«يسعدني ويسرني، وأنا أرحب بكم جميعا، ان أفتتح أشغال الندوة التي ينظمها قطاع المحامين بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية, حول موضوع: استقلال السلطة القضائية دعامة لإصلاح منظومة العدالة. لا يخفى عليكم ان تكريس استقلالية السلطة القضائية يعتبر شرطا جوهريا في إصلاح منشود لمنظومة العدالة، لكونها تشكل الضمانة الفعلية والاساسية لتدعيم أسس دولة الحق والقانون وترسيخ ثقافة حقوق الانسان وكفالة الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي بالبلاد. واعتبارا لأهمية هذه الاستقلالية في استكمال البناء الديمقراطي للدولة، عبرت و مازالت تعبر القوى الحية من الفعاليات السياسية والحقوقية والمهنية على ضرورة بلوغ الاستقلال الواقعي والفعلي للسلطة القضائية، وهو ما انخرط فيه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بفعالية واضحة في المطالبة بتكريس استقلال السلطة القضائية،في العديد من المحطات النضالية, خاصة تلك المتعلقة بالاصلاحات الدستورية والسياسية. ومن المعلوم لدى جميع الفاعلين السياسيين والحقوقيين ان اصلاح منظومة العدالة لم تكن وليدة اللحظة أو فرضته متغيرات سياسية او اجتماعية حديثة العهد، بل ان الاصلاح الذي يشهده المغرب في المرحلة الحالية ماهو الا محطة من مسلسل شرع فيه المغرب منذ بداية التسعينات من القرن الماضي التي تميزت بتبلور ارادة سياسية في تغيير الاوضاع المجتمعية من أجل التأسيس لمجتمع مغربي يرنو نحو بناء دولة القانون والمؤسسات. وتفعيلا لهذه الإرادة السياسية تمت الاستجابة لمطالب القوى الديمقراطية الحية بالبلاد من خلال التجاوب مع مذكرة الاصلاحات السياسية والدستورية لسنة 1991 وانشاء المجلس الاستشاري لحقوق الانسان واطلاق سراح العديد من المعتقلين السياسيين والنقابيين والمختفين و عودة المغتربين وإلغاء مجموعة من القوانين الموروثة عن الاستعمار وتتويج ذلك باصلاحات دستورية سنتي 1992 و 1996 فضلا عن إبرام عقد اجتماعي في فاتح غشت 1996. وانطلاقا من هذه الاشارات السياسية، انخرط الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في تدشين عهد جديد للاصلاحات من خلال تجربة التناوب التي تميزت بتعميق اوراش الاصلاح المختلفة، و خاصة اوراش المصالحة بجبر ضرر ضحايا الانتهاكات الجسيمة، وارجاع المطرودين الى عملهم وتعويض ضحايا الاختفاء القسري، واطلاق اوراش حقوقية انتجت اصلاح الكثير من قوانين الحريات العامة وعدد من القوانين المهيكلة لدولة الحق والقانون،و اطلاق مشروع الخطة الوطنية للنهوض باوضاع المرأة الذي افرز مدونة الاسرة كإنتاج حقوقي في المرحلة، وكذلك الانخراط في العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان التي كانت اصلاحات قانون السجون وحقوق الطفل ملامح عاكسة لارادة التغيير والإصلاح. واختيارا منه لمواصلة الانخراط في اوراش الاصلاح، ساهم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2002، رغم ما سجله من خروج عن المنهجية الديمقراطية، في بناء المغرب الجديد الى جانب جلالة الملك محمد السادس الذي اعلن منذ توليه العرش عن خياره لنصرة القيم الكونية لحقوق الانسان ومواصلة اوراش الاصلاح والتحديث بفعالية أعمق وأسرع, فكان التأسيس لهيئة الانصاف والمصالحة التي دعمها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بكل قوة للقطع مع الماضي وإعلان لمصالحة تاريخية ومجتمعية متميزة. وتكريسا لدوره التاريخي في الانخراط في أوراش الاصلاح، ثمن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تثبيت كاتبه الاول آنذاك الاستاذ عبد الواحد الراضي في منصب وزير العدل على أساس الاشراف على اصلاح قضائي عميق، يصالح القضاء مع المجتمع، ويصحح مساره بتقويته و تحديثه و تخليقه، وجعله سلطة قادرة على الاداء في شفافية ومحاسبة امام