شهدت قاعة الندوات بالمعهد العالي للقضاء، يوم الجمعة تاسع مارس الجاري، تنظيم الودادية الحسنية للقضاة ندوة في موضوع «استقلال السلطة القضائية على ضوء الدستور الجديد». ولأن «المناسبة شرط» كما يقال فإن شرط تنظيم الندوة هو المستجدات التي حملها النص الدستوري الجديد، واعتبرت إجراءات هيكلية حملت نفحات التغيير الجذري للمؤسسة القضائية بالمغرب التي رفعتها إلى درجة «سلطة». فكانت الندوة التي جمعت حقوقيين ورجال القانون من الأساتذة الجامعيين والمحامين، ورؤساء المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، وكذا وكلاء الملك والوكلاء العامين، في لقاء أريد له أن يكون فرصة لكشف تجليات استقلال القضاء المغربي تنظيرا وممارسة. اللقاء شارك فيه قضاة هولنديون كذلك، وفيما يلي تغطية لجوانب من حديث طويل عن استقلال القضاء في ضوء دستور 2011. امتلأت القاعة عن أكملها. احتل الحاضرون جميع مقاعد قاعة ندوات المعهد العالي. وبعد دقائق من تبادل التحايا، وتبادل الأحاديث الودية، كان الإعلان عن انطلاق أشغال الندوة العلمية. ندوة انطلقت بذكر مصاب ألم بأسرة القضاء باستئنافية البيضاء، عندما اختطفت يد المنون، واحدا من قضاة النيابة العامة، اثر وعكة صحية فاجأته وهو يمارس مهامه في إحدى جلسات محكمة الاستئناف بالعاصمة الاقتصادية. أعلن مسير جلسة الافتتاح النبأ، والتمس من الحاضرين الوقوف لقراءة الفاتحة ترحما على فقيد أسرة القضاء «الحاج الشعيبي». بعدها سرد المسير مناسبة التنظيم والأجواء المحيطة باللقاء، الذي حضره وزير العدل والحريات «مصطفى الرميد»، مرتديا جلبابا تقليديا، لأن اليوم «جمعة». كما حضره المندوب السامي للسجون، ورئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان، وسفير هولندا الذي اعتلى بدوره منصة الافتتاح، ولفيف من المسؤولين القضائيين بمحاكم مدن مختلفة. ولأن الموضوع «آني ويندرج في صلب اهتمامات المرحلة»، ويتعلق باستقلال مؤسسة، لها المكانة العالية في سلم ترتيب السلط. وصنفها الدستور الجديد ك «سلطة» لا تنازعها باقي السلط. كان كل لقاء حولها يسوده نقاش مستفيض، إغناء للمرحلة القادمة. مرحلة ما بعد الدستور الجديد، وما أتى به من فصول، في انتظار القوانين التنظيمية التي تضع القطار على السكة التي لا يأمل أحد من المتدخلين في أن «يزيغ عنها قطار الإصلاح». أسبوع واحد بعد الندوة التي احتضنتها المكتبة الوطنية بالرباط حول إصلاح السلطة القضائية، ونظمها المجلس الوطني لحقوق الانسان. ارتأت الودادية الحسنية للقضاة بدورها أن تناقش في لقاء علمي احتضنه «المعهد العالي للقضاء»، «استقلال القضاء» في ندوة افتتحها وزير العدل والحريات، والرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام بها، وساهمت فيها جمعية قضاة هولندا في إطار مقاربة تشاركية بين قضاة المغرب وقضاة مملكة الأراضي المنخفضة. وتوجت جلستها الافتتاحية بالتوقيع على اتفاقية شراكة بين الودادية والكنفدرالية السويسرية للتنمية والتعاون. مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، أكد في كلمته أن «موضوع إصلاح القضاء يدخل في صلب القضايا التي ينبغي معالجتها في إطار متطلبات واستحقاقات مرحلة الإصلاح التي تشهدها منظومة العدالة»، وأنه «ليس بالإمكان اليوم الحديث عن إصلاح القضاء دون إصلاح محيطه وكافة مكونات هذه المنظومة». وشدد