يقول الدكتور محمد عابد الجابري في تقديمه لكتابه حول إشكالية الفكر العربي المعاصر مايلي: «إشكالية الفكر العربي المعاصر» هي جملة القضايا النظرية التي يناقشها «المثقفون العرب في الوقت الحاضر والتي تخص وضع المغرب الراهن في «علاقته بالماضي العربي وبالحاضر «الأوربي» الذي يفرض نفسه اليوم «حاضرا» للعالم أجمع، نقول «الماضي العربي» ونقصد حضوره في الواقع العربي المعاصر الفكري منه والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. «إن هذا يعني أن الأمر يتعلق أساسا بحالة «الانشطار» التي تطبع الواقع العربي «الراهن، الفكري منه والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتي تجعل منه «واقعا يتنافس عليه، ويصطدم فيه ويتصارع ،صنفان من المعطيات صنف «موروث من ماضينا ينتمي بجملته إلى حضارة «القرون الوسطى» بتقانتها «اليدوية الرتيبة وقيمها الأخروية المثالية وصنف وافد من حاضر غيرنا ينتمي «بكليته إلى حضارة «العصر الحديث» بتقانتها الآلية المنظورة وقيمها الدنيوية «المادية وما يضفي الطابع الاشكالي على حالة «الانشطار» هذه هو كونها تعكس «ليس صراع القديم والجديد فقط بل صراع «الأنا» و»الأخر» أيضا فالقديم هنا «ينتمي إلى «الأنا» بينما ينتمي الجديد إلى «الأخر». فضلت أن استهل هذا العرض بهذا المدخل لأجل أن أضع له أرضية يؤسس عليها، قد تكون صحيحة و قد تكون غير ذلك ، لكنها على كل حال رأي ينتمي إلى الإنتاج الفكري الذي اشتغل على قراءة حديثة للفكر و العقل العربي من أجل الجواب عن سؤال كيف يحلل و كيف يفهم اليوم العقل العربي واقعه الذي يعيش فيه. إذ أن كل إرادة للتأسيس لا تستند و لا يؤطرها فكر تكون كمن يبني على الرمل . قد يطرح السؤال ,وما علاقة هذه المقدمة بموضوع دور النيابة العامة في دستور 2011. إن الجواب عن هذا السؤال المفترض، هو جواب التأسيس أيضا، أي أن البحث في دور النيابة في دستور سنة 2011 ليس بحثا في حصر اختصاصات النيابة العامة القانونية انطلاقا من نصوص قائمة. وإنما هو البحث في الأدوار المجتمعية الجديدة للنيابة العامة في ظل الدستور لسنة 2011. ومهمة التأسيس، كيف ما كانت، لا يمكن أن تكون ناجعة وجامعة و بالطبع موفقة، ما لم تحتم بالفكر الذي يشكل الأرضية التي يقف عليها أي بحث، وبالتالي أي تأسيس للأدوار المجتمعية للنيابة العامة في ظل الدستور الجديد. والمقدمة التي تتكلم على واقع «الانشطار» والذي أفضل أن أستعمل بدلها كلمة «الازدواجية» ، علما أني لا أتملك لا فكر و لا التراكم المعرفي لمفكر من حجم الدكتور محمد عابد الجاري. هي ازدواجية ستلازمنا عند أي تحليل للواقع الحالي لموضوعنا, أي لواقع النيابة العامة في المنظومة القانونية و السياسية التي يؤطرها دخول دستور 2011 إلى الوجود. بعد هذه المقدمة، سنحاول ملامسة إشكالية الأدوار المجتمعية للنيابة العامة من خلال طرح القضايا التالية: 1 النيابة العامة كما فهمت في النظام القانوني والسياسي والمجتمعي بخصوص إختصاصاتها و أدوارها وعلاقتها بقضاء الحكم و علاقتها بالسلطة السياسية والتنفيذية. 2 النيابة العامة في الأنظمة القانونية والسياسية الاجنبية. 3 العرض القانوني والسياسي الذي يقدمه دستور 2011 لفهم جديد لأدوار النيابة العامة. سنحاول إذن أن نلامس أجوبة وليس كل الأجوبة، للأسئلة أو الإشكالات التي تطرحها القضايا المشار إليها أعلاه . علما ان على الجميع أن يساهم بآرائه و أفكاره, إذ أن المرحلة التي تمر منها بلادنا في حاجة ماسة لتعدد الآراء و الأفكار حتى يمكن للجميع أن يستفيد ليس فقط من أحسنها، و إنما جميعها, إذ أن الآراء التي يمكن أن توصف بكونها غير حسنة, فإنها تصلح، في جميع الأحوال ، كأداة للمقارنة. I-النيابة العامة كما فهمت في النظام القانوني والسياسي والمجتمعي في المغرب إن طرح والتداول حول الاختصاصات القانونية للنيابة العامة أمر يتعلق بالخوض في القواعد والمنطلقات المبدئية التي تدخل فيما يمكن اعتباره ثابتا. غير أن المتحول في كل ذلك يتجلى في البحث في الأدوار المجتمعية الموكولة لها في وضع أو سن أو تدبير أو تنفيذ السياسة الجنائية أو السياسية القضائية بصفة عامة. ذلك أن وضع أو تدبير أو تنفيذ السياسة الجنائية أو السياسة القضائية هو الذي يقرر في تحديد مدى الأدوار الموكولة للنيابة العامة انطلاقا من القاعدة العلمية التي تقول أن الوظيفة تخلق العضو(La