بمناسبة مؤتمر المحامين بأكادير خص الأستاذ والبرلماني عبد الكبير طبيح “مراكش بريس”بمقالة حول الأفق الإصلاحي القضائي بالوطن، ننشرها إيمانا بالخط التحريري للجريدة المبني عن التواصل والحوار والانفتاح على أجندة القضايا الوطني والجهوية والمحلية، لتعميق النقاش. عبد الكبير طبيح
من المفيد الإشارة ، بدءا، أن مطلب جعل القضاء سلطة، هو مطلب أثث الخطاب السياسي الذي حملته الأحزاب الوطنية والديمقراطية منذ بداية الاستقلال، وعلى الخصوص في الفترات التي أصبحت تعرف بسنوات الجمر التي استعمل فيها القضاء كوسيلة لمواجهة تلك الأحزاب، بل أحيانا لإعطاء شرعية قضائية لتصرفات مختلف الإدارات، وهو الأمر، اليوم، الذي لم يعد محل اختلاف بعدما وقفت عليه هيأة الإنصاف والمصالحة في تقريرها . ومن المفيد ثانيا، الإشارة إلى أن مطلب جعل القضاء سلطة هو ليس مطلبا دستوريا وإنما هو في العمق مطلب سياسي محض، أي توجه ليس إلى إضافة كلمة “سلطة” في نص الدستور لتلحق بكلمة “قضاء”، و أنما هو يتوجه إلى الإرادة السياسية لجميع أصحاب القرار السياسي الممارسين لكل السلط في المجتمع من أجل أن تكون نظرتهم و تعاملهم مع القضاء, نظرة وتعامل مع سلطة لها نفس المرتبة لباقي السلط الأخرى و خير مثال يمكن أن يساق للتدليل على الفرق المتحدث عنه أعلاه هو أن الدستور الجزائري, مثلا , يتضمن جملة “سلطة القضاء” بينما الدستور الفرنسي يتكلم عن AUTORITE و هي من حيث اللغة قد تظهر أقل قوة من كلمة POUVOIR , حسب المتداول , بينما في العمق قد تكون لكلمة AUTORITE وزنا أكثر لما تنصرف إليه من قوة معنوية و أخلاقية مقررة وفاعلة تتجاوز كلمة POUVOIR التي قد تنصرف الى نوع الاختصاص في التدبير اليومي. ومن المفيد الإشارة، ثالثا، ا إلى أن اللغة العربية لا تفرق بين كلمة “AUTORITE ” كلمة ” POUVOIR ” فهما معا تعنيان كلمة ” سلطة “. فهل إضافة كلمة “سلطة” لكلمة «القضاء” في دستور المملكة المقبل من شأنه أن يغير ويجعل كل المعنيين بالعدل في المغرب يشعرون بذلك التغيير من جهة، وفي أي اتجاه سيكون ذلك التغيير من جهة أخرى. بعد هذه الإشارات، يمكن ملامسة مفاتيح تناول هذا الموضوع من خلال محاولة الجواب على السؤال التالي: هل النقاش الدستوري لوضعية القضاء هو نقاش يخضع إلى منطق التعديل أم أنه نقاش يخضع إلى منطق التأسيس. علما أن أي نقاش، حول أي دستور، لابد له من التسلح بآلية وبمنطق وبمنهجية تكون بمثابة البوصلة التي توجه تفكيره. ومن المعلوم أن كتابة أو تعديل أي دستوري يخضع لمنطق آخر غير كتابة أو تعديل قانوني عادي كيفما كان. ذلك أن الفكر الذي يشتغل علي القانون هو فكر يتجه إلى ضمان مصالح يومية للإفراد في المجتمع قابلة للتغيير في أي وقت من طرف البرلمان أو حتى قابلة للتفسير أو إعادة التفسير من طرف المحاكم أو من طرف الأطراف عندما تكون تلك القوانين غير عادلة.
