البطولة: نهضة بركان يواصل نتائجه الإيجابية بالانتصار على شباب المحمدية المكسور    كتاب "التشادي 'مبعوث داعش' إلى المغرب يطلب الصفح" في ضيافة النقابة الوطنية للصحافة المغربية    انخفاض كميات مفرغات الصيد البحري بميناء آسفي    رئيس الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء: الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    حماس وإسرائيل تتبادلان الاتهامات بتعطيل اتفاق الهدنة وإطلاق سراح الرهائن    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    نجاة 32 شخصا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان    الاتحاد الاشتراكي يعلن اعتزازه بالمسار الذي اتخذه ورش مراجعة مدونة الأسرة بما يليق بمغرب الألفية الثالثة    "سرقة البطولة" من الجيش تثير مواجهة مفتوحة بين رئيسي الوداد البيضاوي والرجاء البيضاوي    أخبار الساحة    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024        حافلة "ألزا" تدهس شابًا وتُنهي حياته بطنجة    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    الحصيلة السنوية للأمن الوطني: أرقام حول الرعاية الاجتماعية والصحية لأسرة الأمن الوطني    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان        بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    الوداد يطرح تذاكر مباراته أمام المغرب الفاسي    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية        نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    قياس استهلاك الأجهزة المنزلية يتيح خفض فاتورة الكهرباء    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث        ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إصلاح القضاء لابد أن يكون له ثمن وعلى الدولة أن توفّر الموارد اللازمة
نشر في أخبار الناظور يوم 26 - 10 - 2014


ذ/ محمد الأنصاري برلماني ونقيب سابق لهيأة المحامين
أعبر بداية عن اعتزازي وامتناني للمكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة، الذي أتاح لي فرصة المشاركة في هذه الندوة العلمية إلى جانب صفوة من خيرة نساء ورجال القضاء، وأساتذة أجلاّء، حول موضوع، كما تعلمون، يستأثر اليوم، قبل الغد، باهتمام الرأي العام الوطني، والمنتسبين لقطاع العدالة على الخصوص. وإنني لا أخفيكم سِرًّا، أنني مُحرَجٌ شيئًا ما، إذ ماذا أقول أمامكم حول موضوع الفصل التقني بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية. هذا الموضوع الذي خبَرَه عديد كبير من السادة القضاة والمسؤولون منهم على الخصوص، وعايشوه في السابق على أرض الواقع، وهو موضوع كان ولا يزال يُعتبَر قطي رَحى في إطار ما تعرفه بلادُنا حاليًا من إصلاحات في شتى المجالات، ومن بينها بطبيعة الحال، الإصلاحات القضائية إلى جانب الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك انطلاقًا كما تعلمون، وبصفة أساسية، من الخطب الملكية السامية على مر الأعوام والسنين، وكذلك، المستجدات الدستورية الحالية. وأعتقد أنه بمناسبة افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 12 أبريل 2004، وضعت الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى أعضاء هذا المجلس، خطة طريق لما تعرفه بلادنا اليوم من إصلاحات جد مهمة أُدمِجت في أسمى قانون، ألا وهو دستور فاتح يوليو 2011. إذ قال جلالة الملك، وأذكِّر هنا لعل الذكرى تنفع المؤمنين بأن هذا وقع قبل ست سنوات من ذلك التاريخ: «... أسرة القضاء التي نحرص على أن تتوافر فيها كل الفضائل المثلى للنهوض بأمانة إقامة العدل الذي يعد من وظائف الإمامة العظمى والأساس الراسخ للحكم القويم وصون حقوق المواطنين وضمان مساواتهم أمام