استبشر المتتبعون للشأن التعليمي خيرا بتصريحات الوزير الجديد "محمد حصاد"، والتي أكدت على مدى جدية الوزارة وعزمها القوي على إنجاح محطة الامتحانات الإشهادية لهذا الموسم، خاصة في ما يتعلق بالنزاهة وتكافؤ الفرص ومحاربة الغش وفق مستجدات قانونية صارمة. وإذا كانت هذه التصريحات الوزارية المتناثرة على العديد من المواقع الإخبارية الوطنية؛ قد تركت نوعا من الاطمئنان النفسي لدى كثير من المترشحين وأوليائهم، فإن واقع الاستحقاقات ومنذ اليوم الأول، جاء مخالفا للتوقعات. وسنكتفي هنا بنموذج لإحدى الجهات الكبرى، وهي أكاديمية الدارالبيضاءسطات، من خلال تسليط الضوء على الامتحان الجهوي الخاص بمستوى أولى باك الشعب العلمية والتقنية.
لقد اهتزت الأكاديمية صبيحة اليوم الأول، على وقع خطإ فادح وقع فيه مركز من مراكز الامتحان بإحدى ثانويات الجهة (ثانوية مولاي بوشعيب بآزمور)، حيث تم فتح الظرف
الخاص بمادة اللغة العربية بدل ظرف مادة التربية الإسلامية؛ ولم ينتبه المسؤولون إلى ذلك؛ إلا بعد أن تم توزيع الأوراق على المترشحين بتلك الثانوية. وهو الأمر الذي يعتبر نوعا من التسريب ولو بخطإ تقني؛ مما اظطرت معه الأكاديمية إلى تمكين مختلف مراكز الجهة من الموضوع الاحتياطي (موضوع الحداثة) لمادة اللغة العربية المبرمجة على الساعة الثالثة من زوال هذا اليوم الأول. وحتى تسابق الزمن قبل هذا الموعد؛ توسلت الأكاديمية بطائرة مروحية، ورغم ذلك، فإن توقيت الصدمة وحجمها جعل الكل يخبط خبط عشواء، فغاب التنسيق، لينطلق الامتحان بأزمنة متفاوتة من مركز إلى آخر، فهناك من دق جرس الانطلاق متأخرًا بعشر دقائق (15:10)، وهناك من دقه متأخرا بأكثر من ساعة.
وإلى هنا، تبدو الأمور في حكم المتوقع، مادام الخطأ التقني واردا في أي لحظة، لكن الأدهى من ذلك هو تلك الشائعات التي سرت على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأماكن العامة، مفادها أن بعض المديريات لم تعتمد هذا الموضوع الاحتياطي، وإنما أصرت على الموضوع الرسمي رغم تسريبه بالخطإ (موضوع الهجرة). وهي الشائعات التي تأكدت صحتها صبيحة انطلاق عملية تصحيح الامتحانات الجهوية، حيث تفاجأ الأساتذة في بعض المراكز مثلما هو الحال في مركز ثانوية ابن خلدون بالجديدة بوجود دليلين للتصحيح: دليل عن الموضوع الاحتياطي (الحداثة)، ودليل عن موضوع آخر (الهجرة). وتلك سابقة أولى من نوعها في الجهة، ولعلها في المغرب بأكمله.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ و"لتكتمل الباهية"، نشر أحد المواقع الإخبارية خبرا بعنوان قصة عدم العثور على أوراق الامتحان، مفاده أن إحدى المديريات بالجهة مديرية مولاي رشيد وفي ظروف غامضة، اختفت فيها أوراق الامتحان للموضوع الاحتياطي الأول على مستوى مؤسستين ثانويتين داخل ترابها، الشيء الذي اظطرت معه الأكاديمية إلى تمكين هذين الثانويتين من أوراق الامتحان الاحتياطي الثاني، ليدق جرس الانطلاق متأخرا بأكثر من ساعة! ولتكون جهة الدارالبيضاءسطات، أول جهة يجرى فيها هذا الامتحان بثلاثة نماذج مختلفة في سابقة غريبة.
وإذا كان هذا هو الوضع الذي عرفه هذا الامتحان الجهوي بهذه الجهة من حيث التدبير التقني، فماذا عن ماهية موضوع هذه المادة اللغة العربية وما مدى التزام الساهرين عليه؛ باحترام الإطار المرجعي الذي ينظمه؟
للوقوف على ذلك؛ سنكتفي بقراءة في الموضوع الاحتياطي الأول (الحداثة) من حيث الجوانب الشكلية وكذا الموضوعية، إلى جانب قراءة أخرى في دليل تصحيحه.