لكن عندما يتعلق الأمر بنص دستوري، فإن المشرع الدستوري لن يقبل منه أن يجرب في مجتمع ما، قواعد دستورية لا يعلم بالأثر الذي ستحدثه عند سنها و دخولها حيز التنفيذ. إذ أن نجاح مشرعي الدساتير يبرز من خلال مدى اطلاعهم على تجارب دول أخرى التي طبقت قاعدة دستورية معينة، ومدى علمهم ودرايتهم بالأثر المجتمعي الذي أحدثته تلك القاعدة في مجتمعات أخرى وما هو الأثر المحتمل عند تطبيقها في المجتمع المغربي الذي له، مثل جميع المجتمعات، خصوصيته. ويمكن أن نقول اليوم أن الأساتذة الأجلاء المعهود لهم بصياغة مشروع الدستور المقبل، وليس فقط بتحريره، فيهم، بحكم المستوى العلمي الرفيع المعروفين به والضمانة العلمية المشهود لهم بها، ما يضمن تحقق ما سبق الإشارة إليه. أن محاولة الجواب على السؤال المطروح أعلاه يدفع إلى تفضيل القول بأن الاختيار بالارتقاء بالقضاء كسلطة يدفعنا للقول بأننا في منطق التأسيس لقضاء كسلطة، أي منطق نحاول به الجواب على سؤال الاتصال و الانفصال بين القضاء من جهة والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية من جهة أخرى. فما هي إذن الأفكار المؤسسة لهذا الوضع الدستوري الذي نريده أن يكون جديدا في دستورنا، وما هي التحولات التي من المنتظر أن يعرفها المشهد القضائي بعد دخول الدستور الجديد حيز التطبيق، علما، و للتذكير، أن مؤسسة القاضي هي المؤسسة التي يمكن لها أن تفقر غنيا أو تغني فقيرا، أن تحرم مواطنا من حريته أو تحرمه حتى من حياته. مباشرة بعد النطق بكلمة: حكمت المحكمة.... فهذه السلطة الخطيرة هي في نهاية المسار بين يدي شخص – مواطن قد يخطئ وقد يصيب مثله مثل كل البشر فوق هذه الأرض، خصوصا وأن الاتجاه الجاري اليوم من طرف وزارة العدل هو الرجوع إلى القضاء الفردي أي الرجوع إلى إرادة واحدة تحدد الحقوق والواجبات والتي لنا فيها رأي ليس هذا الموضوع مجالا له. أن أي متتبع للنقاش الدائر اليوم حول مشروع الدستور المقبل سيلاحظ أن ذلك النقاش ينصب كليا حول الاختصاصات أي اختصاصات السلطات التنفيذية واختصاص السلطة التشريعية واختصاصات رئيس الحكومة و غيرها من الاختصاصات. لكن، عندما يفتح النقاش حول القضاء نلاحظ أن هناك تحولا جذريا، إذ أن ذلك النقاش لا يتعلق بالاختصاصات، وإنما يتعلق بتركيبة المؤسسة الممثلة للقضاء أو المتحدثة باسمه أو بأي صفة أخرى، ألا وهو المجلس الأعلى للقضاء. فهذا الفرق الجوهري بين نوعين من النقاش يتأكد ويتضح عندما نعود إلى قراءة المذكرات التي قدمت للجنة صياغة الدستور من قبل الأحزاب السياسية، و ممثلي القضاة وممثلي المجتمع المدني. و التي يظهر منها تعدد المواقف بخصوص تركيبة هذه المؤسسة، بينما في المقابل قد نلاحظ أن النقاش حول اختصاصات هذه المؤسسة يكاد يكون غير حاضر. و يمكن تمييز تلك المواقف من خلال قراءة تلك المذكرات كما يلي : الموقف الأول: ويتمثل في الأحزاب التي تريد أن تدخل تغييرا جوهريا على هيكلة المجلس، بعدما تبين أن هناك شبه إجماع حول ضرورة إبعاد وزير العدل من النيابة على جلالة الملك في رئاسة المجلس الأعلى للقضاء. وتتلخص الهيكلة المقترحة من طرف هذه الأحزاب على الشكل التالي: -احتفاظ جلالة الملك برئاسة المجلس الأعلى للقضاء. -تعيين من طرف جلالة الملك، لشخصية خارج القضاة للنيابة على جلالته في رئاسة ذلك المجلس.
