شيء جميل وجد مشرف، ذلك الإصرار المتواصل على رفض التقليص من سنوات الدراسة، الذي يبديه الطلبة بكليات الطب والصيدلة وطب الأسنان في المغرب منذ مدة ليست بالهينة، وتكمن قوة هذا الإصرار غير المسبوق في كونه يكشف عن مدى حرص نخبة من أبناء الوطن البررة على عدم استعجال التخرج والرغبة الجامحة في الاستفادة من تكوين أكاديمي جيد ومتين، يؤهلهم للإسهام بفعالية في الرفع من جودة الخدمات الصحية، التي يمكن تقديمها للمواطنات والمواطنين في المراكز الاستشفائية وغيرها. حيث أنه بمجرد إصدار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في صيف عام 2022 مذكرة بخصوص تقليص مدة الدراسة بكليات الطب والصيدلة وطب الأسنان من سبع سنوات إلى ست سنوات فقط ابتداء من الموسم الدراسي 2022/2023، حتى انتفض "أطباء المستقبل" ضد هذا القرار الارتجالي، معتبرين أن القبول بتطبيقه على أرض الواقع سيكون له ما بعده من حيث التداعيات السلبية على تكوينهم من جهة، وجودة الخدمات الصحية المقدمة للمرضى من جهة أخرى. وبما أن وزارة الصحة والحماية الاجتماعية ومعها وزارة التعليم العالي لم تتفاعلا مع مطالب الطلبة، المرتبطة أساسا بضعف التكوين والتأطير، وفي ظل الغموض الذي يلف مرامي القرار القاضي بخفض سنوات الدراسة، الذي اتخذ على عجل وبطريقة انفرادية دون إشراك الأساتذة والطلبة، فإن طلبة الطب والصيدلة وطب الأسنان بجميع الكليات، قرروا خوض إضراب وطني مفتوح عن التداريب الاستشفائية والدروس النظرية والتطبيقية منذ منتصف شهر دجنبر 2023، وأعلنوا جميعا عن انخراطهم في المسلسل النضالي من خلال تسطير برنامج يلائم خصوصيات الشعب، محملين وزيري الصحة والتعليم العالي: خالد آيت الطالب وعبد اللطيف الميراوي مسؤولية التوتر القائم في الساحة الطلابية ووسط الجموع العامة. إذ أنه أمام تعنت وتماطل المسؤولين في اجتماعات ماراتونية لا ترقى إلى مستوى تطلعات الطلبة، لم يقف الأمر عند حدود الاحتجاجات والتنديد بالقرار والمطالبة بالتراجع عنه، بل تعداه إلى مقاطعة جميع الامتحانات وتنظيم وقفة احتجاجية وطنية أمام البرلمان، للتعبير عن رفضهم البات لاستمرار تجاهل الوزارة الوصية لمطالبهم، إلى جانب اعتمادها سياسة الآذان الصماء وانعدام الوضوح والشفافية، إضافة إلى التأكيد على رغبتهم في تحقيق إصلاح شمولي للتكوين الطبي والصيدلي بالمغرب والارتقاء بجودته. وعلى إثر نجاح مقاطعة الامتحانات بكافة كليات الطب والصيدلة العمومية البالغ عددها إحدى عشرة كلية، وعدم تعاطي الحكومة المباشر مع الملف المطلبي برمته، فإنه وحسب بلاغ صادر عن اللجنة الوطنية لطلبة الطب والصيدلة وطب الأسنان، قرر طلبة السنة السادسة الانخراط في إضراب عن التداريب الاستشفائية، يشمل الحراسات والمداومات الليلية والنهارية أيام الخميس والجمعة والسبت 18 و19 و20 يناير 2024. وسارعت ذات اللجنة إلى الإعلان عن انطلاق مسيرة وطنية بيضاء عصر يوم الجمعة 19 يناير 2024 من أمام وزارة الصحة والحماية الاجتماعية وصولا إلى ساحة البرلمان، للتعبير عن الرفض الشديد لما وصفته بالوضعية الكارثية التي يعيشها الطلبة داخل منظومة التكوين الطبي... فبينما يتم الترويج لكون عديد الدول الأوروبية والأمريكية تعتمد تكوينا من ست سنوات أو أقل، وادعاء وزير التعليم العالي في معرض رده على تعقيبات البرلمانيين يوم الإثنين 29 يناير 2024 بأن موضوع خفض سنوات الدراسة لا يستحق كل هذا "التسييس"، خاصة أن المغرب مقبل على تحديات كبرى في إصلاح المنظومة الصحية، مما يقتضي اتخاذ هكذا قرار يهدف إلى تجويد التكوين بعيدا عن أي تقاطب أو تجاذب حادين، مذكرا بأن السنة السابعة من التكوين الطبي لا تتضمن دروسا، وإنما هي مجرد تدريبات ميدانية، فضلا عن أن هذا الإجراء أملاه الورش الملكي الخاص بتعميم الحماية الاجتماعية وتعزيز الإمكانات والقدرات الطبية الوطنية من أجل إنجاح هذا المشروع الاجتماعي الضخم. يرى في المقابل طلبة الطب الذين ينتقدون بشدة مثل هذا القرار القاضي بتقليص سنوات التكوين الذي اتخذته الوزارة الوصية في غياب تام للمقاربة التشاركية، أن لجوء الحكومة إليه ضمن إجراءات أخرى، جاء في واقع الأمر من أجل تدارك الخصاص الكبير الذي تعاني منه المنظومة الصحية العمومية على مستوى قلة الأطباء ببلادنا، حيث يقدر النقص الحاصل بحوالي 34 ألف طبيب، علاوة على هجرة ما لا يقل عن 600 طبيب سنويا إلى الدول الأجنبية... إن "أطباء المستقبل" وهم تلك النخبة من خيرة أبناء هذا الوطن العزيز ليسوا ضد مشروع الحماية الاجتماعية، الذي يعد بحق ثورة اجتماعية فريدة من نوعها، وإنما هم ضد تنزيله على حساب جودة التكوين، لأنهم يقدرون جيدا جسامة المسؤولية المقبلين على تحملها في خدمة المواطنات والمواطنين، وهو ما يبرر إصرارهم المستمر على تحسين ظروف التكوين الطبي من جميع جوانبه المادية والمعنوية، ورفضهم القاطع لتقليص سنوات الدراسة، مما يجعلنا جد فخورين ومعتزين بهم.