fonction crée l?organe). إن هذه الأدوار ليست محصورة في محاربة الجريمة فقط, لكنها مقررة كذلك في سياسة التنمية الاقتصادية و الاجتماعية, أي في السياسات المرتبطة و المؤثرة في الحياة اليومية للمواطن و في التحولات التي يعرفها المجتمع. ومرد هذا الدور الفاعل في كل ذلك يرجع إلى كون النيابة العامة تملك استعمال العنف المشروع الذي يجب على الأفراد والجماعات أن يقبلوا به دون أن يسمح لهم بمقاومته. وهو ما يعرف بالعنف الشرعي أو الزجر الشرعي. فتشخيص هذا الواقع هو الذي سيمكننا من البحث عن أجوبة وليس جواب لأشكال المتعلق بأدوار بدور النيابة العامة في المستقبل. نحن نعلم بحكم التجربة وما نعايشه يوميا منذ بداية الاستقلال. أن أدوار واختصاصات النيابة العامة تتغير بقدر التحولات التي يعرفها المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. فأدوار واختصاصات النيابة العامة هي مؤشر على التحولات التي يعرفها المجتمع، كما قد تكون في بعض الأحيان فاعلا مؤثرا في تلك التحولات ذلك التطور. ويكفي أن أشير، حتى لا يظهر هذا الكلام فيه تعظيم لدور النيابة العامة، إلى أن هذه الأخيرة، كمؤسسة ليست فقط موجودة وحاضرة وفاعلة في القضايا المرتبطة بمحاربة الجريمة كالاعتداءات على الأشخاص أو الأموال أو الجرائم المنظمة كالإرهاب وغيره، بل هي حاضره ومؤثرة ، كذلك ، في قضايا الشركات وفي القضايا العقارية وقضايا المرأة و البورصة وغيرها من مجالات الحياة اليومية. فأدوار النيابة العامة ليست محصورة فقط في متابعة وضبط الجريمة, بل إنها بالأساس، أداة تستعمل لأدوار أخرى مجتمعية سياسية واقتصادية مؤثرة وفاعلة. لكن السؤال القوي الذي يجب أن يطرح, بل و الذي يجب أن لا يكتفي بطرحه وإنما يجب البحث عن أجوبة مجتمعة له هو: هذه الأداة هي في يد من؟ و لمن هي تابعة ? كما تقول الفقرة الأخيرة من الفصل 166 من الدستور. هذه واحدة من الأسئلة الكبرى أو الأسئلة المؤسسة التي يفترض أن يجتمع حولها من أجل البحث عن أجوبة تساعد إلى الوصول إلى نظام قضائي يرمي إلى أمرين : -الأمر الأول:ضمان الحرية الفردية والجماعية باعتبارها الآلية الوحيدة لتفتق إرادة الفرد والجماعة على الإبداع والخلق ليس من أجل الترف الفردي و إنما من أجل إنتاج الحلول للمشاكل التي يطرحها، يوميا، المجتمع لما فيه رخاء واستقرار واستمرار هذا المجتمع. فالحرية ليس مرغوبا فيها لذاتها، وإنما هي مطلوبة لما لها من أثر، يجب أن يكون ايجابيا، على التطور الذي يعرفه المجتمع اليوم. الأمر الثاني: هو أن النيابة العامة لها دور مباشر ومؤثر في التنمية المجتمعية سياسيا واقتصاديا وهو ما يعرف بالتخليق, أي مهمة فرض احترام ضوابط أخلاقية بين الأفراد والجماعات المشكلة للمجتمع في المجال السياسي والاقتصادي بالأساس يجعل من الأخلاق معيارا للتعامل ولتبادل المنافع بما يعنيه من فرض احترام قيم الشفافية والمناقشة الحرة وتجنب التصرفات التي تفسد التنافس الشريف وعلى الخصوص في مجالين أساسيين هما المجال السياسي والاقتصادي. ومن أجل إعمال القواعد و الآليات المشار إليها أعلاه في المغرب يلاحظ ، عبر تاريخه، أن الأدوار التي تقوم بها النيابة العامة تتحول أو تتغير، انفتاحا أو انغلاقا مع انفتاح أو انغلاق الفضاء السياسي، ليس بشكل متطابق وإنما بشكل مخالف. إذ أنه عندما يكون المجتمع المغربي عازما على الدخول في جو انفتاح سياسي، يتدخل المشرع ليقوي من أدوار النيابة العامة, ليس من أجل تعطيل عملية الانفتاح، ولكن، في تقديري ، من أجل ضبط تلك العملية وتحصينها من أي انزلاق غير محسوب. إذ أن أي انفتاح هو في العمق عملية لإلغاء قيود قائمة. وإذا كانت عملية إلغاء القيود تلك غير مضبوطة وغير مصاحبة ,ستدفع إلى الفوضى أو الإحساس بها. علما أن الفوضى ليست دائما فعلا مخالفا للقانون أو فعلا مجرما. إذ أنها قد تعتبر في مجتمع مهيكل ومنظم وشفاف فعلا مجرما وقابلا للعقاب، أي قابلة لمواجهتها بالعنف المشروع. لكن، عندما تكتسي الفوضى طابع الاحتجاج على مجتمع غير منظم وغير مهيكل وغير شفاف تتحول من جريمة و مخالفة للقانون إلى تعبير مشروع عن الرأي العام، أي تصبح هي مصدر السلطة وناطقة باسم الإرادة العامة، وهذا ما لاحظناه فيما وقع في تونس ومصر وليبيا وما يقع الآن في سوريا. وفي زمن كهذا يطرح السؤال حول الأدوار المجتمعية والاختصاصات القانونية للنيابة العامة ، هل تلك الأدوار يجب أن تحدد انطلاقا من قواعد ثابتة، أم أن أدوار النيابة العامة تقتضي مرونة تتكيف مع تغيير أحوال الزمان والمكان بالنظر لما يعرفه المجتمع من تحول أو تطور أو تغيير. وهذه المهمة أو الوظيفة المعطاة للنيابة العامة ستدفعنا إلى التخلي عن مفهوم النيابة العامة كآلية تدبير الجريمة إلى مفهوم النيابة العامة كأداة تلعب دورا في ذلك التغيير والتطور و التوجيه و التحول. وعندما نكون أمام هذا المفهوم، أي النيابة العامة كأداة، فإن سؤالا مؤسسا آخر يبرز أمام هذا التحليل وهو: من يملك هذه الأداة؟ و هو السؤال الذي تتقدم الفقرة الأخيرة من الفصل 116 من الدستور لتجيب عنه. غير أن ذلك السؤال سيؤدي الى طرح سؤال آخر أكثر جذرية وهو : هل لا بد أن تملكها جهة ما؟ هذه، في تقديري، هي بعض الأسئلة والقضايا المهيكلة لفهم سليم لأدوار النيابة العامة في مرحلة التأسيس التي فرضها دستور 2011، علما أن عدم تقديم أجوبة عن هذا النوع من الأسئلة أو عدم تقديم أجوبة واضحة يجعلنا في منطق الغموض. لكن، من المفيد الإشارة إلى أن منطق الغموض ليس, دائما، أمرا غير مقبول مجتمعيا وسياسيا, بل إن منطق الغموض قد يكون منطقا مقبولا لتدبير، وليس لتسيير، وضع صعب ومعقد، سواء كان تدبيرا سياسيا أو مجتمعيا لدور النيابة العامة. وهو ما سنتطرق له فيما بعد. لكن، وفي جميع الأحوال، سنجد أنفسنا أمام سؤال مؤسس ثالث وهو : من هي الجهة التي تملك تدبير منطق الغموض ? في المجتمعات الغربية المبنية على قيم الحداثة والديمقراطية، عالجت هذا الإشكال بسن ما يعرف بالسياسة الجنائية أو السياسة القضائية، وهي التوجه الذي تقدمه السلطة التنفيذية و السياسية ، باعتبارها ممثلة للرأي العام و المنتخبة ديمقراطيا، و المسؤولة أمام البرلمان على العملية القضائية أو العدلية، كما تفعل بخصوص باقي القطاعات الأخرى الاقتصادية و الاجتماعية المرتبطة بالحياة اليومية للمواطن الذي تمثله، فهي، إي السلطة التنفيذية، في جميع الأقطار الديموقراطية لا تتخلى عن قطاع مهم, قطاع العمل. فدول مثل الدول الأوروبية, عرفت نقاشا عسيرا من أجل الوصول الى جواب عن سؤال, من يضع و يتحكم في وضع السياسة الجنائية، و اسمحوا لي بأن أعيد نقل ما سبق لي أن نشرته بخصوص هذه الإشكالية في جريد «الاتحاد الاشتراكي» في العدد 9794 بتاريخ 27/5/2011 في مقال تحت عنوان «القضاء كسلطة في دستور 2011» إن محاولة جواب عن الإشكال المشار إليه أعلاه فرض على الفكر الحقوقي والسياسي الأوروبي أن يجيب عن سؤال لابد منه, ألا وهو الفصل في الخلاف العام حول دور النيابة العامة في تدبير السياسة العدلية والجنائية بالنظر إلى أن الوضع القانوني للنيابة العامة في علاقتها مع السلطات التنفيذية وبالأولوية في علاقتها مع وزير العدل حسب التسلسل التراتبي والقانوني الذي يوجد فيه هذا الاخير . هذه الازدواجية هي التي وقف عليها السيد أندري فيتو ANDRE VITU وهو أستاذ بكلية الحقوق بنانسي، عندما خلص إلى أننا هنا أمام مفهومين متناقضين لدور النيابة العامة في فرنسا، وهي الخضوع للتسلسل الإداري من جهة والحرية في الحركة, أي في تحريك المتابعة أو حفظها من جهة أخرى. وبهذه الفقرة يلخص الأستاذ VITU جوهر الإشكال المؤسسي الذي تعرفه دولة من أعرق الدول في الممارسة الديموقراطية والقضائية وهو إشكال يلقي بظلاله على النقاش الدائر حول الجهة المؤهلة شرعيا لوضع السياسة الجنائية والعدلية وهو الأمر الذي أكده، كذلك، البروفسور فرانسوا جاكو FRANCOIS JAQUOT عندما ذهب إلى القول أنه من الناحية التقنية والقانونية والسياسية، فإن موضوع الإستقلالية يدفعنا إلى الإنكباب على دراسة تطور الأنظمة وعلى هياكل الديموقراطيات وعلى العلاقة ما بين القانوني والسياسي وكذا على وضع السؤال حول الخريطة الكلاسيكية لنظمنا الديموقراطية. ويستمر في نفس النهج ليذهب إلى أن غناء تلك الثقافة يبدأ من التحليل التقني لمؤسسات العدالة الجنائية لينتهي بتصورات دستورية وسياسية. وبهذا يربط البروفسور JAQUOT ما بين السياسي والقانوني في جدلية دائمة تكون متضاربة أحيانا ومتنافسة أحيانا أخرى. وتذهب إلى الأستاذة ميشال لوفر راسات MICHELLE LAVRE RASSAT وهي أستاذة مبرزة في جامعة باريس سبق أن أنجزت تقريرا حول إصلاح قانوني المسطرة الجنائية، إلى أن النيابة العامة هي جهاز الربط ما بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية مكلفة بإسماع صوت الأولى لدى الثانية . وتستمر في القول أن هذه الوضعية الغريبة للنيابة العامة هي نتيجة لخطأ تاريخي لرجال الثورة الفرنسية الذين لم يفهموا آنذاك جسامة الخطأ الذي سيرتكبونه وأثره على التحولات السياسية التي أنجزوها عندما حددوا الوضع القانوني للنيابة العامة وقرروا بأن ضباط النيابة العامة هم أعوان السلطة التنفيذية لدى المحاكم (الفصل 1 من الكتاب 8 من المرسوم 24-16 غشت 1790) ولقد كان دافعهم إلى ذلك يرجع إلى أنه قبل الثورة كان لهؤلاء الضباط «لقب أعوان الملك لدى المحاكم» وتعلق الأستاذة RASSAT على موقف رجال الثورة بأنهم هم من غير اسم ضباط النيابة العامة من أعوان الملك لدى المحاكم إلى أعوان للسلطة التنفيذية لدى المحاكم. و تضيف السيدة RASSAT انهم لو تنبهوا إلى أن مفهوم أعوان الملك كان يعني الممثلين للسلطة السيادية POUVOIR SOUVERAIN و أنهم لو دققوا في الأمر لأعطوهم اسم ممثل الأمة وليس ممثل السلطة التنفيذية. وتذهب RASSAT للقول أن هذه التسمية خلقت وضعا مزدوجا للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للأمة, ذلك أن الأمة يعبر عنها بطريقتين : إما عن طريق التصويت على القوانين من طرف ممثلي الشعب من جهة, أو عند اختيار الحكومة من جهة أخرى . وبهذا يصبح ضباط النيابة العامة «خدام لسيدين مختلفينSERVEURE DE DEUX MAITRES DIFDERENTS. والخلاصة التي انتهت إليها الأستاذة RASSAT هي أن فصل السلط لا يعني تجاهل السلطE SEPARATION DU POUVOIR N›EST PAS L›INGNORANCE DU POUVOIR وتضيف أنه إذا كان للحكومة الحق أن تسمع صوتها في قلب البرلمان الذي يتكون من ممثل الأمة, فإن من حقها أن تسمع صوتها للسلطة القضائية. ويظهر أن هذه الخلاصة الفكرية واضحة و مؤسسة في الكلمة التي افتتح بها رئيس اللجنة البرلمانية الفرنسية التي استمعت لقاضي التحقيق الفرنسي دوترو عندما واجه ذلك القاضي قبل بداية الجلسة بالقول ما معناه، قد يتساءل البعض لماذا تتدخل السلطة التشريعية في السلطة القضائية، ويجيب رئيس اللجنة على السؤال الذي وضعه وهو يتوجه إلى قاضي التحقيق، إذا كنت انت بصفتك قاضيا تحكم باسم الشعب الفرنسي, فأنا أمثل الشعب الفرنسي .... وإذا كان هذا النقاش في فرنسا استطاع أن يصل إلى هذا النوع من التوافق في إشكالية دور النيابة العامة في علاقتها مع السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فإن الوضع في بلجيكا لم يختلف بشكل كبير. ذلك أن الدستور البلجيكي في الباب المتعلق بالنيابة العامة كان مشروع الفصل 137 ينص على ما يلي: «النيابة العامة تمثل الجهاز التنفيذي في المجال الترابي لمحكمة «الإستئناف ... وبعد النقاش الذي دار حول ذلك الفصل, تم التراجع عن الصيغة المشار إليها أعلاه وعوضت بصيغة عامة خضعت هي كذلك لمبدأ التوافق وعدم الحسم, بل و تدبير الغموض وأصبح الفصل 137 من دستور 1830 يقول أن النيابة العامة تقوم بأدوار تلقائية في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف والمحاكم، لكنه , أي الدستور احتفظ في الفصل 153 منه للملك بالحق في تعيين القضاة وعزلهم بشكل يحدده ، بشكل واضح، الوضع الدستوري للقاضي في بلجيكا. وانطلاقا من هذا الوضع تقول السيدة كريستين دوربن جاكوب CRISTINE DERENNE JACOBS وهي محامية وأستاذة بكلية الحقوق بلييج ببلجيكا، أن وزير العدل لا يمكنه أن يحل محل النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، وأن تقاليد الاستقلالية هذه وصلت إلى حد منازعة وزير العدل في حقه في وضع خطوط للسياسة العدلية على اعتبار أنها سياسة قضائية تدخل في اختصاص السلطة القضائية وليس السلطة التنفيذية. غير أن التحولات التي عرفها العالم بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ونظرا لتحكم قطب وحيد في السياسة الدولية وكذا بروز ظاهرة الإرهاب كعنف جديد سيؤثر في إعادة صياغة نسق قانوني ومؤسساتي مختلف في اتجاه الحد من مجال تدخل السلطات القضائية لفائدة تدعيم تدخل السلطات التنفيذية. وتقول الأستاذة RASSAT أن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية المؤرخ في 30-04-1990 المتعلق بالإرهاب والجريمة قد قدم نظرة جديدة ونقدية بصفة خاصة للوضعية الحالية, معلنا انعدام وجود سياسة جنائية حقيقية وغياب المراقبة على النيابة العامة. لقد خلصت اللجنة إلى أن السياسات العامة المتعلقة بالأبحاث والمتابعات هي من مسؤولية الحكومة وعلى الخصوص وزير العدل، والتي يجب أن تكون مراقبة من قبل البرلمان وعلى وزير العدل انطلاقا من توجهات عامة أن يحدد للنيابة العامة الخطوط الموجهة للسياسة الجنائية، وأنه يتحمل المسؤولية السياسية لذلك أمام البرلمان , بينما تطبيق هذه الخطوط الموجهة يرجع إلى النيابة التي أعطاها القانون مهمة تحريك المتابعات, بينما وزير العدل يراقب حسن تطبيق تلك التوجهات . وعندما ننتقل إلى ألمانيا, سنلاحظ أن نفس النقاش, بل وحتى الخلاصات التي انتهى اليها الفكر السياسي هي متشابهة مع النقاش و الخلاصات المشار إليها أعلاه, إذ يقول البروفسور هايك جانك HEIKE JUNG وهو أستاذ للقانون الجنائي في كيلة الحقوق في ألمانيا : أن النيابة العامة يمكن أن تتوصل بتعليمات تتعلق بالتعامل الخاص مع قضية، وكذا السياسية الجنائية العامة , هذه التعليمات يمكن أن تكون داخلية كما يمكن أن تكون خارجية صادرة عن وزير العدل. وعندما نطالع التقرير الذي أنجزه المجلس الوطني الفرنسي «البرلمان» المؤرخ في 18-06-1999 نلاحظ أنه أشار إلى أن لجنة TRUCHE قدمت توصيات إلى وزير العدل تدور حول الإشكالية التي نحن بصددها ,إذ جاء في تلك التوجهات .» أن وزير العدل هو الذي يحدد علنيا التوجهات العامة لسياسة الدعوى العمومية , و لكن لا يمكنه إعطاء تعليمات للوكلاء العامين في قضايا خاصة، لكنه يمكنه التحاور DIALOGUER معهم بخصوص هذه الملفات كما يمكنه اللجوء إلى جميع الأجهزة القضائية وأن يبلغها ملاحظاته عن طريق قاضي أم محام عام. كما نقرأ في تقرير لجنة القوانين، أنه من المشروع والضروري أن الحكومة تحت مراقبة البرلمان يحدد المبادئ الموجهة للسياسة الجنائية, وأن وزير العدل يخبر النيابة العامة بهذه التوجيهات قبل العمل على تطبيقها. وان هذه الفكر القانوني و السياسي سنجد أنه هو الذي حكم التعديل الأخير للدستور الفرنسي الذي قدمه الرئيس ساركوزي سنة 2008 والذي أبقى على وزير العدل ضمن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء. هكذا نلاحظ أن النقاش حول الجهة المؤهلة لوضع السياسة العدلية والجنائية , هل هي السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية,قد حسم لفائدة الأولى وأن هذا التوجه نجح بفضل استناده إلى مصدر الشرعية و السلطة أي إلى مصدر السيادة الذي هو الأمة. وبما أن الحكومات في الدول المشار إليها أعلاه هي الممثلة للأغلبية البرلمانية، وبما أن البرلمان هو الممثل الشرعي لأفراد المجتمع، فإنه من المنطق الدستوري أن تتحمل السلطة التنفيذية مسؤولية وضع السياسة المناسبة والعدلية لتحاسب عليها أمام البرلمان. أي أمام ممثلي الأمة . ويتبين من هذا النقاش أن التوجه انتهى إلى كون السلطة التنفيذية هي المكلفة و المسؤولة على وضع السياسة الجنائية, لأنها هي التي ستسأل عنها أمام ممثلي الأمة. والمغرب، من جانبه، وإعمالا لمنطق الغموض المتحدث عليه سابقا، أو تدبير الغموض كآلية من آليات التدبير السياسي والمجتمعي بصفة عامة, نص في المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية على أن وزير العدل يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية, بينما لا يوجد أي نص يتكلم عن الجهة التي تضع تلك السياسة الجنائية. وأعتقد أن المغرب اقتحم بهذا النص موضوعا من الحساسية والتعقيد بما كان. ذلك أنه من الخطأ، الاعتقاد بأن القضاء المغربي هو نفس القضاء في الدول الغربية، لأنه عندما نتعمق كثيرا في التحليل ولا نقبل بنوع من السطحية سنجد أن القضاء، في المغرب له جذور في الثقافة الإسلامية التي لا تعترف لا بالنيابة عامة ولا بالمحامي مع قاضي الحكم. فالقاضي في الثقافة الإسلامية لا يحتاج لا إلى نيابة عامة على يمينه و لا لمحامين على يساره، وإنما هو الناطق باسم الحق والعدل والمصدق والمؤتمن لإصدار الأحكام. و يستمد هذه السلطة من ولي الأمر الذي يعينه باعتبار مهمة القضاء هي جزء من إمارة المؤمنين يمارسها القاضي بالتفويض. لهذا كان المسؤولون عن الأمة الإسلامية يولون فلانا قاضيا على البصرة أو قاضيا على الكوفة أو قاضيا على مصر, ويتركون له أن يحكم بما يراه ذلك القاضي مطابقا للشريعة. لكن يجب كذلك استحضار أن الشريعة منذ أن كانت اعترفت بحق الاختلاف والتعددية وهو ما ترجمته المذاهب الأربعة المعروفة. فالمغرب