و هذه الأحزاب هي : - الإتحاد الاشتراكي - حزب الاستقلال. - التجمع الوطني للأحرار. - جبهة القوى. - الأصالة والمعاصرة. - الإتحاد الدستوري. - جمعيات من المجتمع المدني التي نشرت آرائها في هذا الموضوع.
الموقف الثاني : و يتمثل في احتفاظ جلالة الملك برئاسة المجلس الأعلى للقضاء، وإسناد مهمة النيابة إلى رئيس المجلس الأعلى. و الأحزاب التي قدمت هذه الاقتراح هي: - التقدم والاشتراكية. - الحركة الشعبية. الموقف الثالث : ويتمثل في هيكلة أخرى وهي عدم رآسة جلالة الملك للمجلس الأعلى وإسنادها رئيس المجلس الأعلى. والأحزاب التي قدمت هذا الاقتراح وهي: - العدالة والتنمية. - حزب الطليعة. غير أنه إذا كانت الأحزاب التي أتيح لي الإطلاع على مواقفها، قد اختلفت حول النيابة على رئيس المجلس أو حتى حول رئيس المجلس، إلا أنها أجمعت كلها على ضرورة توسيع تركيبة المجلس، وذلك بفتحها في وجه شخصيات غير قضائية ولم تختلف مع كل الأحزاب إلا الودادية الحسنية للقضاة التي ترى أن هذا المجلس يجب أن يكون مكونا فقط من القضاة الممارسين وحدهم. و بهده المناسبة فإن كل الفاعلين السياسيين والقضائيين لا يمكنهم إلا أن يرحبوا بسماع رأي قضاتنا الذين أصبحوا اليوم يعبرون عن آرائهم حول القضايا الكبرى لبلادنا و هذا مؤشر على التحول و التطور الذي يعرفه مجال الحرية لدى قضاتنا. إذ يمكن الإشارة إلى أن القضاة كانوا ملزمين لأخذ إذن خاص من وزير العدل ليشاركوا في ندوة أو يكتبوا مقالا في جريدة. ومن الإنصاف القول كذلك أن ذلك الاحتراز له من يدافع عنه ليس من منطلق سياسي، وإنما من منطلق قانوني، إذ حسب رأي هؤلاء فإنه من الأحسن عدم الزج بالقاضي في أي نقاش سياسي أو مؤسسي أو حتى قانوني، حتى لا يعرف الناس رأيه في قضايا قد تعرض عليه للبث فيها. لكن، التحولات التي يعرفها العالم اليوم رفعت أي مسوغ لتبرير الوضع السابق حاليا. فما هي ادن محددات النقاش حول موضوعنا اليوم وكيف سيرتقى القضاء إلى سلطة. في تقديري أن الحسم في أحسن وأمثل تركيبة للمجلس الأعلى بالنظر للمهمة التي سيكون عليها في الدستور المقبل، إي الارتقاء به كسلطة، لا يتأتى إلا بالجواب على سؤال مركزي وهو: هل هيكلة المجلس الأعلى و تركيبته هي التي ستحدد اختصاصاته كمجسد للقضاء كسلطة، أم أن هذه الاختصاصات هي التي ستحدد تلك الهيكلة وتلك التركيبة. أن النقاش حول تركيبة المجلس إذ ما انحصر في عدد الأشخاص و صفاتهم سيكون نقاشا قاصرا على تملك و استيعاب التحول الذي أسس له الخطاب الملكي عندما استجاب لمطلب الارتقاء بالقضاء كسلطة، خصوصا والكل متفق على أن أعضاء المجلس الدائمين كانوا ولازالوا من خيرة قضاتنا تأهيلا و خبرة و يملكون من الصفات التي تؤهلهم لتدبير هذه المؤسسة إلى جانب القضاة الممثلين لباقي الجسم القضائي. لكن، النقاش العميق يتجاوز، في المرحلة الأولى، التركيبة ليطرح إشكالية الاختصاصات التي تسند للمجلس الأعلى للقضاء بشقيه: قضاة الحكم و قضاة النيابة العامة، وكذا القضاء الإداري، في المستقبل القريب، فهل