من يصدق هذا الكوجيتو: }أنا متدين جدا، إذن أنا فاسد جدا} أو: {أنا فاسد جدا، إذن أنا متدين جدا!!}؟ سؤال تستغربه و تستهجنه قائلا: ضدان لا يجتمعان، فالدين تسامٍ ونظافة وفطرة سليمة، والفساد تسفل وانحطاط وانتكاسة للفطرة !! هذا إذا كانا خفيفين، فكيف إذا كانا شديدين؟ ولكن ما العمل إذا كان غيرك سلم بذلك ورأى أن العرب متدينون جدا وفاسدون جدا؟ وتجد من يشارك هذا الوصف على صفحات التواصل الاجتماعي مذيلا مشاركته بهذه الكلمة: {هذه حقيقة العرب}! بل قال ساخرهم: "متفق عليه" أذاك تشف وسخرية من أمة ضحكت من جهلها الأمم أم انتكاسة وتبعية لكل ناعق في الشرق والغرب أم جهل بالدين ومعانيه السامية؟ ما حقيقة الدين الذي يساكنه الفساد ويسير في ركابه؟ ويلتقي معتنقوه في المعبد كما يلتقون في الماخور؟ خمر وسكر، سفاد وفساد، ختل وقتل! فأين الإفاقة والصحو؟ وأين المروءة والصلاح؟ وأين الأمانة والأمان؟ أجعل الله للمتدين الفاسد قلبين في جوفه؟ أم جعل هو لنفسه وجهين في مجتمعه، يلتقي الناس بأحدهما وجه النهار، وبالآخر آخر النهار، ليقول من يعاشره: متدين جدا، وفاسد جدا؟؟ لا أدري هل عاشر الياباني نوتوهارا خلال إقامته الطويلة في العالم العربي الشيعة على اختلاف طوائفهم والسنة المتعددي المشارب والعلمانيين أحلاس المقاهي والمواخير، ثم شهد لهم بالتدين الشديد والفساد المبين، أم حشرهم في كشكوله العجيب قياسا؟ ثم هل صحيح ألا فرق بين عالم وجهول، وحاكم ومحكوم، وحضري وقروي، وغني وفقير، وصغير وكبير؟ وقديما قيل: إن كلمة العرب مشتقة من: (عربت بكسر الراء المعدة أي فسدت) فالعرب فاسدون أصلا وفصلا. فهل وجد شعب نقي تقي طاهر قبلهم أو بعدهم يزكي هذا؟! ثم جاء ابن خلدون فأثبت في نظريته أن العرب قوم مفسدون مخربون طبعا، ما دخلوا عمرانا إلا صيروه خرابا يبابا، قياسا للغائب على الشاهد!! ومن يدري لعل صاحبنا الياباني يريد أن يقول: إنهم فاسدون دينا ولغة وعرقا وثقافة وحضارة، بمعنى: هم أوساخ يجب تنقية الأرض من رجسهم أي ما يمارس الآن ضدا عليهم من قتل وتشريد وتهجير عمل إنساني للقضاء على التدين المغشوش والفساد المستشري؟! إني أوافق المراقب في جل انطباعاته مثل: (الحكومة لا تعامل الناس بجدية، بل تسخر منهم وتضحك عليهم) وأيضا: (في مجتمع كمجتمعنا -المجتمع الياباني- نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العربي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد) وكذلك: (عقولنا في اليابان عاجزة عن فهم أن يمدح الكاتب الحكومة أو أحد أفرادها، هذا غير موجود لدينا على الإطلاق، نحن نستغرب ظاهرة مديح الرئيس، باختصار، نحن لا نفهم علاقة الكتاب العرب بحكوماتهم) إلخ ولكني لا أوافق على أن يجمع الإنسان في قلبه بين التدين الشديد والفساد العريض، ذلك أن دين الإسلام دين متكامل، يجمع بين العبادة الخالصة لله والمعاملة الحسنة للمخلوقات، أو بين الإصلاح وإشاعته وبين محاربة الفساد وإزالته، وشعاره الخالد حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي. نعم إذا كان الدين عند شعب أو أمة طقوسا تؤدى في معبد يوما في الأسبوع، ثم ينطلق المتدين في جنبات الحياة لإشباع غرائزه دون ربط انطلاقه بدينه أو طقوسه فإن دين الإسلام يأبى لأصحابه هذا الانطلاق المجنون، إنه دين لا يحمل المتناقضات، بل هو منهج كامل للحياة كلها، الدنيا والآخرة، روى ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما خطبنا نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) أخرجه الإمام أحمد. وفي مسند الإمام أحمد كلمة جعفر بن أبي طالب التي وجهها للنجاشي: ((أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا........... فأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء)). وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدين الفساد والمفسدين: (والله لا يحب الفساد) البقرة، الآية: 205. (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) يونس، الآية: 81. فكيف يجمع المؤمن بين إسلام يرضاه الله تعالى له دينا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) المائدة، الآية: 3. وبين فساد ينخر المجتمع ويهدم أركانه. إن دينا تلك تعاليمه لا يمكن أن يكون معتنقه متدينا جدا وفاسدا جدا، فالكاتب: 1 إما أخطأ في انطباعاته وبالغ في أحكامه. 2 أو لاحظ المفسدين في جهة والمتدينين في جهة فجمعهم في كشكوله، وحكم على الجميع هذا الحكم المتناقض. 3 أو وجد نفسه في غابة مكتظة بالمنافقين، وتلك التي أهتم منها وأنصب. نعم إن كثيرا من المسلمين أساءوا إلى دينهم بتصرفاتهم حتى قال أحد المستشرقين، وقد أسلم: (الحمد لله أنني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين) . 4 أو خالط الحكومات التي عشش الفساد في أوصالها وجرى مجرى الدم في مفاصلها. على أن الدين عند هذه الحكومات لا يمكن أن يكون ثخينا، بل هو من الرقة بحيث تتاجر به في مجتمعاتها، ومن الهزل بحيث تراه إرهابا واقعا أو محتملا في الساحة الدولية، تستمد بقاءها من محاربته. ولكن شتان بين من يفسد ليعيش كالشعوب المغلوبة على أمرها، ومن يعيش ليفسد كالحكومات المتسلطة!!