في آواخر عقود القرن العشرين احتدم الصراع بين قطبي المعسكرين الشرقي والغربي فيمن يتسيد ربوع المعمورة ايديولوجيا،اقتصاديا ،عسكريا...في خضم تلك التجاذبات والتباينات تطورت حركات الاسلام السياسي بشكل كبير وملفت وانتقلت من مرحلة الدعوة /الصحوة واستفادت هي الأخرى من تداعيات الصراع وانتهجت منهجا برغماتيا للانتقال إلى مرحلة بناء تنظيمات ارتوذكسية تغلغلت سريعا في بنيات المجتمع بخطاب يسبر أغوار الوجدان الشعبي له أهداف معلنة واضحة احياءا للدين كما تزعم، واقحامه اقحاما في الحياة السياسية قصد التمكين والظفر بالسلطة وتشكيل دولة الخلافة بتعبير أدق. حسبما راكمته من تصورات استقاتها من الموروث دونما عناء البحث في تمحيصه والوقوف على مكامن العطب الذي آل إليه واقع الأمة الحضاري حتى أضحت تقتات على فتات الأمم وترزخ تحت نير التخلف والتبعية... فأمام هذا البون الصارخ أمام حضارة الغرب فالمسوغات التي تضعها تنظيمات الاسلام السياسي في طريق مريديها والسالكين اليها الأوبة إلى الدين والتحرر من ربقة "الشيطان" الذي بسط سيادته على كل مفاصل الحياة، هكذا ببساطة دونما تعقيد، فالحصن المنيع هو رابطة الجماعة التي تقهر غوايته وسلطانه الذي يقف حائلا للبلوغ إلى الجنة ، نهاية المسعى. فلا غرو أن نجد على قمة التنظيمات الأرتوذكسية أشخاص نالوا حضوة ارتقت بهم مدارج القداسة فتمسحوا بها وغذو مرشدين وهادين للجبلة. بل أولياء عليها، يسطرون لها دساتير ومراسم تتعالى عن واقعها المعاش وتنغمس في عرفانية غويطة العمق ،هم وحدهم من يملكون فقه شفراتها...
طبعا نموذج الفقيه السياسي/الامامة تعددت أشكاله ومدارسه وتشتت بين شعابه النظرية مجتمعات وأنظمة .سيتساءل البعض عن جدوائية طرح مثل هذه المواضيع وهل لها مكانة في دولة المؤسسات؟والأهمية التي توليها تنظيمات الاسلام السياسي لصوغ نموذجها السياسي في الحكم ومداخله النظرية لاقامة الخلافة، وسمات الامام المجدد /الحالة التي تخلق احتشادا وتأييدا ويكون نبراسا للايمان ودليلا للفلاح...
عرف نهاية القرن العشرين أعلاما على امتداد جغرافية العالم الاسلامي أيقضوا ماعرف بالصحوة الاسلامية وعززوا الذاكرة الشعبية باسهامات اجتهاداتهم الفكرية لعل من أهم تأثيراتها شباب يقدم على التغيير بالعنف وصلت إلى حد ارتكاب جرائم الاغتيال السياسي بالفعل في حق رموز المعارضة والحكم في بلدانهم .والحدث الأكبر اسقاط نظام شاه ايران وتسويقه على أنه ثورة اسلامية قدمت نموذجا فريدا، ولاية الفقيه كمدخل لاقامة الدولة الاسلامية مما جعله مركزا تدور في فلكه حركات الاسلام السياسي دون أن تتجاوزه لاسيما منها التي تمارس السياسة خارج مؤسسات الدولة وتكتفي باثارة اشكالات فقهية تتعلق بشخص الحاكم مما يدلل على طبيعة المأزق الفكري الذي زج به النموذج الايراني هذه الحركات .
مما لاشك فيه أن البناء الديمقراطي للدولة الحديثة بات واضحا انبناءه على تراكمات الصراع بداية التحرر من الاستعمار إلى تحصين الاستقلال وسيادة الدولة على كامل ترابها.بيد أن صعود الاسلاميين إلى منصة تدبير الشان العام بعد حراك الربيع العربي عبر آليات الديمقراطية قبل أن يضعوا مخرجات "أسلمة" الدولة فالظرف كان مفاجئا وحركية انتفاضة الشارع عفوية وسقفها مطالبها مرتفع جدا أربك حسابات قداسة الجماعة في صنع التاريخ وانبثاق عهد جديد على يديها . مما يسمح لها بالتمكن واقامة نظام يطرد "الشيطان" وجنوده من تفاصيل الحياة اليومية .