ستنحصر اختصاصات المجلس في شقها الوظيفي: ترقية و انتقال أم أن المجلس ستسند له اختصاصات تهم السياسية العدلية و السياسة الجنائية. أن المتتبع لما كتب في السنوات الأخيرة سيلاحظ أن هناك أصوات رفعت تطالب بان يسند وضع السياسة العدلية – السياسة الجنائية إلى اختصاص المجلس الأعلى كعنوان لاستقلال فعلي للقضاء، وإخراجها من حضن المؤسسات التنفيذية ومنها وزير العدل. و هذا يدفعنا إلى التساؤل هل وضع السياسة العدلية والسياسة الجنائية هو من اختصاص السلطة القضائية أم اختصاص السلطات التنفيذية ؟. وهل الجواب على هذا التساؤل تكفي فيه المواقف النظرية أو حتى المنطقية أم أن الجواب على هذا الإشكال هو في كنهه وعمقه يطرح إشكالية فصل السلط وكيفية توازنها، أي هو جوهر النقاش الدستوري ومحتواه. قبل أن نبدي رأيا بخصوص محاولة تقديم جواب على الإشكالية المذكورة من الضروري التذكير بما يلي: إنه من غير المنازع فيه أن أي مشرع لأي نص دستوري لا بد له، من أجل وضع دستور لدولة ديمقراطية حداثية أن يجد لنفسه مدخلا لكيفية توزيع السلط بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ذلك التوزيع الذي يتوقف عليه نجاح أي دستور في ضمان أمرين رئيسيين: هما الاستقرار السياسي وتحريك أنجع لعجلة التنمية الشاملة. فالمدخل الأساسي يكون، ادن، بالانطلاق من تحديد مصدر السلط وآنذاك يمكن العمل على توزيع تلك السلط بشكل يضمن توازنها. ففي الأنظمة الديمقراطية يكون مصدر السلطة هو الشعب وهذه الخلاصة المتقدمة هي التي نجدها مضمنة في الخطاب الملكي ل 9 مارس الذي ورد فيه أن الحكومة التي سيعهد لها لتدبير الشأن العام ستكون حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية. فالخطاب الملكي يربط بين الإرادة الشعبية، في تمثل لمبدأ التفويض الذي يقدمه الشعب لمنتخبيه، ذلك التفويض الذي بمقتضاه تصبح للحكومة شرعيتها تؤهلها لاتخاذ الإجراءات المفرحة وكذلك المؤلمة لتلك الإرادة الشعبية. غير أن الخطاب الملكي لم يكتف بسن هذه القاعدة الجديدة في الدستور المقبل، والتي لا وجود لها لا في دستور 1960 ولا 1970 ولا 1972 ولا 1992 ولا 1996, وإنما ربطها بقاعدة دستورية أخرى لصيقة ولازمة لكل بناء للدولة العصرية الديمقراطية وهو ضرورة تلازم ممارسة السلطة والمسؤولية بالمراقبة والمحاسبة. إن الخلاصة الأساسية للقاعدتين الواردتين في الخطاب الملكي هي: -إن الإرادة الشعبية هي المقررة في انبثاق الحكومة. -أن ممارسة السلطة مرتبط بالمراقبة والمحاسبة. إذا كانت هذه القواعد أصبحت غير منازع فيها و ستشكل احد أعمدة البناء للدستور المقبل، فإلى أي مدى يمكن إعمال هاتين القاعدتين في بناء القضاء كسلطة. عندما نريد أن نجمع القضايا الكبرى من كل ما سبق بيانه أعلاه، سنجد أنفسنا أمام الإشكال المحوري التالي: هل السلطة التي ستضع السياسة العدلية والسياسة الجنائية يجب أن تكون سلطة خاضعة للمراقبة والمحاسبة أم لا ?. قبل تقديم جواب على هذا الإشكال في علاقته مع الوضع في المغرب، من المفيد، إعمالا لما سبق بيانه، أن نطلع كيف تم