدة المالكية في الفتوى والقضاء: (وأدب المفطر عمدا إلا أن يأتي تائبا). قال في التاج والإكليل: (اللخمي: من ظهر عليه أنه يأكل ويشرب في رمضان عوقب على قدر ما يرى أن فيه ردعا له ولغيره من الضرب أو السجن أو يجمع عليه الوجهان جميعا الضرب والسجن؛ والكفارة ثابتة بعد ذلك، ويختلف فيمن أتى مستفتيا ولم يظهر عليه فقال مالك في المبسوط: لا عقوبة عليه ولو عوقب خشيت أن لا يأتي أحد يستفتي في مثل ذلك وذكر الحديث، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب السائل". ونقل هذا النص وتبناه الأستاذ حسن الكتاني. ولست أدري ما وجه إيراد هذا النص ؟ فيه كلام الشيخ خليل والمواق واللخمي، وهم رجال والدكتور الريسوني رجل، وكلامهم ليس حجة عليه، وكلامه ليس حجة عليهم..... ومن قال: [قال خليل أو اللخمي]، أجابه الآخر بقوله [قال الريسوني]،،، وهو محق في ذلك.... وكلام الريسوني أولى بالاتباع، وأحق بالاقتداء، لعدة اعتبارات، منها : أولا : الريسوني عالم مجتهد، والمذكورون مقلدة، ومنهم من وصل درجة التعصب المذهبي. وكلام المجتهد أولى من كلام المقلد. ثانيا : على فرض أن المذكورين مجتهدون، فاجتهادهم وفرضهم للعقاب كان لزمانهم، حيث كانوا في بيئة مغلقة، لا أمم متحدة، لا مؤسسات حقوق الإنسان تنقط للدول سنويا ما يتعلق بحرية الاعتقاد و وو، لا مواثيق دولية، إلخ.... أما الدكتور الريسوني فيجتهد رأيه مستحضرا كل هذه الإكراهات، وهذه المستجدات، درءا للمفاسد التي يمكن أن تحصل للدولة عموما، في عرض جماعة من الناس كل سنة على أنظار النيابة العامة، وإدخالهم السجن، وتنظيم وقفات تضامنية معهم، واستصدار بيانات من جهات خارجية .... كل هذا يمكن تفاديه بإزالة ذلك الفصل من القانون وحذفه. رأي الريسوني والمنطق : لعل رأي أستاذنا الدكتور الريسوني أقرب إلى المنطق، وأغلب آرائه كذلك، لأن صوم رمضان يأتي في مرتبة متأخرة في أركان الإسلام مقارنة بالصلاة والزكاة، ومع ذلك لا نرى عقوبات زجرية منصوصا عليها في القانون الجنائي في شأن تاركي الصلاة، مع العلم أن تركها يقترن بوصف الكفر في بعض النصوص، كما أن الدولة لا تقوم بأدنى دور في جباية الزكاة، ولا تعاقب الممتنعين عن أدائها، وهم كثر أيضا، فلماذا تتضمن قوانين الدولة عقابا على ترك ركن الصوم، ولا تتضمن القوانين ذاتها عقوبات على ترك ركني الصلاة والزكاة رغم أولويتهما وأهميتهما ؟ أليس الأمر تفريقا بين المتماثلات ؟ والعقوبة المنصوص عليها في القانون المغربي هي عقوبة قانونية وليست عقوبة شرعية، ومن اعتبرها شرعية وهوّل من الأمر فقد استدرك على الشارع.... والله عز وجل ذكر في القرآن الكريم عقوبات قضائية مرتبطة بالحدود والقصاص، وكفارات الظهار والقتل الخطأ والحنث في اليمين.... ولما أوجب الله تعالى الصيام في القرآن الكريم، وتكلم عن بعض تفاصيله،لم يذكر في شأن المفطر عمدا حدّا ولا كفارة، ومن ادعى عقوبة شرعية هنا فقد استدرك على الله، وما كان ربك نسيا. وإذا تقرر أنها عقوبة قانونية صادرة عن اجتهاد بشري، فمن حق الأستاذ الريسوني أن يطالب بإلغائها أو إبقائها أو تعديلها. ويحق لنا أن نتساءل عن المصلحة من إبقاء الفصل 222، لعل إبقاء