زاوج بين هذا التصور للقاضي وبين تصور آخر للقاضي بمفهومه العصري الغربي, و يتأكد ذلك من خلال سن قوانين في بداية تأسيس الدولة المغربية بعد الاستقلال في المجال الذي نتكلم عليه، مجال ادوار واختصاصات النيابة العامة، لنلاحظ كيف تناولت تلك القوانين ادوار واختصاصات النيابة العامة في قانون المسطرة سنة 1959 وكيف أصبحت بعد تعديل 1962 وبعد تعديل 1974 وبعد تعديل 1993 وبعد تعديل 2003 وذلك لكي نحاول استشراف كيف يجب أن تكون العملية في إطار دستور 2011. لقد أشرت سابقا إلى أن المغرب عرف تلازما بين الوضع السياسي والمجتمعي وبين الأدوار التي يعهد بها إلى النيابة العامة. وهنا لا نتكلم عن الاختصاصات التي لها طابع قانوني تقني وإنما عن الأدوار التي تتجاوز الجانب القانوني التقني باعتبار أن مداها يستوعب ويرتبط بالتصور الذي يتم وضعه للتحولات التي يعرفها المجتمع بكامل تشكيلات وقضاياه وأفكاره المختلفة. ففي سنة 1959 عندما تم سن أول قانون للمسطرة الجنائية كان التصور الذي حكم وأسس لقواعد ذلك القانون هو تصور يعترف للنيابة العامة بسلط حقيقية مالكة للحق في الحد من الحرية الفردية والجماعية وفق ضوابط معينة و منفتحة عهد بهذه المهمة، ليس إلى وزير العدل ولا إلى الوكيل العام للملك,و إنما عهد بها إلى وكيل الملك,أي إلى المؤسسة الأكثر قربا من الواقع أي المؤسسة التي هي في واجهة الصراع مع الجريمة بصفة عامة. لكن التصور المذكور لم تحكمه إشكالية محاربة الجريمة فقط و إنما حكمته كذلك ادوار أخرى لوكيل الملك ، تلك الأدوار التي تفرض عليه أن يكون في قلب التحولات التي يعرفها المجتمع, إذ لا يجب أن تنحصر نظرتنا لدور وكيل الملك في محاربة المخدرات والفساد الأخلاقي, بل يجب أن نستحضر ، كذلك ، أن لدى وكيل الملك توضع ملفات الأحزاب السياسية و ملفات الجمعيات و ملفات وسائل الإعلام. والتصور هذا المتحدث عنه سابقا يؤكد كون المشرع، أي الجهة التي وضعت السياسة الجنائية آنذاك، خص وكيل الملك، وحده بلك المهام و الأدوار، بصفته ضابطا للشرطة، ذلك أن الوكيل العام للملك لم تكن له صفة ضابط الشرطة القضائية, بل حصرت مهامه في اختصاصات إدارية ذات طبيعة قضائية, بينما صفة ضابط الشرطة القضائية هي التي تمكن من نقل ممارسة العنف من فعل مجرم إلى فعل مشروع. في سنة 1962، ستعرف المسطرة الجنائية تعديلا بشكل يقلص من هامش التحرك في قضاء الحرية الفردية والجماعية، ويتبين ذلك ليس من خلال نصوص قلصت من ممارسة الحرية، ولكن خلال تقوية أدوار النيابة العامة واختصاصاتها. وأقول أن هذا الأمر يمكن أن يكون مشروعا، لأن المغرب كان سيبدأ فترة انفتاح آخر، وهو يدخل عصر ملكية في إطار أول دستور سيعرفه المغرب بعد الاستقلال، وسيبدأ تجربة انتخابية برلمانية وجماعية، فبدأت الدولة تسترجع و وتحصي وسائلها وآلياتها من أجل تأطير هذا الانفتاح المقبل ، وليس لها من وسيلة إلا ضبط أكثر من أجل الاستعداد لانفتاح أوسع. غير أنه بعد سنة 1962 سيعرف المغرب تحولات أخرى لا مجال للحديث عنها اليوم. وسيتأكد نفس الطرح المتحدث عنه سابقا في سنة 1974، إذ ستعرف المسطرة الجنائية تغييرات كبيرة ضيقت من مجال الحريات الفردية والجماعية لفائدة تقوية ادوار واختصاصات النيابة العامة. و ليس غريبا، أنه بعد سنة 1974 سيعرف المغرب مسلسلا ديمقراطيا جديدا سينظم انتخابات برلمانية وجماعية جديدة. وسيعيش المغرب نفس الوضع، أي وضع تلازم السياسي والقانوني سنة 1993 عندما سيتم إجراء تعديلات في قانون المسطرة الجنائية ليدشن مرحلة سياسية أخرى ابتداء من دستور 1996 وتكوين حكومة التناوب التوافقي في سنة 1998. وبعد هذه الفترة سيدشن المغرب تحولا آخر يترجم في سن قانون جديد المسطرة الجنائية وسيعلن، لأول مرة، عن أمر جديد اسمه «السياسة الجنائية»، مع العلم أن تلك السياسة كانت دائما موجودة, غير أنه لم يكن معلنا عنها، وهي التي ذكرتها المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 2003. II-النيابة العامة في الأنظمة القانونية والسياسية الاجنبية : لكي نلامس الوضع القانوني والسياسي لمؤسسة النيابة العامة في علاقتها مع السلطات التنفيذية والسياسية في الدول الأجنبية وعلى الخصوص منها الغربية، ويجب أن نحاول البحث ليس حول الاختصاصات الموكولة لها وإنما يجب أن نبحث عن الجهة التي تعينها و الأدوار التي يعهد لها بها و ذلك لمقاربة مدى