في كلمته على أن «الدستور الجديد ارتقى بالقضاء إلى سلطة مستقلة»، وبالتالي فإن القضاة «لم يعد لهم بما يتوفرون عليه من مركز اعتباري أي عذر»، في «المحافظة على استقلاليتهم واستقلال القضاء والدفاع عنه بكل الطرق المشروعة، مادام القاضي لا يتلقى أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط»، مشيرا إلى أن القاضي «كلما اعتبر نفسه مهددا ينبغي عليه أن يرفع الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية». وأبرز «الرميد» أن «نصوص الدستور الجديد تضمنت ثلاثة مستويات من استقلالية القضاء: المستوى الأول يهم استقلالية السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، الذي يضمنه جلالة الملك، والثاني يهم استقلالية القضاء بصفته الوظيفية، ثم المستوى الثالث المتعلق باستقلال القاضي». وأضاف الوزير أن «الدستور بالرغم من أنه وضع المعالم الأساسية والتوجهات الكبرى لاستقلال السلطة القضائية، وحسم جزءا من النقاش الذي كان يدور حول الموضوع إلا أنه لم يحسم كل شيء في هذا الاتجاه»، داعيا إلى «انخراط كافة المكونات والهيئات في النقاش لتحويل النصوص المجردة إلى ممارسة عملية». ولم يفت الرميد التأكيد على أن «الدستور الذي منح للقاضي هذا الامتياز، فبالمقابل القانون يعاقب كل من حاول التأثير على القاضي بطرق غير مشروعة، كما أوجب الدستور على القاضي الاستقلال والتجرد والتحفظ واحترام الأخلاقيات»، ذلك أنه «بدون هذا الاستقلال تبقى القواعد الدستورية والقانونية دون مفعول». الرئيس الأول لمحكمة النقض «مصطفى فارس» أكد أن المغرب «يعتبر إصلاح العدالة وتطوير آلياتها وأهدافها وتقوية ميكانزماتها من أكثر المواضيع راهنية»، مبرزا أن المغرب اختار التوجه نحو المستقبل وتعزيز أوراش الاصلاح المؤسسي التنموي، «وهي أمور لن تستقيم إلا بقضاء نزيه قوي كفء ومستقل». وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط في مداخلته خلال الجلسة الأولى أشار إلى أنه بعد أن اعتبر القضاء مرفقا من مرافق الدولة في الدساتير القديمة، «ارتفع به الدستور الجديد إلى مرتبة سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية»، سلطة أصبحت على قدم المساواة مع نظيرتيها، وذلك في استرشاد تام بتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، التي عملت على فتح تاريخ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبالتالي فتح صفحة من تصالح الدولة المغربية مع ذاتها وتاريخها؛ إذ خلصت الهيئة إلى خلاصات ذات بعد استراتيجي، ومنها: فصل وظيفة وزير العدل عن المجلس الأعلى للقضاء، جعل المجلس الأعلى للقضاء بمقر المجلس الأعلى بالرباط، مواصلة تحديث المحاكم، تحفيز القضاة وأعوان العدالة وتحسين تكوينهم الأساسي والمستمر والتقييم المنتظم لأدائهم، مراجعة تنظيم واختصاصات وزارة العدل بشكل يحول دون أي تدخل، أو تأثير للجهاز الإداري في مجرى العدالة وسير المحاكمات، وتحريم تدخل السلطة الإدارية في مجرى العدالة، وتشديد العقوبات الجنائية في حق كل إخلال أو مساس بحرمة القضاة واستقلالهم. وقال «عبد السلام العيماني» إن ظروفا كهذه: «لابد وأن يكون لها أثر في تصور الدولة ككل لمفهوم السلطة القضائية، وهذا التصور هو ما تم تجسيده قواعد دستورية في دستور 2011»، الذي نظم أحكام السلطة القضائية من خلال 22 فصلا تمتد من