· الجوانب الشكلية:
كان الامتحان منسجما من حيث الشكل مع الإطار المرجعي المنظم له، غير أن السؤال السابع والأخير في مكون النصوص، لم يثبت ترقيمه، الشيء الذي خلق ارتباكا لدى المترشحين، والذي كان له انعكاس سلبي على سير عملية التصحيح.
· الجوانب الموضوعية:
إن الأهمية التي تكتسيها استحقاقات الباكالوريا؛ جعلت الوزارة تهتم غاية الاهتمام بالأطر المرجعية المنظمة لهذه الاستحقاقات، فإلى أي حد كان هذا الامتحان مستجيبا للأهداف العامة التي سطرها الإطار المرجعي الخاص باللغة العربية مستوى أولى باك الشعب العلمية والتقنية؟
ينص الإطار المرجعي على أن السؤال الأول في مكون النصوص هو سؤال تمهيدي يكتفي فيه المترشح بملامسة عتبات النص؛ لكي يصوغ فرضية أولية لقراءته انطلاقا من " التقاط مشيرات أولية (عنوان النص أو بداية النص أو نهايته أو كلمات مفاتيح...)" (الإطار المرجعي ص.4)، وهذا ما حاد عنه هذا الامتحان، إذ أصر السؤال 1 على إلزام المترشح بقراءة الفقرة 1 بأكملها من أجل صياغة الفرضية! وهنا نتساءل: أي افتراض سيتبقى لنا بعد قراءة فقرة كاملة، والتي أعطتنا صورة شبه تامة عن موضوع النص؟!
وهذا الأمر سيلقي بظلاله على جواب السؤال 2 الخاص بتحديد قضية النص، والذي لم يكن في كثير من الحالات إلا إعادة لجواب السؤال 1.
وأما السؤال 3 (ما مظاهر الحداثة في السلوك حسب النص؟) فلم يكن دقيقا بما فيه الكفاية، الشيء الذي فرض على المترشحين إعمال الفكر لتأويله، فمنهم من اعتبره مطلبا لمظاهر الحداثة في السلوك المغربي والتي أكد النص على أنها منعدمة لأسباب معينة أشار إليها، وهناك من ظن أنه مطلب لمظاهر الحداثة في السلوك الأوروبي والتي مثل لها النص بكثير من الأمثلة الدالة على كثرة انتشارها، وهناك من ظن أنه مطلب لمظاهر الحداثة في السلوك من الجانب النظري بصفة عامة. وكل ذلك أدى إلى تشتيت الأجوبة وتباينها نتيجة غموض صياغة السؤال.
ونصل إلى السؤال السابع والأخير في مكون النصوص، وهو دليل واضح على مدى ضبابية الرؤية لدى واضعي هذا الامتحان، فإذا كان الإطار المرجعي ينص على أنه سؤال خاص بمهارة التركيب، أي تركيب نتائج دراسة النص شكلا ومضمونا، بما في ذلك التعرف على نوعيته وقضيته والآليات اللغوية والحجاجية التي اعتمدها الكاتب مع مناقشتها؛ فإن السؤال أصر هذه المرة، على مطالبة التلاميذ بتلخيص المضامين فحسب، ثم مناقشتها، وهنا إهمال كلي للجوانب الشكلية في دراسة النص. كما أن التلخيص ليس سوى قراءة وصفية تدخل في خانة مهارة الفهم، فما قيمتها في مهارة التركيب والمناقشة التي تعتمد أساسا على آليات التأويل بوسائل حجاجية؟!
لقد خلق هذا السؤال جدلا واسعا في أوساط التلاميذ حتى بعد نهاية فترة الامتحانات، وهذا الجدل انعكس على نوعية إجاباتهم بشهادة المصححين الذين أكدوا على أنها تباينت ما بين تركيب للنتائج مع المناقشة تماشيا مع المطلوب الأصلي في الإطار المرجعي، وما بين الاكتفاء باجترار أجوبة الفهم فحسب، كنوع من التلخيص مع المناقشة تقيدا بهذا السؤال المستجد!
ونصل إلى مكون علوم اللغة، حيث يستوقفنا السؤال الثاني والخاص بمطلب الاستعارة التصريحية وطباق السلب، فإذا كان السؤال يؤكد على صياغة الجواب من "الإنشاء الخاص" للمترشح، فهل ستقبل الإجابات المقتبسة من مصادر ومراجع أخرى كالقرآن والحديث النبوي والشعر العربي؟! هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشق المتعلق بالاستعارة التصريحية سيخلق جدلا أثناء التصحيح. فعلى سبيل المثال، هل جملة "طلع البدر" ستكون جوابا صحيحا؛ علما أنها تحتمل الدلالة الحقيقية وكذا الدلالة المجازية الدالة على الاستعارة؟!
وأما في مكون التعبير والإنشاء، فقد ركز المطلب هنا، على مهارة التوسيع، منطلقا من فكرة متضمنة في نص الحداثة، وإذا كان هذا النص ذا طابع فلسفي، فإن موضوع الإنشاء كان أعمق من ذلك، دون اعتبار للمستوى الفكري والعمري للمترشح، فالمطلب قد ارتبط بالأنتروبولوجيا من خلال العادات والتقاليد، وبالفكر الميتولوجي من خلال مفهوم "التفكير الخرافي"، دون أن ننسى استمرارية الطابع الفلسفي للفكرة، إلى جانب ارتباطها بالتنظيم المؤسسي والقانوني للمجتمع! وهذا ما حذا بكثير من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي إلى إرسال تغريدات،
يتحدون فيها واضعي هذا الموضوع؛ على أن ينجزوا نصا إنشائيا متكاملا لتوسيع تلك الفكرة بالمواصفات التي طلبها السؤال.
وإذا كانت هذه هي أهم الملاحظات التي سجلناها على ورقة هذا الامتحان، فماذا عن الورقة الخاصة بدليل تصحيحه؟
· دليل التصحيح:
إن أول ما يثير انتباهنا هو إشارة هذا الدليل في بدايته إلى أنه مجرد إطار عام يسترشد به المصححون، وفي تلك الإشارة نوع من درء المسؤولية والتخفف من المؤاخذات التي قد يتعرض لها هذا الدليل. وإجمالا، فإنه تميز بتفاوت في الاهتمام بمكونات هذا الامتحان، إذ أنه وعلى مستوى مكون النصوص نرصد نوعا من الجهد والجدية في صياغة دليل تصحيح نموذجي، في حين جاء تصحيح مكوني علوم اللغة والتعبير والإنشاء شكليا.
فعلى مستوى مكون النصوص، يستوقفنا تصحيح السؤال الخاص بالعلاقة القائمة بين الحقول الدلالية، وقد صرح الدليل على أنها علاقة تكامل وترابط، وهذا النوع من العلاقات غالبا ما يُعتمد في كثير من الحالات، رغم أنه لا يتسم بالدقة ويغلب عليه طابع التعميم. خاصة وأننا إذا تتبعنا مضامين النص؛ سنجد فعلا هناك علاقة تربط بين حقلي الحداثة والعقلنة؛ ذلك لأن السلوك الحداثي وحسب النص، يقتضي ويستلزم شرط العقلنة، ومن هنا نستشف بأن العلاقة الدقيقة بين الحقلين هي علاقة اقتضاء أو لنقل علاقة استلزام، أي أنها أكثر وضوحا من علاقة الترابط والتكامل التي جاءت في الدليل.
فيما يخص السؤال 5 الخاص بتحليل قولة من النص، فقد جاء التصحيح نوعا ما سطحيا، إذ حلل القولة وفق نظرة قاصرة عن فهم مقصود الكاتب (ويفرض العقلنة عن طريق القانون، ومن لا يحترم القانون يعاقب بشدة. هكذا تتعود الأجيال على العقلنة...)، والذي لم يكن يروم الحديث عن الجوانب النظرية للقانون كما جاء في التصحيح وإنما كان يوجه سهام نقده للمجتمع المغربي الذي لا يُفَعِّلُ القوانين على أرض الواقع، حيث تنتشر مظاهر تجاوزها وعدم احترامها دون أن تقابل بالعقوبات المسطرة، وما دام الأمر كذلك حسب الكاتب
فإن المجتمع لن يحقق السلوك العقلاني الحداثي؛ ما لم يفعل تلك القوانين عمليا ورسميا من خلال معاقبة كل متجاوز ومخالف لها.
وحينما نصل إلى تصحيح السؤال 6 لا نعثر على أي إجابة شافية، إذ أنه لم يكن إلا اجترارا لفظيا للسؤال نفسه، حيث جاء كالتالي:" يفترض في المترشح(ة) أن يستخرج أسلوب التمثيل، مع توضيح وظيفته"! وهنا نتساءل: لماذا تقاعس الدليل عن حصر الأجوبة داخل النص، أو على الأقل جرد أمثلة لها، ثم ذكر تلك الوظيفة التي يقوم بها أسلوب التمثيل؟!
إن ملاحظتنا الأخيرة حول السؤال 6 هي نفسها تنسحب وبصفة إجمالية، على مكوني علوم اللغة والإنشاء معا. فقد جاء الدليل عقيما شحيحا لا أثر فيه للأجوبة الشافية، اللهم اجترار الأسئلة في علوم اللغة، ثم التذكير بالخطوات الأساس لكتابة أي إنشاء في مكون التعبير، لدرجة أن ما جاء في هذا الدليل هو نفسه الذي كان في دليل تصحيح الموضوع الآخر دون أدنى اختلاف!