الجواب على هذا الإشكال – السؤال في الدول الديمقراطية خصوصا منها الأوروبية، التي هي كذلك لازالت إشكالية السلطة المكلفة بوضع السياسة العدلية والجنائية معروضة للنقاش عندها. إن الحديث على مفهوم السياسة العدلية والجنائية لا يطرح فقط إشكالية تعريفها والذي يمكن الاتفاق عليه أو الاختلاف حول مضمونه وإنما يطرح بالأساس تساؤل حول الجهة المؤهلة لوضعها. وكما هو معلوم لم يسبق في تاريخ المغرب القضائي والسياسي أن أعلن رسميا عن وجود أو حتى الحديث عن السياسة العدلية والجنائية للدولة فهل هذا يعني أن الدولة المغربية لم تكن لها سياسة عدلية وجنائية. إنه خلافا لما قد يذهب إليه البعض فإن الدولة المغربية كانت لها دائما سياسة عدلية منذ بداية الاستقلال، ومما يعزز هذا القول هو التعديل الذي أدخل على قواعد المسطرة الجنائية منذ 1953 و 1974 و 2003 وتلازم ذلك التعديل مع التعييرات السياسية الكبرى التي عرفها المغرب. إن السياسة العدلية والجنائية هي ذلك التصور الذي تضعه السلطات التنفيذية لتأطير الحريات الفردية و الجماعية في كل المجالات من أجل خدمة أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية. إن البحث عن جواب على الإشكال المذكور فرض على الفكر الحقوقي والسياسي الأوروبي أن يمر عبر مدخل لابد منه وهو الفصل في الخلاف القائم حول دور النيابة العامة في تدبيرها للسياسة العدلية والجنائية و تأثير ذلك التدبير على العملية العدلية والقضائية بالنظر إلى أن الوضع القانوني للنيابة العامة في علاقتها مع السلطات التنفيذية وبالأولوية في علاقتها مع وزير العدل بسبب التسلسل التراتبي القانوني مع هذا الأخير من جهة مقابل صلاحيات لتحريك المتابعات و حفظها وتدخلها في القضايا ذات الطبيعة المدنية الأخرى. بل لاحظنا حتى الدور الذي تلعبه النيابة العامة في هيكلة المحكمة العليا. هذه الازدواجية هي التي وقف عليها السيد أندري فيتو ANDRE VITU وهو أستاذ بكلية الحقوق بنانسي، عندما خلص إلى أننا هنا أمام مفهومين متناقضين لدور النيابة العامة في فرنسا، وهي الخضوع للتسلسل الإداري من جهة والحرية في الحركة أي في تحريك المتابعة أو حفظها من جهة أخرى. وبهذه الفقرة يلخص الأستاذ VITU جوهر الإشكال المؤسسي الذي تعرفه دولة من أعرق الدول في الديمقراطية وكذلك في القضاء، وهو إشكال يلقي بظلاله على النقاش الدائر حول الجهة المؤهلة شرعيا لوضع السياسة الجنائية والعدلية وهو الأمر الذي أكده، كذلك، البروفسور فرانسوا جاكو FRANCOIS JACQUOT عندما ذهب إلى القول أنه من الناحية التقنية والقانونية والسياسية، فإن موضوع الاستقلالية يدفعنا إلى الإنكباب على دراسة تطور الأنظمة وعلى هياكل الديمقراطيات وعلى العلاقة ما بين القانوني والسياسي وكذا على وضع السؤال حول الخريطة الكلاسيكية لأنظمتنا الديمقراطية. و يستمر في نفس النهج ليذهب إلى أن غناء تلك الثقافة يبدأ من التحليل التقني لمؤسسات العدالة الجنائية لينتهي بتصورات دستورية وسياسية. وبهذا يربط البروفسور JACQUOT ما بين السياسي والقانوني في جدلية دائمة