هذا الفصل فيه من المفاسد أكثر من المصالح، وبيان ذلك أننا إذا حذفنا هذا النص قد يفطر نفر قليل من الناس علنا دون أن نكترث إليهم، ونتجاهلهم، وانتهى الأمر، وقد ينقرضون، وقد يستترون، بدون اعتقال وبدون محاكمة.... أما إذا أبقينا على النص، فإنه سيكون مدعاة للاستفزاز والظهور، والتشويش على المسار العام للدولة، وسيتجلى ذلك التشويش في المحاكم، والتظاهرات في الشارع، وقد تكون هناك تظاهرات مضادة ومعاكسة، وما يصحب ذلك من تقارير حقوقية وطنية ودولية، وكل هذه الأمور نحن في غنى عنها.إضافة إلى مفاسد أخرى، وهي إحراج الدولة، كأن يتفق ألف شخص مثلا على الإفطار علنا في أماكن عامة في مناطق مختلفة من الوطن، فهل ستغض الدولة الطرف عنهم ؟ وهذا إلغاء عملي للقانون، أم أن الأجهزة ستعمد إلى اعتقالهم ؟ ولنتصور الحراك الوطني والضغط الدولي الذي سيصاحب المسألة. رأي الريسوني ... في طريق الإنضاج : للإبقاء على القانون أو تعديله لا بد من نقاش مجتمعي عميق وعلمي، بعيدا عن المهاترات الإيديولوجية، وذلك من أجل إنضاج الأفكار والنظر في مآلاتها وآثارها، وقد نرى تجليا لذلك في السنين القادمة، خصوصا أننا تعودنا على أجرأة آراء الريسوني على شكل قوانين بعد هدوء الزوبعات المثارة حولها، وبما أن العقوبة المنصوصة هي عقوبة قانونية وليست شرعية، فيمكن أن يسهم في تعميق النقاش حول الموضوع السادة العلماء والقضاة والمحامون وغيرهم. شبهات مثارة : أولا : قد يورد البعض أن السماح بالإفطار العلني قد يؤدي إلى السماح بالزنا علنا أو بفرض الزواج المثلي أو غير ذلك ...، وهذا غير وارد، لأن ما يتعلق بالعبادات مغاير تماما لما يتعلق بالمعاملات، فما يتعلق بالعبادات هو محصور بدرجة كبيرة بين الإنسان وربه، وقد تتدخل الدولة في مسائل تنظيمية، كتنظيم المساجد، وتحديد مواقيت الصلاة، وتحديد بداية ونهاية الشهور القمرية بالوسائل اللوجستية التي تملكها .... أما قضايا المعاملات مثل الزواج والطلاق وغيرهما فيحتاج إلى تنظيم قانوني، سواء كان مستمدا من الدين أم من اجتهاد البشر. ثانيا : قد يدعي البعض أن اعتقال المفطر علنا هو حماية له من عقوبة مجتمعية، وهنا لا بد أن نراهن على مسألة التوعية، حيث تحضر بقوة مسؤولية المجالس العلمية ووسائل الإعلام والبرامج التربوية ..... لترسخ في أذهان الناس أنه لا يحق لأحد أن ينتحل صفة القاضي في إصدار الأحكام، أو انتحال صفة السلطة التنفيذية في تطبيق العقوبة، وأن من قام بذلك فهو مخالف للشرع أولا، ومخالف لمقتضيات القانون ثانيا، ويخضع للعقوبة الزجرية المناسبة أخيرا. ثالثا : إذا حذفنا العقوبة الزجرية عن الإفطار العلني في رمضان، فإن الأمر لن ينتشر بسرعة وسهولة كما قد يتصور، لأن المجتمع محصن ضد هذه الآفات، ومن أعلن إفطاره فإن أبناء حيه وقريته أو مدينته قد ينبذونه، وهذا بحد ذاته عقاب، بل إن أبناء عائلته وأقاربه قد يتبرأون منه ويستنكرون عليه، وهذا عقاب أيضا، ومن فتح مطعمه أو مقهاه نهار رمضان، فإن المجتمع كفيل بعقابه بسلاح المقاطعة أو غير ذلك، وبالتالي سيلجأ المفطرون حتما إلى السر، وسنجنب بلدنا التشويشات الداخلية والخارجية، فنريح ونستريح. والله أعلم.