ولتوضيح الأمر أكثر، ألم يكن من الأجدر في السؤال الخاص باستخراج المصادر؛ أن نتعفف عن اجترار مضمونه، ونعمل على تحديد مطلوبه من خلال حصر المصادر الخماسية، خاصة وأنها قليلة في الفقرة الثانية (اعتبار/ التمثل/انتقال/ التربية/ اقتناع / والمصدر الصناعي الاجتماعية) ثم تحديد المصدر السداسي الوحيد بتلك الفقرة (استيعاب)، مع تنبيه المصححين إلى أن الياء هنا منقلبة عن الواو، أي أن فعله هو "استوعب". وساعتها يمكننا الحديث عن تصحيح فعلي حقيقي.
إن هذه المشاكل التي اعترت هذا الامتحان الجهوي على المستوى التقني وكذا الجانب الموضوعي والشكلي لصياغته، تجعلنا نطرح العديد من الأسئلة، من أهمها:
إذا كانت الوزارة تصول وتجول في المنابر الإعلامية بخطابها الذي يؤكد على الجودة وتكافؤ الفرص، فأي تكافؤ هذا الذي سيكون بين مترشحي جهة واحدة
وهم يمتحنون في ثلاثة نماذج عن المادة الواحدة؛ مثل هذا الذي حصل في جهة الدارالبيضاءسطات في امتحان اللغة العربية.
إذا كان ما حدث من تسريب تقني عن غير قصد؛ هو ناتج عن خطإ لرئيس مركز الامتحان بمعية فريق عمله، فإننا نتساءل عن الشروط والضوابط التي تحكم عملية انتقاء الفريق ككل. علما أن رئيس ذلك المركز كان يعاني من ظروف عائلية خاصة، تتمثل في وفاة والده قبيل فترة الامتحانات، كما أنه موظف إداري بالسلك الإعدادي؛ في حين أن الأمر يتعلق بامتحانات السلك التأهيلي؟
إذا كانت مادة اللغة العربية مبرمجة لما بعد الزوال، فما الداعي إلى توزيعها على مراكز الامتحان منذ الصباح، ولماذا لا تكون عملية التوزيع تلك؛ وفق أنصاف الأيام (صباحًا / زوالاً)، درءاً لأي شبهة وتفاديا لأي طارئ محتمل؟
وإذا كان الأستاذ المداوم صاحب التخصص في المادة قيد الامتحان يتحمل جزءًا من هذا الخطإ، ذلك أنه لم يكلف نفسه عناء النظر إلى واجهة الظرف حيث عنوان المادة بالخط العريض، فإننا نتساءل عن الدافع الذي حدا بالوزارة إلى تقزيم دور هذا المداوم الذي صار كالسجين، ينحصر عمله في الحضور أثناء فتح الأظرفة، بعدما كان يضطلع بمهمة مراجعة ورقة الامتحان قبل توزيعها على القاعات، وهي المهمة التي لو أبقت عليها الوزارة لما تفاقم ذلك الخطأ الفادح، إذ أن المداوم سينتبه للأمر في حينه، وساعتها سيبقى الأمر سرا بين فريق العمل، دون أن يطلع المترشحون على ورقة أسئلة اللغة العربية، حيث وجدت طريقها إلى مواقع التواصل الاجتماعي؟
وبالعودة إلى موضوع الامتحان، فإننا نتساءل عن الشروط التي تضبط عملية انتقاء أعضاء اللجنة الساهرة على وضع تلك الامتحانات، وإلى أي حد تتقيد هذه اللجنة بمضامين الأطر المرجعية بحذافرها.
وإذا كان دليل التصحيح بذلك العقم والشح، بل وأحيانا المغالطة في تحديد المطلوب، فإننا نتساءل عن مدى نجاعة هذه اللجنة، وعن مدى كفاءة أعضائها.
ختاما، إن نقدنا هذا، لا يغمط الوزارة حقها، ولا ما تبذله من جهد للرفع من جودة التعليم، غير أن الموضوعية تفرض علينا أن نقف على الثغرات التي تسيء إلى عملها، ودافعنا إلى ذلك غيرتنا على هذا الوطن، وعلى هذا القطاع الذي نخجل
من الوضعية التي صار يحتلها بين باقي دول العالم. غيرة تأمل من المسؤولين أن يكثفوا جهودهم عمليا لا شفهيا وإعلاميا، لعل ذلك يعيد لتعليمنا بريقه وطنيا وعالميا.