متصارعة أحيانا ومتنافسة أحيانا أخرى. وتذهب الأستاذة ميشال لور راسات MICHELLE LAURE RASSAT وهي أستاذة مبرزة في جامعة باريس سبق أن أنجزت تقريرا حول إصلاح قانوني المسطرة الجنائية، إلى أن النيابة العامة هي جهاز الربط ما بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية مكلفة بإسماع صوت الأولى لدى الثانية. ونستمر في القول أن هذه الوضعية الغريبة للنيابة العامة هي نتيجة لخطأ تاريخي لرجال الثورة الفرنسية الذين لم يفهموا آنذاك جسامة الخطأ الذي سيرتكبونه وأثره على التحولات السياسية التي أنجزوها عندما حددوا الوضع القانوني للنيابة العامة وقرروا بأن ضباط النيابة العامة هم أعوان السلطة التنفيذية لدى المحاكم (الفصل 1 من الكتاب 8 من المرسوم 24-16 غشت 1790). ولقد كان دافعهم إلى ذلك يرجع إلى أنه قبل الثورة كان هؤلاء الضباط يحملون لقب “أعوان الملك لدى المحاكم” وتعلق الأستاذة RASSAT على موقف رجال الثورة بأنهم هم من غير اسم ضباط النيابة العامة من ” أعوان الملك ” لدى المحاكم إلى ” أعوان للسلطة التنفيذية” لدى المحاكم. وتضيف الأستاذة RASSAT بأن الثوار لم ينتبهوا إلى أن مفهوم “أعوان الملك ” كان يعني الممثلين للسلطة السيادية Pouvoir Souverain. و إنهم لو دققوا في الآمر لأعطوا لأولائك صفة ممثلي الأمة وليس ممثل السلطة التنفيذية باعتبار أن السيادة بعد الثورة أصبحت ملازمة للجهاز التنفيذي. وتذهب RASSAT للقول أن هذه التسمية خلقت وضعا مزدوجا للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للأمة، ذلك أن الأمة يعبر عنها بطريقتين إما عن طريق التصويت على القوانين من طرف ممثلي الشعب من جهة أو عند اختيار الحكومة من جهة أخرى وبهذا يصبح ضباط النيابة العامة خدام لسيدين مختلفين SERVEURE DE DEUX MAITRES DIFDERENTS. والخلاصة التي انتهت إليها الأستاذة RASSAT هي أن فصل السلط لا يعني تجاهل السلطة La séparation du pouvoir n'est pas l'ignorance des pouvoirs و تضيف أنه إذا كان للحكومة الحق أن تسمع صوتها في قلب البرلمان الذي يتكون من ممثل الأمة فإن من حقها أن تسمع صوتها للسلطة القضائية. ويظهر أن هذه الخلاصة هي التي طبقت في الكلمة التي افتتح بها رئيس اللجنة البرلمانية التي استمعت لقاضي التحقيق الفرنسي Burgaud عندما واجه ذلك القاضي، قبل بدابة الجلسة بما معناه قد يتساءل البعض لماذا تتدخل السلطة التشريعية في السلطة القضائية، ويجيب رئيس اللجنة André VALLINI على السؤال الذي وضعه، و هو يتوجه إلى القاضي، إذا كنت أنت تحكم باسم الشعب الفرنسي فانا امثل الشعب الفرنسي.... وإذا كان هذا النقاش في فرنسا استطاع أن يصل إلى هذا النوع من التوافق دون الحسم النهائي في إشكالية دور النيابة العامة في علاقتها مع السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فإن الوضع في بلجيكا لم يختلف بشكل كبير. ذلك أن الدستور البلجيكي في الباب المتعلق بالنيابة العامة كان مشروع الفصل 137 ينص على ما يلي:
” النيابة العامة تمثل الجهاز التنفيذي في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف. وبعد النقاش الذي دار حول ذلك الفصل تم التراجع عن هذه الصيغة وعوضت بصيغة عامة خضعت هي كذلك لمبدأ التوافق وعدم الحسم وأصبح الفصل 137 من دستور 1830 يقول أن النيابة العامة تقوم بأدوار تلقائية في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف والمحاكم، لكنه أي الدستور احتفظ في الفصل 153 منه للملك بالحق في تعيين القضاة وعزلهم مما يترجم بشكل واضح الوضع الدستوري للقاضي في بلجيكا. وانطلاقا من هذا الوضع تقول السيدة كريستين دوربن جاكوب CRISTINE DERENNE JACOBS وهي محامية وأستاذة بكلية الحقوق بلييج ببلجيكا، إن وزير العدل لا يمكنه أن يحل محل النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، وأن تقاليد الاستقلالية هذه وصلت إلى حد منازعة وزير العدل في حقه في وضع خطوط للسياسة العدلية على اعتبار أنها سياسة قضائية تدخل في اختصاص السلطة القضائية وليس السلطة الحكومية. غير أن التحولات التي عرفها العالم بعد سقوط الإتحاد السوفياتي و ظهور تحكم القطب الوحيد في السياسة الدولية وكذا بروز ظاهرة الإرهاب كعنف جديد سيؤثر في إعادة صياغة نسق قانوني ومؤسساتي جديد في اتجاه التقليص من مجال تدخل السلطات القضائية لفائدة تدعيم تدخل السلطات التنفيذية. وتقول الأستاذة RASSAT إن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية المؤرخ في 30-04-1990 المتعلق بالإرهاب والجريمة المنظمة قدم نظرة جديدة و نقدية خاصة للوضعية الحالية معاينا انعدام وجود سياسة جنائية حقيقية وغياب المراقبة على النيابة العامة. و لقد خلصت اللجنة إلى أن السياسات العامة المتعلقة بالأبحاث والمتابعات هي من مسؤولية الحكومة وعلى الخصوص وزير العدل، والتي يجب أن تكون مراقبة من قبل البرلمان وعلى وزير العدل انطلاقا من توجهات عامة أن يحدد للنيابة العامة الخطوط الموجهة للسياسة الجنائية وأنه يتحمل المسؤولية السياسية لذلك أمام البرلمان بينما تطبيق هذه الخطوط الموجهة يرجع إلى النيابة التي أعطاها القانون مهمة تحريك المتابعات بينما وزير العدل يراقب حسن تطبيق تلك التوجهات. وعندما ننتقل إلى ألمانيا سنلاحظ أن نفس النقاش بل وحتى نفس الخلاصات التي انتهى إليها هي متشابهة مع النقاش و الخلاصات المشار إليها أعلاه إذ يقول البروفسور هايك جانك HEKE JUNQ وهو أستاذ للقانون الجنائي في كلية الحقوق في ألمانيا إن النيابة العامة يمكن أن تتوصل بتعليمات تتعلق بالتعامل الخاص مع قضية، وكذا السياسة الجنائية العامة، هذه التعليمات يمكن أن تكون داخلية كما يمكن أن تكون خارجية صادرة عن وزير العدل. وعندما نطلع على التقرير الذي أنجزته الجمعية الوطنية الفرنسية “البرلمان” المؤرخ في 18-06-1999 نلاحظ أنه أشار أن لجنة TRUCME قدمت توصيات إلى وزير العدل تدور حول الإشكالية التي نحن بصددها إذ جاء في تلك التوجهات ” أن وزير العدل هو الذي يحدد علنيا التوجهات العامة لسياسة الدعوى العمومية ولكن لا يمكنه إعطاء تعليمات للوكلاء العامين في قضايا خاصة لكنه يمكنه التحاور