السياسة هي مصدر ساس يسوس، بمعنى قاد يقود. ويصطلح بها على تنظيم شؤون الجماعة البشرية ورعاية مصالحها، خصوصا عندما تنتظم في "دولة". فهي إذن ضرورة اجتماعية تقتضيها التجمعات البشرية، بسبب تداخل المصالح والمآرب والأغراض والمصائر، وتدخل الأنانيات، وطغيان الناس على الناس، إن لم يجدوا من يزجرهم، ويحفظ حق ضعيفهم، ويرعى مصالحهم، عن طريق سن القوانين الكفيلة بتحقيق ذلك، والعمل على تنفيذها.. فهي بهذا المعنى موجودة بالقوة، واجبة الإيجاد بالفعل، ما دام الناس موجودون،، ومتجمعون متعايشون.. وهي كذلك "كائن محايد"، يمكن أن تكون صالحة أو طالحة، حسب من يدير دفة أمورها، وحسب المنظومة والترسانة التي تمارس فيها.. وهي أيضا تتغير حسب الزمان والمكان، وفق العوامل المذكورة.،، وقد كانت عندنا(نحن المسلمين) رشيدة في تاريخ وجغرافيا معينين، وهي الآن كذلك عند الكثير من غيرنا.. فليست هي الداء، كما يحاولون تصويرها("لعن الله السياسة والسياسيين"، "السياسة نجاسة"...)، وإنما ممارسوها في زمن الانحطاط هذا هم الأدواء.. ومطية إعمال السياسة، وتنزيل بنودها، وتفعيل مقتضياتها هي النصوص القانونية، الموجودة منها، والمحدثة، والمغيَّرة.. لذا يحاط القانون بهالة من "القدسية" والسمو والتجرد، لأنه، كما يشاع، فوق جميع "المواطنين"، ويخضع له كل الناس،، بمن فيهم "السياسيون".. والملموس أن السياسي("المتغير" افتراضا) يجاوز القانوني("الثابت" افتراضا) في واقع الأمر، لأن القانوني هو نتاج تصميم السياسي وانعكاس له في الحقيقة.. بل السياسي هو من يصوغ القانوني أو يلغيه، ويفعّله أو يعطله. متى شاء، وأينما شاء، وكيفما شاء. ويتعامل معه بحربائية وانتقائية وظرفية وانتهازية.. فالقانوني هو المرتبط بالسياسي والمؤسس عليه، لأن أي تغيير سياسي غالبا ما يتبعه تغيير قانوني. حتى إذا ما كان التغيير السياسي "جذريا" تلاه، بالضرورة، تغيير قانوني، قد يطال حتى جذور المنظومة القانونية السابقة وأركانها، ولو تعلق الأمر بالاختيارات الكبرى أو الراديكالية للمجتمع.. كما أنه في "المراحل الانتقالية" يعطِّل السياسيُّ القانونيَّ بالقوة(الانقلابات تعطل حتما "الدستور")،، وبالفعل(الثورات "تحتل" المساحات وتعوق تطبيق القوانين التنظيمية مثلا(احتلال الملك العام، قانون السير...))، بحيث يصبح للقانوني سند مستجد قد يوجهه عكس وجهته قبل ساعة من حدوث التغيير السياسي الطارئ.. لذا، ورغم تلك الهالة التي يحاط بها القانون بوصفه ضمانا -بإطلاق- لحماية الضعيف(أما القوي فهو قادر على حماية نفسه بنفسه)، إلا أنه كثيرا ما يكون وسيلة لحماية القوي المسيطر الذي يصوغه وفق ما يحمي مصالحه. فهو إذن "كائن متحول"، قد تسنّه القوة الغاشمة المحتلة، أو يتحدث بلسان الطغمة الفاسدة التي تمتلك وسائل التأثير والتوجيه(المال، الإعلام...)، أو يعبر عن رأي الغوغاء والكثرة الخرقاء(نتيجة عقود التجهيل الممنهج)...،، قد يكون تلك الوسيلة ما لم تسنده قيم معنوية إنسانية ثابتة، ذات خلفية شرعية أو أخلاقية أو غيرها من قيم الخير المتوارثة بين البشر... وحتى في حالات "الاستقرار"، فإن السياسي هو من يحتل المرتبة العليا في دواليب الدولة، وخصوصا القطاع العمومي منها، لأنه هو الذي يستشرف الرؤى، ويحدد الاختيارات.. ومع أنه قد يكون دون أي مستوى، وفي أي مجال، إلا أنه هو الأقوى، يستمد قوته(النظرية) من تفويض الشعب، ولو كان هذا التفويض ليس شريفا ولا نزيها ولا سليما بالضرورة، ما دامت وراءه هندسة وطبخ وحملات ممولة ماديا(...) ومروجة إعلاميا.. ورغم ذلك فهو الذي يسخّر الإداريَّ ويتحكم فيه.. ويحتل هذا الإداري المرتبة الثانية في القوة والتأثير والحماية، بعد السياسي، لأنه تعلّم فنون التحكم في النظُم والبشر. وهو بدوره يتحكم في التقني الذي لا يقوم بغير إنجاز وتنفيذ ما اختاره الأول، وخطط له الثاني.. ومع ذلك فهو الحلقة الأضعف، لأنه، على كفاءته وعلمه ومعرفته وتقنيته وتخصصه، في أدنى درجات السلّم، ثم لأنه يتعامل مع الجماد(الأشياء غير المتأثرة بالعواطف والشحن والتوجيه والتجييش والتجنيد)،، وفي الغالب ليس له أية يد في الفشل، على الأقل الاستراتيجي منه، لكنهما(السياسي والإداري) يقدمانه دائما كبش فداء، ويعملان على استبداله هو دون غير ممن قرر أو خطط!!!.. ملاحظة عابرة هنا، وهي يمكن أن يكون هذا الانحدار في "القوة" دلالة على أن القوة تتناقص كلما "ابتعد التفويض" عن مصدره الأصلي، أي صاحب السلطة الأول في النظم الديمقراطية: الشعب، ما دام السياسي المفوض مباشرة أقوى من المعيّن(والتعيين هو تفويض مَن فوضه الناس لشخص آخر كي يقوم بمهام يحددها له هو(المفوض الأول من الشعب)، أي يمكن أن نعتبر "التعيين" بمثابة "تفويض التفويض") ..