الفصل 107 إلى الفصل 128. مطارحات وأفكار عديدة تم تداولها في أكثر من مداخلة تقدم بها رجال القضاء والقانون المغاربة والأجانب الذين تناوبوا على أخذ الكلمة في جلسات الندوة التي امتدت على فترتين أولى صباحية والثانية بعد الزوال. ولأن الوثيقة الدستورية «المستفتى بشأنها بتاريخ فاتح يوليوز 2011 بمثابة الولادة التاريخية للسلطة القضائية المغربية، ذلك أن المغرب بعد أن عمل جاهدا من أجل تطوير القضاء ليضطلع بالمهام المنوطة به وفق الرؤية المعبر عنها سواء من قبل الملك أو من قبل جميع الجهات الأخرى التي عنيت بالسلطة القضائية وضرورة تطويرها، من هيئات و منظمات حقوقية وفعاليات المجتمع المدني وكذا من طرف بعض الأفراد الغيورين على استقلال السلطة القضائية»، يرى العيماني في مداخلته حول «دور المقتضيات الدستورية الجديدة في دعم استقلال السلطة القضائية»، أنه لا ينبغي أن «ننسى المجهودات التي تكلفت الودادية الحسنية للقضاة بالقيام بها من أجل تعزيز مكانة القضاء في البناء المجتمعي وبناء دولة الحق والقانون». وأشار العيماني كذلك إلى ما «جاء في بعض الخطب المفصلية لجلالة الملك حول القضاء، إذ كان سباقا إلى حث الحكومة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لتاريخ 20 غشت 2009» على «بلورة مخطط متكامل ومضبوط، يجسد العمق الاستراتيجي للإصلاح، في محاور أساسية، وهي تعزيز ضمانات استقلال القضاء، وتحديث المنظومة القانونية، وتأهيل الهياكل والموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية، وترسيخ التخليق، وحسن التفعيل». وقد تأكدت هذه النظرة للقضاء من خلال الخطاب الذي ألقاه جلالته خلال افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان بتاريخ 08 أكتوبر 2010 مؤكدا «أن السلطة القضائية بقدر ما هي مستقلة عن الجهازين التشريعي والتنفيذي، فإنها جزء لا يتجزأ من سلطة الدولة، فالقضاء مؤتمن على سمو دستور المملكة وسيادة قوانينها وحماية حقوق والتزامات المواطنة» مؤسسا بذلك لمبدإ القضاء في خدمة المواطن. عبد الحق العياسي: الدستور ارتقى بالقضاء إلى سلطة مستقلة عبد الحق العياسي، رئيس الودادية الحسنية للقضاة، في مداخلته خلال الجلسة الافتتاحية، ذكر ببعض المحطات التي ميزت تعامل الودادية مع موضوع استقلال القضاء، وأوضح أن الخطاب الملكي لتاسع مارس يعتبر «قفزة نوعية من أجل ترسيخ الديمقراطية الحقة وإرساء ثوابت دولة الحق والمؤسسات»، مشيرا إلى أن «الدستور الجديد أكد بدوره الارتقاء بالمغرب إلى صف الدول الديمقراطية التي تؤسس لمستقبل ديمقراطي تحترم فيه الحريات وحقوق الانسان وفصل السلط وإرساء الجهوية الموسعة المتقدمة». وأصاف العباسي أن «الدستور الجديد أكد على الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو ما اعتبره «بناء لدعامة قوية من دعامات الدولة القوية التي فيها القضاء مستقلا ضامنا لتطبيق الدستور والحريات العامة وحقوق الانسان، مستقلا في اتخاذ قراراته عن مختلف التيارات فاعلا أساسيا في إرساء قواعد المحاكمة العادلة والأمن القضائي. مصطفى فارس: استقلال القضاء يحافظ على ثقة الأفراد في المؤسسة أكد مصطفى فارس الرئيس الأول لمحكمة النقض أن المغرب «على غرار باقي الدول الديمقراطية يعتبر (إصلاح العدالة) وتطوير آلياتها وأهدافها وتقوية ميكانزماتها من أكثر المواضيع راهنية»، مبرزا أن «المغرب اختار التوجه نحو المستقبل وتعزيز أوراش الاصلاح المؤسسي التنموي»، «وهي أمور لن تستقيم إلا بقضاء نزيه قوي كفء ومستقل». وأشار إلى أن المواثيق والإعلانات والنصوص الدولية والقارية والجهوية لم تتوحد بخصوص تحديد مفهوم استقلال القضاء، حيث اختلفت التسميات والمقاربات والتطبيقات والتفصيلات والضمانات من دولة لأخرى حتى بالنسبة لتلك المنتمية لنفس المنظومة القانونية، وبالتالي، قال فارس: «نحن مطالبون الآن بوضع تصورنا الخاص لهذا الورش وآليات تطبيقه بما يتلاءم والثوابت المرجعية للمملكة قصد تطوير نموذجنا الديمقراطي المتميز». وأكد أن هدف السلطة القضائية هو المراقبة والتدقيق والتطبيق العادل للقانون، ومن ثم فالمطلوب يضيف رئيس محكمة النقض هو تحقيق فصل وتوازن وتعاون بين السلط، بحيث إن الفصل يتضمن الاستقلال، والتوازن سيستتبع وضع الحدود ويجنب الانحراف، والتعاون يقصي المواجهة، وهو ما قرره الدستور الجديد في فصله الأول. وذكر أن البحث عن توطيد أسس استقلال القضاء واستقلالية القضاة في أبعادهما المختلفة «ليس بحثا عن امتياز» للسلطة القضائية، وإنما هو حق للمواطن في المقام الأول وهدفه الحفاظ على ثقة الأفراد في المؤسسة. إنه استقلال يقول فارس ينبع من ذات القاضي وضميره، وأصبح الآن ملزما بالدفاع عنه وإلا تعرض للمساءلة المهنية. وخلص إلى أن الحديث عن استقلال القضاء يبقى في عمقه طرح لسؤال أولي «من يملك اليوم السلطة أو القدرة على التأثير على القضاء والقضاة». مصطفى مداح: ضرورة إشراك المتقاضي في منظومة الإصلاح من جانبه مصطفى مداح، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، أكد أن استقلال القضاء يشكل «محور الموائد السياسية والدراسات الحقوقية واهتمام كل هيئات المجتمع المدني فهو حديث الساعة بامتياز، ومبتغى تطلعات المواطن وأسمى ما يمكن أن تصل إليه الممارسة الديمقراطية». مؤكدا على إشراك المتقاضي في منظومة الإصلاح، وذلك بدسترة مبادئ قانونية داعمة لحقوقه وحامية لمصالحه بما فيها التعويض عن كل ضرر جراء خطأ قضائي، وتوجه الخطاب للقاضي ليتولى حماية الحقوق والأمن القضائي من خلال محاكمة عادلة داخل أجل معقول. وأكد «مداح» أن «الدستور الجديد ارتقى بالقضاء إلى سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية»، مبرزا أن «جلالة الملك هو الضامن لاستقلاله، وشرع مجموعة من الضمانات لدعم هذه الاستقلالية في مقدمتها إحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية يرأسها جلالة الملك، والرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا منتدبا لها، وخول حصريا لهذا المجلس تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة». مبرزا أن من «ضمانات دعم هذه الاستقلالية، اعتبار كل محاولة التأثير على القاضي فعلا مجرما يعاقب عليه القانون». غير أن «مداح» لفت الانتباه إلى أن الحديث عن دسترة قواعد تخص السلطة القضائية واستقلالها والضمانات الداعمة لهذه الاستقلالية «لا يكفي لوحده لتجسيد هذه القواعد على أرض الواقع». بل لابد من انخراط القاضي المحور الذي يدور حوله كل إصلاح، يشدد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، ف «استقلال السلطة القضائية يقتضي بالضرورة الحديث عن استقلال القاضي، إذ بدون هذا الاستقلال تبقى القواعد الدستورية والقانونية غير ذات مفعول».