معهم بخصوص هذه الملفات كما يمكنه اللجوء إلى جميع الأجهزة القضائية وأن يبلغها ملاحظاته عن طريق قاض أم محام عام. كما نقرأ في تقرير لجنة القوانين، أنه من المشروع والضروري أن الحكومة، تحت مراقبة البرلمان، تحدد المبادئ الموجهة للسياسة الجنائية، و أن وزير العدل يخبر النيابة العامة بهذه التوجيهات قبل العمل على تطبيقها. وهذا الفهم والمنطق هو الذي حكم التعديل الأخير للدستور الفرنسي الذي تقدم به الرئيس ساركوزي سنة 2008 والذي أبقى على وزير العدل ضمن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بالرغم عن أن الوضع في فرنسا متأخر عن الوضع في المغرب؛ إذ أن قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة غير متساوين أمام المجلس الأعلى للقضاء. ذلك إذ أن المجلس لا يملك إلا إبداء الرأي في تعيين أو عزل قضاة النيابة العامة بينما المجلس الأعلى بالمغرب يقدم اقتراحات بخصوصهم مثل قضاة الحكم. وهكذا نلاحظ أن النقاش حول الجهة المؤهلة لوضع السياسة العدلية والجنائية هي هل هي السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية قد حسم لفائدة الأولى وأن هذا التوجه نجح بفضل استناده إلى مبدأ الشرعية أي إلى مصدر السيادة الذي هو الأمة. وبما أن الحكومات في الدول المشار إليها أعلاه هي المنبثقة عن الأغلبية البرلمانية، وبما أن البرلمان هو الممثل الشرعي لأفراد المجتمع، فإنه من المنطق الدستوري أن تتحمل الحكومة مسؤولية وضع السياسة الجنائية والعدلية لتراقب و تحاسب عليها أمام البرلمان. وبخصوص الوضع في المغرب و كما سبقت الإشارة إليه فإن الخطاب الملكي حسم في أمرين: الحكومة التي سعين رئيسها جلالة الملك لتدبير الشأن العام يجب أن تكون منبثقة من الإرادة الشعبية. أن ممارسة السلطة أو المسؤولية لابد أن يكون موضوع مراقبة ومحاسبة. انطلاقا من هذه الملاحظات يمكن أن نتكلم عن التركيبة والهيكلة التي يمكن أن يكون عليها المجلس الأعلى في ظل الارتقاء به كسلطة وفي ظل كون الوزير الأول والحكومة المقبلين سيكونان موضوع مراقبة ومحاسبة. أنه لا خلاف حول إعادة النظر في دور وزير العدل في المجلس الأعلى، لكن أي مطالبة بإخراجه من تركيبة المجلس الأعلى سيفرض بالضرورة دخول أطراف أخرى في تلك التركيبة لمراقبة دور المجلس في تدبيره للشأن القضائي. علما أن حتى الأحزاب التي اقترحت أن يمثل جلالة الملك شخصية مستقلة وغير قضائية لم تبين الآلية لمراقبة عمل وتدبير هذه الشخصية ولا الجهة التي ستقوم بذلك، خصوصا وأن وزير العدل في الوضع الحالي هو مراقب بقوة الدستور من طرف جلالة الملك باعتباره وزير العدل ينوب على جلالة الملك، ومراقب من طرف الحكومة ومراقب من طرف البرلمان. عندما لا يكون وزير العدل حاضرا أو ممثلا، فكيف يمكن مراقبة القضاء كسلطة إعمالا للقاعدة الواردة في الخطاب الملكي من ضرورة تلازم ممارسة السلطة بالمراقبة و المحاسبة أليس من الأحسن الإبقاء على التركيبة الحالية مع إجراء تعديل في دور وزير العدل بالمجلس الأعلى للقضاء. إن المستقبل وحده سيجيب على هذه التساؤل