القانون. ولا يمكن للقضاء أن يحقق المكانة الجديرة به إلا حين يكتسب ثقة المتقاضين التي لا تتحقق إلا من خلال ما يتحلى به القضاة من نزاهة وتجرد واستقامة واستقلال عن أي تأثير أو تدخل». وأضاف جلالته: «وإذا كانت أمانة النيابة عنا في إقامة العدل التي تجعل منكم الهيأة الدستورية الوحيدة التي تفتح جلساتها وتصدر الأحكام باسمنا فإننا لننتظر منكم الانخراط الكامل والصادق في توطيد صرح دولة الحق بترسيخ سيادة القانون ومساواة المواطنين أمامه وإحقاق الحقوق ورفع المظالم مساهمين بكل فعالية وحزم واستقامة في إشاعة قيم الديمقراطية والمواطنة المسؤولة وتعزيز روح الثقة والأمان والاستقرار المحفزة على الاستثمار والكفيلة بالتنمية والتقدم والازدهار» (انتهى النطق الملكي). وإنه بعد ذلك، واليوم، وانطلاقًا من الدستور الجديد، جاءت الإصلاحات الدستورية التي خصت السلطة القضائية بمنزلة عالية، جاعلة منها، لأوّل مرة، سلطة مستقلة مؤطَّرة بقوانين تنظيمية بدلاً من القوانين العادية، مما أدى بالسلطة التنفيذية إلى التعامل مع هذا المُعطى وإعطاء السلطة القضائية ما تستحقه من أولوية في برنامجها الحكومي المصادَق عليه من طرف البرلمان، في بداية ولايتها. وانطلاقًا مما ذُكِر، سارعت وزارة العدل، كما تعلمون، إلى اعتماد مقاربة جديدة قوامُها التشارُك والحوار بين عدد من الفعاليات القضائية والحقوقية في المجتمع المدني عن طريق تنصيب الهيأة العليا لإصلاح منظومة العدالة من طرف جلالة الملك منذ ما يقرُب من سنتيْن، مما شكّل امتحانًا صعبًا يعكس لا محالة مدى تحلي الفاعلين السياسيين على الخصوص بالإرادة الصلبة للتأويل الحقيقي للمكتسبات الدستورية بهذا الخصوص، بدل إبقائهم حبيسي التحديات القديمة. وإن الحوار التشارُكي وما واكبه وما تبعه من اتصالات بين مختلف الفاعلين والحقوقيين والسياسيين والقضائيين، وفعاليات المجتمع المدني، توجت بإصدار ميثاق إصلاح منظومة العدالة، في يوليو 2013. ذلك الميثاق، الذي شارك فيه أساتذة أجلاّء ينتسبون للجهاز القضائي، وتم تقديمه لجلالة الملك، مما يستوجب الآن، منا جميعًا، انتظار النتائج على أرض الواقع. تلك النتائج المتوصَّل إليها، ليس فقط من حيث ما تطرحه من خيارات على مستوى التشريعات الواجب إصدارُها لتحقيق الاستقلالية المرغوبة، وإنما أيضًا، على صعيد الفعالية والعصرنة التي تفرض إتّباع مقاربة عملية وذلك على صعيد الجانب المالي، وأركز على الجانب المالي، مما يجعل الموضوع يتمحور حول شقّيْن أساسييْن ومتلازميْن ولا بديل لهما، يرتبط تحقق أحدهما بوجود الآخر في أغلب الأحيان: أولهما: ذو طابع قانوني يرمي إلى تحقيق إصلاحات تشريعية تهدف إلى تحقيق الاستقلال الحقيقي لجهاز القضاء كسلطة مستقلة عن غيرها من السُّلَط؛ والآخر: مادّي، ولا ينبغي أن نغفل قضية «مادي»، يسعى إلى توفير الاعتمادات المالية من طرف الدولة، لتنفيذ الإصلاحات وتنزيلها على أرض الواقع، لأنه لا يمكن في أيّ حال من الأحوال أن يُفتح الورش المهمّ من الإصلاحات، أو إصلاح السلطة القضائية، والسعي إلى استقلال السلطة القضائية، هذا الإصلاح، الذي كان يتوق له الجميع منذ أمد بعيد، في حين أن الإصلاح له ثمن. وبالتالي لابد في نظرنا، وهذا يطالب به السياسيون داخل البرلمان، أن تعمل الدولة، بموازاة مع الإصلاحات التي تشهدها بلادُنا في هذا المجال، على فتح ورش موازٍ يتعلق بتوفير الموارد المالية. لأن أي إصلاح لا يمكن أن ينزل على أرض الواقع إلا بكُلفة. وسنكون قد أهدرنا زمنًا طويلاً كما فعلنا في الماضي، إذا بقينا، بعد الإصلاحات التي ستأتي عن طريق المصادقة على القوانين التنظيمية، نتلمّس الطريق من أجل إعداد العُدّة لموازنة ذلك الإصلاح وتوفير موارده المالية. إذَن لابد من الآن أن نفكر في ذلك. ولا شكّ، فأن بلوغ الأهداف المذكورة يتطلب انتقالاً سَلِسَا كانت السلطة التنفيذية تسيطر فيه وهذا هو الموضوع الذي أوكل إلي ضمن فعاليات هذه الندوة على مختلف ملامح الشأن القضائي ببلادنا، إلى واقع جديد تفرضه المقتضيات الدستورية، فتصبح لهذه الأخيرة كينونتها الخاصة، ومن ثَمّ تأتي أهمية فتح الباب أمام النقاش بالبرلمان للتداول حول آليات تحقيق ذلك، وذلك بعدما أنهت الهيأة العليا وقدمت خلاصة عملها، علمًا بأن بعض المؤسسات الوطنية سبق لها أن أدلت برأيها في هذا الصدد، مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مع التأكيد على أن استقلال القضاء كحق من حقوق الإنسان، وكمبدأ أساسي للديمقراطية، المستند إلى مبدأ فصل السلط، يروم توفير الشروط الحقيقية لأداء مهمته على أحسن وجه، وفي أحسن الظروف، عبر الأخذ بمقاربات متعددة تتكامل فيما بينها وترنو إلى تحقيق هذه الغاية. وإن الإصلاح الصلب في نظرنا، يحتاج إلى بناء قويّ متين من الناحية التشريعية، بغاية تجسيد ما ورد في أسمى وثيقة قانونية في البلاد، لإصلاح الثغرات التي بيّنتها الممارسة الطويلة، والتي لم تحقق الاستقلال للسلطة القضائية حسب ما توصّل إليه العديد من الحقوقيين الفاعلين في هذا الميدان. وإن التنصيص في دستور 2011 على كون القضاء سلطةً على غرار باقي السلط، وليس مجرد وظيفة، بل سلطة ثالثة في نفس قوة المؤسسات الدستورية، إن لم أقل «أكبر»، سيفتح الباب أمام إلغاء جميع مظاهر الوصاية، المنصوص عليها في القوانين العادية، التي كانت تعتبرها مؤسسة مستقلة من الناحية الشكلية ليس إلاّ. وهذا التغيير في نظرنا لا محيد عنه، لصالح مسيرة الانتقال الديمقراطي والانفتاح الحقوقي الذي عرفته بلادُنا في إطار مواكبة المنظومة العالمية وما أوصت به المنتظمات الدولية في هذا الخصوص... وعليه، فإن الإصلاح الذي تعرفه السلطة القضائية يمثل نقطة ارتكاز مصيرية وضرورية لتحقيق استقلالية السلطة القضائية مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الفصل بين مهام وزير العدل المنتسب إلى السلطة التنفيذية، ودوره في استعمال السلطة القضائية، وذلك، في نظري، من خلال التحديد الدقيق لاختصاصات كل منهما في القوانين المعروضة الآن، والتي ستُعرَض على أنظار البرلمان، وذلك بغية تحقيق الاستقلال الحقيقي لهذه المؤسسة الدستورية، لاسيما أن المتتبع للأدبيات الصادرة في هذا الميدان، يقف على عدة اقتراحات تقدم بها عدد من الحقوقيين في هذا المجال، من قبيل فصل وزارة العدل عن الجهاز الجديد، أو حتى حذف وزارة العدل من التشكيلة الحكومية، وإلغاء منصب وزير العدل للوصول إلى استقلال فعلي للسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، أو تغيير اسم وزارة العدل باسم «وزارة الشؤون القضائية»، وخلق وزارة مكلفة بالعلاقات مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، على غرار الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان. لذلك، تمثل المقتضيات الدستورية الجديدة دافعًا أساسيًا للتمييز بين قطاع العدل، الذي هو قطاع سياسي تابع للجهاز التنفيذي، والقضاء، الذي يتمتع بالاستقلالية عن بقية السلط والأجهزة، الموكول إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة جلالة الملك، والذي ينوب عنه طبقًا للدستور، كما تعلمون، السيد الرئيس المنتدَب. وبالتالي، فهي المؤسسة الساهرة على تنظيم القضاء وأدائه وضمان استقلاله، والتي ستجد بلا شكّ أمامها مستقبَلاً بعض الصعوبات للقطع مع تراكمات الماضي القديم، وفي الممارسة من خلال مراجعة مساطر المجلس الأعلى للسلطة القضائية عن طريق تطوير مناهج عمله، وأداء المهام الموكولة إليه، بعد إصدار القانون التنظيمي الخاص به، ونظامه الداخلي المكمل له، ومصادقة المحكمة الدستورية عليهما