المجتمع. من خلال هذا الاستعراض التاريخي يتبين ان مشروع الاصلاح الحالي لمنظومة العدالة, ماهو الا محطة من محطات بناء المغرب الديمقراطي، والذي بكل تأكيد جاء استجابة للمطالب المتواصلة للقوى الديمقراطية بالبلاد. وفي هذا الاطار، شكلت الخطب الملكية السامية مرجعا هاما يتضمن العديد من المبادئ والاهداف المتعلقة بإصلاح القضاء، وهو ما يتأكد من خلال الخطابين الملكيين الساميين المؤرخين على التوالي في 8 أكتوبر 2010 و 9 مارس 2011 اللذين يشكلان نzقلة نوعية متقدمة في مسار اصلاح منظومة العدالة بالمغرب، وذلك من خلال التأسيس لمقاربة جديدة لهذا الاصلاح تقوم على أساس جعل القضاء في خدمة المواطن والارتقاء بالقضاء الى سلطة مستقلة، عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتنزيلا للمطالب الداعية الى استقلال السلطة القضائية، وضع الدستور الجديد لهذه السلطة اطارا مؤسساتيا يقوم على عدة مبادئ اهمها. دسترة القضاء كسلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية - صيانة حرمة القضاء من خلال دسترة تجريم كل تدخل للسلطة او المال، او اي شكل من اشكال التأثير، في شؤون القضاء. -إحداث المجلس الاعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية يرأسها الملك لتحل محل المجلس الاعلى للقضاء، وتمكينها من الاستقلال المالي و الاداري، وتخويل رئيس محكمة النقض مهام الرئيس المنتدب بدل وزير العدل والحريات حاليا تجسيدا لمبدأ الفصل بين السلط. - تحديد على سبيل الحصر تركيبة المجلس الاعلى للسلطة القضائية وتعزيزها وتنويعها وذلك من خلال الرفع من عدد ممثلي القضاة المنتخبين ومن نسبة تمثيل المرأة القاضية، وبما يضمن انفتاحه على عضوية شخصيات ومؤسسات ذات الصلة بحقوق الانسان والدفاع عن استقلال القضاء. - عدم منح وزير العدل والحريات اي عضوية داخل تركيبة المجلس الاعلى للسلطة القضائية، خلافا لما كان معمولا به قبل صدور الدستور الجديد، وذلك تجسيدا لضرورة استقلال هذه الأخيرة عن السلطة التنفيذية. لكن، ورغم ما كرسه الدستور في هذا الصدد من مبادىء تكفل استقلال السلطة القضائية، فإن ذلك لا يكفي وحده لتحقيق الاستقلالية المنشودة مادام أنه قد حدد خطوطها العريضة فقط ولم يتم التفصيل فيها، بحيث ترك ذلك للقوانين التنظيمية المتعلقة بتنظيم وانتخاب وسير المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذا بتحديد النظام الأساسي للقضاة. وفضلا عن هاجس إعداد القوانين التنظيمية المذكورة، فرغم المبادىء الدستورية الضامنة لاستقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية والمنصوص عليه في الفصل 107 من الدستور الجديد، فإن الممارسة والتطبيق يشهدان نماذج مختلفة تؤكد وجود تدخل صارخ في الأعمال ذات الصبغة القضائية تمارسه السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل والحريات، وخير دليل على ذلك، الأوامر التي وجهها وزير العدل والحريات، حسب ما تناقلته وسائل الإعلام، لقضاة النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية الناظور, تحثهم على الطعن بالاستئناف في قرارات الاعتقال الصادرة عن قاضي التحقيق. والحال أن وزير العدل والحريات باعتباره من مكونات السلطة التنفيذية أضحى بموجب الدستور الجديد، وخاصة الفصل 107 منه طرفاً أجنبياً عن جهاز النيابة العامة، باعبتارها جزءاً من المكونات الأساسية للسلطة القضائية المستقلة، مما يجعل مثل هذا التدخل تهديداً لاستقلالية السلطة القضائية، وبالتالي انتهاكاً واضحاً لمقتضيات الفصل 107 من دستور المملكة المغربية الجديد لسنة 2011. ومن هذا المنطلق، فإن استمرار تمسك السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل والحريات برئاسة جهاز النيابة العامة يبقى تمسكاً قائماً بحكم الواقع لا القانون، على اعتبار أن قضاة النيابة العامة هم جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية، وذلك استناداً إلى القراءة المتكاملة للدستور الجديد، وكذا للمادة الأولى من النظام الأساسي لرجال القضاء التي نصت على أنه: »يؤلف السلك القضائي بالمملكة من هيئة واحدة تشمل قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة..«، وبالتالي أضحى من الواجب بحكم الدستور الجديد ضمان استقلالية جهاز النيابة العامة باعتبارها سلطة قضائية. وإذا كان النص القانوني الذي تستند عليه السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل والحريات لتبرير الاستمرار في رئاسة جهاز النيابة العامة يجد أساسه في مقتضيات المادة 56 من النظام الأساسي لرجال القضاء التي »تضع قضاة النيابة العامة تحت رئاسة وزير العدل والحريات«، فإن هذه المقتضيات أضحت طبقاً لمبدأ تدرج القوانين، الذي يقضي بعدم أولوية وأسبقية النص العادي على النص الدستوري في حال التعارض، ملغاة ضمناً لتعارضها مع مقتضيات الفصل 107 من الدستور الجديد، كما لا ينفعها في هذا التمسك الاستناد على مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 110 من الدستور الجديد التي تلزم قضاة النيابة العامة بتطبيق القانون والالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية للسلطة التي يتبعونها، اعتباراً لكون وزارة العدل والحريات لم تعد بعد دخول الدستور الجديد حيز السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة. وأمام هذا الواقع، أصبح من اللازم (الإعداد على وجه الاستعجال للقوانين التنظيمية المنظمة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمحددة للنظام الأساسي للقضاة، تفعيلا للدستور الجديد وانسجاماً مع مختلف المواثيق والعهود الدولية المصادق عليها من طرف المملكة المغربية التي أضحت تسمو على القوانين الوطنية من حيث التطبيق، وذلك من خلال التأكيد فيها على عدة أحكام أهمها تلك التي تقضي: بفصل ميزانية المجلس الأعلى للسلطة القضائية عن ميزانية وزارة العدل والحريات، من خلال إحداث تبويب مالي خاص بميزانية الدولة يتضمن الاعتمادات المرصودة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يكون الآمر بصرفها هو الرئيس المنتدب، وذلك تكريساً للاستقلال المالي والاداري لهذا المجلس انسجاماً مع مقتضيات الفصل 116 من الدستور. بدعم وتقوية صلاحيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تحديد الضوابط المنظمة لانتخاب ممثلي القضاة، من خلال التنصيص صراحة على عدم جواز تدخل وزارة العدل والحريات في العمليات الانتخابية لممثلي القضاة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. بحصر مهمة تدبير المسار المهني للقضاة، سواء كانوا قضاة الحكم أو قضاة النيابة العامة، على المجلس الأعلى للسلطة القضائية، انطلاقاً من تنظيم مباريات الولوج إلى سلك الملحقين القضائيين ومروراً بتدريبهم وتعيينهم وتأديبهم ونقلهم وانتدابهم وتفتيشهم وتتبع وضعياتهم النظامية من إلحاق واستيداع وغير ذلك. بالاستقلالية المطلقة للنيابة العامة عن وزارة العدل والحريات، اعتباراً لكون القراءة الصحيحة والمتكاملة للمقتضيات الدستورية الجديدة تجعلنا أمام نتيجة واحدة مؤداها أن عمل النيابة العامة يعتبر جزءاً لا يتجزأ من العمل القضائي طبقاً للفصل 117 من الدستور الذي ينيط بالقاضي، سواء كان قاضياً للحكم أو للنيابة العامة، مهمة حماية حقوق وحريات الأشخاص والجماعات وأمنهم القضائي وتطبيق القانون، وهي المهمة التي يجب أن تكون مصونة من أي توجيه صادر عن وزير العدل والحريات، باعتباره من مكونات السلطة التنفيذية، وذلك نظراً لما في هذا التوجيه من مساس باستقلالية القرار القضائي، وبالتالي باستقلالية السلطة القضائية. باستكمال الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية.