تكتسي العلاقات بين المكونات السياسية والمدنية للمجتمع المغربي طبيعة تنافرية وصدامية في مجملها؛ رغم وجود بعض التجارب الحوارية الناجحة التي لا يمكن القياس عليها للإقرار بوجود حوار حقيقي داخل المجتمع السياسي و المدني بكل مكوناته سواءًالمشاركة في اللعبة السياسية أو المشتغلة من خارج اللعبة و التي تنطبق عليهارغم ذلك قواعد الحقل السياسي بشكل عام دون أن تستطيع الإفلات منها. لأن عدم الحصول على المشروعية السياسية و القانونية من طرف السلطة السياسية القائمة لا يعني بتاتا التعالي عن السياق الذي يسم المشهد السياسي؛كما تتحكم طبيعة النظام السياسي القائم في الحركية الميدانية و السلوك السياسي لأي توجه توجه و أي مكون مكون.إن اللفظ الذي يمكن استعماله لوصف الوضع القائم في المغرب على هذا المستوى هو لفظ"حوار الصماء".وهذا راجع، من جهة،إلىاختلاف في الثقافة السياسية الموجهة للسلوك السياسي في الميدان و التي ينهل منها كل توجه افكاره، قيمه، مفاهيمه، تصوراته، معتقداته، آراءه، معارفه وأساليبه في التنظيم في إطار علاقته مع الشأن السياسي . وناتج ،من جهة اخرى، عن عدم الاقرار بالاختلاق الايجابي و غياب أية محاولة تنسيق قصد القيام بتدبير ايجابي لهذا التعدد خارج السلوك الذي يبحث لنفسه عن الهيمنة أو الهيمنة المضادة اديا الى ما نحصده الآن من أزمة في التواصل السياسي الجاد داخل المشهد السياسي المغربي. لقدأثبت التاريخ كما الممارسة الميدانية، بما لا يدع مجالا للشك، أن نجاح أي تجربة حوارية يستلزم وجود بعض القواعد،المتوافق عليها، المنظمة لهذا الحوار. و القاعدة الجوهرية التي من الضروري ان تحكم منطق صياغة هذه القواعد هي حرية التعبير و احترام الاختلاف في المواقف السياسية والمدنية التي ينتج عنها اختلاف فيالسلوكيات السياسية و المدنية. هذا الاختلاف الناتج، في عمقه، عن اختلاف طرق إدراك الناس للواقع و تصورهم له. و لما كان الناس لا يتوفرون لا على نفس الحواس و لا على نفس التكوين و اختلاف البيئة التي ترعرع فيها هؤلاء، فمن الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في السلوكيات و الممارسة.
ولاشك في أن الإطار الحضاري الذي استطاع حتى الأن استيعاب كل التوجهات على اختلافها هو الإطار القيمي الحداثي. من المعلوم أن الحداثة لها سياق تاريخي، إن لم نقل هي السياق التاريخي ذاته، وعرفتها منطقة جيوسياسية محدَدة ومحدودة. هذا الإطارالقيمي يشمل مجموعة من المبادئ الأساسية يؤسس بعضها لبعض في شكل نسقي وعلائقي متكامل. لذلك نجد مبدأ الديمقراطية مترابطمع مفهوم العلمانية و العقلانية مثلا. وبالتالي لا يمكن الحديث عن ديمقراطية بدون عقلانية أو بدون علمانية.كما لا يمكن الحديث عن علمانية أو عقلانية بدون ديمقراطية و هكذا دواليك. الا اننا مع ذلك لا نطرح هذا الاطارالقيمي كنظام جاهز لا ينقصه إلا التطبيق؛ بل المسألة تتعلق بتجديد القيم و ضخ دماء جديدة في الجسم القيمي المجتمعي. هناك من يرفض العلمانية مثلا بدعوى أنها منتوج "غربي"مستورد. هذه فكرة متهافتة و لا أساس،تاريخي و لا علمي، لها من الصحة. بل إن من يقول بكذا كلام يعبر عن عدم إلمامه بالتاريخ الإنساني في جوانبه الأساسية. فمن المعلوم أن الثورات و التطورات التي حدثت فيما يسمى ب"عصر الانوار" لم تتم في معزل عن الحضارات الإنسانية ككل بل هي نتيجة لتفاعل حضاري قوي بين الحضارات الإنسانية. لقد أثبتت مجموعة من الدراسات أن جل التصورات التي تبنى على "قراءة انقسامية" للتاريخ لم تعد ذات أهمية كبرى كما أصبحت متجاوزة في مضمونها، لاسيما النتائج التي تؤدي اليها. بالإضافة إلى أن الحضارة الامازيغية اي حضارة شمال افريقيا كانت مصدر نظري و عملي لإرث لا يستهان به في هذا المجال؛كما لم تتوقف هذه الحضارة عن التفاعل مع الحضارة الاوروبية والحضارة العالمية. إننا لفي حاجة ماسة ،تتأكد يوما عن يوم، إلى إطار فكري قادر على استيعاب كل التوجهات الفكرية و السياسية وغيرها، يصلح بذلك إطارًا للنقاش الناجع و الفعال بعيدا عن السجالات العقيمة و الضيقة هنا وهناك. هذا كله و لا نطرح ان العلمانية حل بل هي فقط مبدأ، من مبادئ هذا الاطارالذي يسمح بإنزال النقاش من السماء إلى الارض ويصبح بذلك الحوار حوار عقلاني، هادئ، مسؤول و ناجع. نقاش و سجال حول قضايا من صميم اهتمامات الشعب في مقابل النقاشات المفتعلة و حوارات الترف الفكري و السياسي. هذا هو التصور الذي يجب أن نأخذ به خلال معالجة مفهوم العلمانية بدل الهرولة إلى البحث عن الشحنات الإنفعالية السلبية التي رافقت ظهور و تطور هذا المفهوم. لا أحد ينكر أن السياق الذي ظهر فيه هذا المفهوم كان سياق احتقان حقيقي بين الكنيسة و مناهضي رجال الدين و الدين نفسه. لكن هذا لا يسمح لكل ذي عقل سليم وقدر متواضع من الذكاء أن يخلط المفاهيم إلا إذا كان مشروعه السياسي أو غيره لا يستوي خارج هذا الخلط. لا يمكن ،كذلك، انكار حقيقة أن إقحام العلمانية في السجال السياسي والصراع حول المواقع و البحث عن كسب ثقة الأغلبية المجتمعية ،إن وجدت، ولو بطرق ملتوية من خلال اللعب على سيكولوجية الجماهير...الخ؛ ذلك كلهأدى إلى تغيير المجرى الحقيقي لهذا المفهوم حتى أصبح مفهوم العلمانية مرادفا للإلحاد و اللادينية وما شابه ذلك من ألفاظ تشويهية لا تعكس حقيقة المفهوم في شيء، اللهم عكسها للأساليب المراوغة و التكتيكات المستعملة في التشويه و التحريف لمسار المفهوم. إذن، لابد من التفكير بجديَة و بعيدًا عن المزايدات السياساوية الضيقة حول هذا الاطار و البحث عن السبل الكفيلة بترجمة مضمونه، كإطاري ينضبط في اشتغاله لمجموعة من المبادئ قادر على استيعاب الاختلاف و قولبته دون قتله و القضاء عليه كما هو حال الإطارات الأخرى التي لا تتَسع حتى لأصحابها، على أرض الواقع دون التَوقف عند التسمية كما هو حال كل السجالات العقيمة و التي لا خير يرجى منها. كما يجب التوقف عن استغفال الناس بالتسويق لمعاني مختلقة، لاتوجد في أي من المراجع العلمية حول الموضوع، اللهم وجودها في عقول مختلقيها؛لأن هذا الاستخفاف بذكاء الناس يضر بصاحبه قبل كل شيء و يفقده المشروعية في كل شيء. دعونانبني اطار يسمح لنا بالتفكير بكل حرية ودون قيود واهية، كل في مجال اختصاصه، حول الاختيارات العامة التي تعود بالنفع على هذا البلد أولا، ثم ننصرف الى الصراع السياسي المشروع والشريف حول ظروف وكيفية انجازها.