معًا. وهذا المستجَد، المتعلق بمصادقة المحكمة الدستورية على النظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، لا يخلو من أهمية، وهذه هي المرة الثانية التي يُشار فيها إلى مصادقة المحكمة الدستورية على القانون الداخلي، وهي المجلس الدستوري حاليًا، بعد القانون الداخلي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. إن تدعيم مبدأ الاستقلالية يفرض على السلطة الجديدة إقامة علاقة مباشرة ضمن أداء مهامها، رغبة في تحقيق الجودة والنزاهة ووضع الآلية الكفيلة بسد الباب أمام الاختراق سواء كان خفيًا أو علنيًا، من طرف الموقع السياسي الذي يؤدي إلى زعزعة الثقة، وفتح باب الانحراف والخوف، ويعرض كل إصلاح للتعثُّر والفشل والانقياد إلى ما دأبت عليه الدساتير السابقة التي كانت توكل إلى جلالة الملك رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، وتخول لوزير العدل، المنتسب للسلطة التنفيذية، صفة النيابة عنه، وهي الوضعية التي كانت تُعطي لهذا الأخير، كما تعلمون، قوة أساسية في التأثير على الأشغال وتوجيهها، باستحضار نصوص قانونية تجعل منه الرئيس الفعلي لهذا المجلس، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى حضور الندوات السياسية التي تسكن الوزير الذي ينتسب إلى هيأة أو إلى حزب سياسي، وبالتالي إلى حكومة سياسية لها حساباتها التي، في بعض الأحيان، تتناقض مع الاستقلال التام للسلطة القضائية، التي نُصِّبت لإحقاق الحق، وليست مع أحد أو ضد أحد. والآن، وأمام تغليب الدستور الجديد للرأي المطالب بتغيير هذه الوضعية، التي كانت تكرس تبعية القضاء للسلطة التنفيذية، كما أسلفتُ، فإن هذا الرئيس المنتدَب ينبغي أن يكتسي مستقبَلاً بالفعالية، والاستقلال الحقيقي للسلطة القضائية. وإذا كان الدستور الجديد قد استجاب للمَطالب الداعية إلى انفتاح المجلس الأعلى للسلطة القضائية على مكونات أخرى من خارج الجهاز القضائي، وهذا هو حالنا اليوم، ليشمل شخصيات أخرى أسوةً ببعض التجارب المقارَنة، رغم ما يقع لذا المقترَح من معارضة شديدة من عدة منابر قضائية، ومن ضمنها إبداء بعض العاملين بالجهاز القضائي تخوُّفًا من تسييس هذه المؤسسة، إلا أن الضمانة الأساسية في هذا الصدد، تبقى لجلالة الملك، باعتباره الضامن الفعلي لاستقلال السلطة القضائية دستوريًا. ونحن نأمل أن يُوفّق المشرع انطلاقًا من دراسة مشروعيْ القانونيْن التنظيمييْن المتعلقين بالسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة، واللذين ما زالا حبيسيْ رفوف الأمانة العامة للحكومة، في انتظار المجلس الوزاري قبل إحالتهما على البرلمان، وأن تتم بلورة إقرار المقتضيات الدستورية المعتمدة بروح تكفل فعليًا الاستقلال التام للسلطة القضائية. تلك المقتضيات التي جاءت لبثّ نوع من الطمأنينة والرفع من معنويات القضاة على الخصوص، بما أقرته من كون الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية، مع وجوب إحالة القاضي على المجلس الأعلى للسلطة القضائية عند وجود كل ما من شأنه تهديد استقلاليته، وبالتالي جعل القضاة مسؤولين عن أنفسهم، لا يحكمهم إلا القانون، والضمير، دون وجل أو خوف على
مستقبلهم، أو معاقبتهم أو عدم ترقيتهم بسبب رفضهم الامتثال للأوامر من أي جهة كانت. وفي هذا الصدد، لابد أن نقف عند ما جاء في الدستور الجديد، وتحديدًا في الفصل 116، من وجوب توفر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على الاستقلال الإداري والمالي، مما يعني أن هذا الجهاز المستقل، الذي يتم اختيار نصف أعضائه عن طريق الاقتراع، ستكون له ميزانية خاصة مستقلة عن ميزانية وزارة العدل، تتضمن اعتمادات كافية يوافق عليها البرلمان في نطاق القانون المالي، وذلك أسوة بباقي المؤسسات الدستورية، مع التوفر على المقر الخاص والمنفصل عن وزارة العدل كغيرها من المؤسسات الوطنية، وذلك كمظهر أساسي لتواجد يعبر عن رمزية «الحرة»، التي يمثِّلها القضاء بعيدًا عن مقر الوزارة وعن نظر مكاتبها، وإلحاق الموارد البشرية الضرورية به لتصريف أشغاله، وتتبّع القضاء والقُضاة، تمشيُا مع المعايير الدولية، التي تؤكد على أنه من واجب كل دولة عضو أن توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة، آملاً أن تشمل دراسة مشروع القانون المالي للسنة المقبلة ما يفي بالغرض المطلوب في هذا المضمار، وتمشيا مع تنادي به المنظمات القضائية العالمية، المتعلقة باستقلال القضاء، تمتيع كافة القضاة بأجور محترمة تحفظ هيبة القاضي والسلطة التي يمثلها، وتجعله في مأمن من جميع الإغراءات كيفما كان نوعها أو مصدرُها، وتحسِّسُه بالطمأنينة. وأخيرًا، أود أن أؤكد أن أهم مرحلة في نظرنا، على الرغم مما بُذِل من جهود جبارة من طرف الهيأة العليا لإصلاح منظومة العدالة والنتائج التي خلُصَت إليها، أقول: إن أهم مرحلة وأهم معركة هي المرحلة المقبلة، التي ستكون بعد إحالة مشروعَيْ القانونيْن التنظيمييْن على البرلمان، لأن الكلمة الأخيرة تعود للمشرِّع، والسلطة التشريعية، وبطبيعة الحال، فالسلطة التشريعية في غالب الأحيان تواكب النقاش الحاصل بين الهيأة العليا وباقي الأطراف، وتنفتح على المجتمع المدني وعلى الحقوقيين، وقيامها بندوات ولقاءات على الصعيد الوطني شرقًا وعربًا وشَمالاً وجنوبًا، وتلك الخلاصات كانت محط توافقات واختلافات، ولكن كل ذلك يُعد من بين الأعمال التحضيرية، التي لها أساسُها، ولها قيمتُها، ولكنْ هناك رأيٌ ورأيٌ آخر، وأن هناك ما تم التوافق عليه، ولكن لقد سمعتم قبل قليل السيد رئيس الودادية، الذي أكد أن هناك بعض الاختلافات في الرؤى، وبالتالي فالمكان الطبيعي للعودة إلى تلك الاختلافات، واستحضار المصلحة العليا للوطن، التي ينبغي نهجها للحصول على سلطة قضائية مستقلة كما توخاها الرئيس الأعلى لهذه السلطة، والذي هو جلالة الملك، والتي بُلوِرَتْ في الدستور بمقتضيات واضحة، لابد في نظري أن يتم الانفتاح على البرلمان في المستقبل من طرف جميع الفعاليات الحقوقية والقضائية، ولِمَ لا ربط لقاءات وربما ندوات مشترَكة مع الفرق البرلمانية، لإيصال الرسائل إلى المشرِّع لكي يكون على بيِّنة من أمره، ويعرفَ الصالح من الطالح من الآراء والمواقف، وما هو الاختيار الأصحّ، والأصحَّ منه، ليتمكن تقديم التعديلات اللازمة، والدفاع عنها، لنخرج جميعًا ليس بمنهزم ومنتصِر، وإنما الذي سينتصر هو وطنُنا عن طريق إقرار سلطة قضائية مستقلة كما نتوق إليها، لأنه، في اعتقادي، وربما في اعتقاد الجميع، ولا يختلف على ذلك اثنان، أن السلطة القضائية لا ينبغي أن تكون موضوع مزايدة ما دمنا متفقين دستوريًا على مبدأ أساسي، وهو إقرار والدفاع عن استقلالية السلطة القضائية، وبالتالي هذا شأن بعيد كل البعد عن السياسة، وعن منهجية «الأغلبية والمعارضة»، بل لابد في نظري أن نتعاون جميعًا. وأعطيكم مثالاً، بأن هناك قانون المسطرة الجنائية، وكان لي شرف رئاسة لجنة العدل والتشريع في ذلك الوقت، قد مر بعد مثل هذه النقاشات، وإن لم تصل إلى بلورتها في شكل هيأة عليا، فقد تمكنّا من إدخال 370 تعديل في البرلمان، ورغم ذلك، ما زالت المسطرة، بشهادتكم، ملئى بالثغرات، لماذا؟ لأنه لم يكن هناك الانفتاح اللازم، «واللي عضّو الحنش تيخاف من الحبل». وأنتهز هذه الفرصة لأطلب منكم التأنّي بعض الشيء، وتكثيف اللقاءات، ومد الجسور باتجاه المشرع، لأن البرلمان وإن كان مليئًا، فإن عددًا كبيرًا من البرلمانيين لا علاقة لهم بالقانون، ولا بعلميته. أتمنى أن تكون رسالتي قد وصلت... وشكرًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.