الاستقلال المعترف به للنيابة العامة عن هذه السلطات. إذ أن النقاش الذي يجب أن نطوره بالقدر الممكن هو الجواب عن سؤال استقلال القضاء, هل يهم قضاء الحكم وقضاة النيابة العامة, أم أن المقصود به، بالأساس، وليس، فقط هم قضاة الحكم. من المفيد الإشارة إلى أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية سيوضع قواعد تنظيمه بمقتضى قانون تنظيمي ستقدمه الحكومة الحالية للبرلمان ، أي بمقتضى قانون مكمل للدستور، وبالتالي يجب أن يخضع مثله مثل الدستور لنفس الفكر و المنهجية التي يتم بها سن القواعد الدستورية. وفي هذا الجانب، فإن مشرعي القواعد الدستورية لا ينحصر نظرهم ، عند وضع الدستور في حماية مصالح فردية خاصة في مقابل أخرى وإنما يجب أن يستفيدوا ويستحضروا تجارب دول أخرى حتى يتجنبوا سن مقتضيات قد تمس بكيان المجتمع، إذ لا يسمح أن يكون المجتمع موضوع تجارب لقواعد دستورية غير معروفة النتائج والآثار، وإنما لابد من الاطلاع على تجارب دول أخرى لاستفادة من تراكم تجاربهم و خبراتهم، وبطبيعة الحال تجنب إخضاع المغرب لكل تلك التجارب دون مراعاة للوضع الخاص للمغرب. لذا فإن الحرص والحكمة تستدعي أن تراجع تجارب دول أخرى تناولت وعالجت هذا الإشكال الذي نحن بصدده. وبهذه المناسبة، يمكن أن نشير بكل عجالة إلى ما اعتمدته أغلب الدول الكبرى الديمقراطية في معالجتها لعلاقة النيابة العامة مع السلطة السياسية. وهكذا، نجد مثلا في استراليا أن الوكيل العام هو المستشار الأول للملكية la Couronne، وهو، بهذه الصفة، عضو في الحكومة وهو المسؤول عن الشؤون القانونية والأمن. وعندما نذهب إلى كندا، نجد أن الوكيل العام يمارس اختصاصات وزير العدل. و عندما نتجه إلى أمريكا، نجد أن الوكيل العام هو بمثابة وزير العدل وأن الرئيس هو من يعينه. وعندما نذهب إلى فرنسا، نجد أن الوكيل العام هو رئيس النيابة العامة، لكنه تابع لمديرية الشؤون الجنائية. إذا كان الأمر هو ما سبق الإشارة إليه, فما هو العرض الذي يقدمه دستور 2011 للوضع القانوني للنيابة العامة وهو ما سنتناوله فيما يلي. III-العرض القانوني والسياسي الذي يقدمه دستور 2011 لأدوار النيابة العامة: لقد أشرت سابقا إلى أن الغموض هو آلية من الآليات التي يمكن أن تستعمل لتدبير أوضاع معقدة و أعطيت مثالا على ذلك ما يتعلق بالغموض القائم حول من يضع السياسة الجنائية، ما دام أن الفصل 51 يتكلم فقط على أن وزير العدل يعمل على تنفيذه ولا يتكلم عن الجهة التي تضعها أو تتحكم فيها. ووجه الغموض الثاني هو ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من الفصل 116 من دستور 2011 والتي ورد فيها : «يراعي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، في القضايا التي تهم قضاة «النيابة العامة تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطة التي يتبعون لها». إن الفقرة المشار إليها أعلاه تتضمن كلمتين تترجمان معا حالة الغموض المتحدث عنها أعلاه وهما كلمة «يراعي» واستعمل كمقابل لها في النص الفرنسي «Prend en considération» من جهة، و جملة «السلطة التي يتبعون لها» واستعمل كمقابل لها «L?autorisation hiérarchique dont il relèvent». وبخصوص كلمة « تراعى» فهي كلمة لا أعتقد أنه يمكن أن يفهم منها أن للمجلس الأعلى للسلطة القضائية سلطة تقديرية في التعامل مع التقارير التي تصدرها الجهة التي يتبعها قضاة النيابة العامة. إذ يظهر أن الفهم المراد الوصول إليه هو ضرورة اعتماد تلك التقارير من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، غير أن المشرع الدستوري استعمل تلك الكلمة لما في صياغتها من احترام لمن توجه له. ويظهر أن الفكر الذي أعتمد في صياغة هذه الكلمة قد يكون التفت لما ينص عليه الفصل 65 من الدستور الفرنسي الذي تضمن بكل وضوح أن المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي لا يدخل في اختصاصه البت في قضايا قضاة النيابة العامة. وإنما تنحصر مهمته في إبداء الرأي بخصوصها فقط. لكن، من المفيد الإشارة إلى أن الدستور المغربي، في الفقرة المذكورة، يعترف للمجلس الاعلى للسلطة القضائية بسلطات أوسع على قضاة للنيابة العامة ، أي بحماية اكبر، من تلك التي يعترف بها الدستور الفرنسي لنفس المؤسسة. ذلك أن كلمة «يراعي» المنصوص عليها في الفصل 116 من دستور 2011 يمكن أن تفسر ايجابيا و تبقى على المجلس الأعلى مختصا للبت في كل ما يتعلق بقضاة النيابة كما هو الأمر بالنسبة لقضاء الحكم. غير أن نص الفصل 108 من الدستور قد ينهض كجواب بالنفي على هذا الفهم ، ما دام أنه حصر مقتضياته في قضاة الأحكام فقط ، إذ وحدهم لا يمكن عزلهم و لا نقلهم إلا بقانون. بينما الفصل 65 من الدستور الفرنسي لا يسمح للمجلس الأعلى، حتى للهيأة الخاصة بقضاة النيابة العامة، إلا بإبداء الرأي سواء في العقوبة أو غيرها ولا يحق له اتخاذ أي قرار يتعلق بقضاة النيابة العامة، مما يؤكد التقدم الذي يسجله الدستور المغربي 2011 في مقابل ما ينص عليه الدستور الفرنسي من تحصين لمبدأ استقلال قضاة النيابة العامة. غير أنه، و في تقديري ، يجب أن تحظى كلمة «يراعي» المذكورة أعلاه بتفسير توضيح وتوازن عندما سيتم سن قواعد القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى لسلطة القضاء. غير أن الغموض الآخر، وربما الأكثر مثارا للسؤال هي جملة «السلطة التي يتبعون لها» الواردة في الفصل 116 من الدستور. إن القراءة التي لا محيد عنها للقاعدة الدستورية المذكورة هي : أولا : أن قضاة النيابة العامة لهم سلطة يتبعون لها. و هذا أمر أصبح دستوريا يجب احترامه نصا و روحا، كما روى السيد رئيس الحكومة عن النصيحة التي قدمها له جلالة الملك. ثانيا: أن تلك السلطة ليست هي المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو ما يمكن فهمه انطلاقا مما تتضمنته المادة 108 المشار إليها أعلاه. وأن ما يبرر هذا الفهم، هو أن المشرع الدستوري لم يستعمل هذه الصيغة إلا بالنسبة لقضاة النيابة العامة ولم يستعملها بالنسبة لقضاة الحكم. وإذا كان الأمر كذلك، فمن هي هذه السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة ?. إن الجواب عن هذا السؤال، يمكن أن يأخذ إما شكلا غامضا هو ذلك، أي السكوت عن الجواب عنه عند سن القانون التنظيمي المرتقب، وإما يكون الجواب عنه واضحا و يحدد هذا القانون الجهة التي يريد الدستور أن يتبعها قضاة النيابة العامة . لكن، هذه التفرقة بالرغم عن كونها قد تظهر متناقضة, إلا أنها في العمق أو في نهاية التحليل ستلتقي ، بحكم الوضع القانوني و الدستوري و بالتالي السياسي في المغرب ، في جهة واحدة وهي الهيآت المكلفة بقطاع العدل، و ذلك للأسباب التالية: -أولا: إذا سكت مشرع القانون التنظيمي عن تحديد الجهة التي يتبعها قضاة النيابة العامة، فإن هذا الفراغ في القانون التنظيمي المنتظر سيتم تعويضه بقواعد قانون المسطرة الجنائية الجاري بها العمل، وعلى الخصوص الفصل 51 من قانون المسطرة الذي يلزم الوكيل العام للملك بتطبيق ما يبلغه له وزير العدل من تنفيذ السياسة الجنائية من جهة، كما يلزمه بتنفيذ الأوامر الكتابية لوزير العدل. علما أن وكيل الملك أصبح ضابطا للشرطة القضائية من جهة كما أصبح رئيسا لوكلاء الملك التابعين له . -ثانيا: إذا ما أراد مشرع القانون التنظيمي أن يحدد تلك الجهة بكل وضوح، فأنه يجب عليه أن يحصر تلك الجهة في السلطة الرأسية للنيابة العامة وفقا للصيغة الفرنسية التي تتكلم عن «L?autorisation hiérarchique» إذ أن كلمة «يتبعون لها» تعني الجهة التي هم مرؤوسين بالنسبة إليها، وفي كلتا الحالتين، فإن المشرع الدستوري أراد أن يضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة معينة, علما ان الصيغ التي يستعملها الدستور هي صيغ مدروسة ومدققة وليست صيغ مطلوقة على عواهنها كما يقال. وهذا يعني ان المشرع الدستوري عندما استعمل كلمة «السلطة» بالضبط و لم يستعمل صيغة أخرى ك «الجهة المعنية» مثلا فإنه قصد إحدى السلطات الثلاث المنصوص عليها في الدستور وهي : السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية و السلطة القضائية. وإذا ما رجعنا إلى ما يقع في البلدان الغربية ، و هو ما أشرنا إليه أعلاه، سنلاحظ أن المشرع الدستوري لم يخرج عن نفس الفكر المعتمد من طرف تلك البلدان، غير أنه بدل أن يكون واضحا، استعمل آلية الغموض المتحدث عنها سابقا والتي نأمل أن يرفعها القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى لسلطة القضاء.أو يدبرها بالشكل الذي لا يزعزع الأوضاع القائمة إلا لما فيه الخير و الأمان لبلدنا. هذه بعض الأفكار حول موضوع خصب وشائك يستوجب التعدد في التحاليل والتنوع في الاجتهادات, لما فيه سعادة و هناء و طمأنينة هذا البلد السعيد.