كانت البداية، كما عبرت عن ذلك في “فلاسفتي” بالصدمة التي أحدثها فيك دوستويفسكي أثناء مراهقتك، فمن خلاله وعبره تولدت لديك “اليقظة الفلسفية الأولى”. يحسن دوستويفسكي أفضل من أي كان التعبير الساخر ويتقن الحديث عن المعاناة والتراجيديا الإنسانية. لقد أدرك أن الإنسان ” عاقل مجنون” فهو حكيم جامح يجرف معه أحلاما بكاملها. يدرك دوستويفسكي جيداً معنى التناقض وهو ما يذكر لا محالة بالشك عند بليز باسكال. يعاني كذلك، كما هو الأمر بالنسبة لجل شخوصه الروائية، من ستافروغين إلى كارامازوف، نفس التنافر ونفس التمزق الداخلي. أعيد القول، إننا في عالم باسكال، عالم الصراع بين الإيمان والشك، بين الأمل واليأس. يشفق دوستويفسكي، حد الرأفة، وبلا حدود، على الفقر والذُل والتراجيديا الإنسانية. كتب في رواية الأبله: “الشفقة هي القانون الجوهري، القانون الوحيد، فيما أظن، لوجود الإنسانية جمعاء”. تضع باسكال فوق الجميع فهو أعظم فلاسفتك. لماذا هذا الافتتان؟ لأني أعثر فيه على “شياطيني”: الإيمان والشك، العقل والتصوف. لأني أعشق، على الخصوص، فلاسفة التناقض. لنبدأ بهرقليطس الذي لامس المسألة في العمق من خلال عبارات مثل: “يقظون، إنهم نيام” أو “من دون أمل لن تعثر قط على ما هو غير متوقع” أو “العيش موتا، والموت حياة”. نفس المسعى نجده لدى باسكال. فهو عالم عقلاني، وفي نفس الآن، متدين متصوف. يتصارع عنده الإيمان والشك والدين والعقل، وتغتني هذه الصراعات من بعضها البعض.عاش باسكال ليلة 23 نونبر 1654 تجربة إشراق إلهي، ترجمها كالتالي: ” فرح، فرح، فرح. نحيب من فرح “. باسكال مسيحي ورع، رغم ذلك فهو مسكون باللايقين، والتساؤل الدائم والمستمر. أنا مثله عقلاني ومتصوف، لكن ليس بنفس الكيفية، أنا متصوف العشق والحب. كما قال ريمون بانيكار R. Panikkar : ” الفلسفة، بالنسبة لي، هي حكمة الحب، أكثر منها حب الحكمة”. أومن بشاعرية الحياة، وأحس بأني متدين فقط بالمعنى الأصلي للإخاء والتقارب، متدين عندما أنصت للموسيقى أو أقف أمام مشهد طبيعي. اعتبرت في مؤلفك هذا أن باسكال ما زال يتمتع براهنية ساطعة. بالتأكيد. لأنه حسم مع كل ضروب البساطة، والسببية الخطية في جملة رائعة وحاسمة: ” كل الأشياء بما هي سبب ونتيجة، مباشرة وغير مباشرة …أعتبر أنه من المستحيل معرفة الكل بمعزل عن الأجزاء، لا معرفة للكل من دون معرفة الأجزاء فقط.» استلهمت هذا الضرب من التفكير من أجل الشروع في عملي حول ” المنهج “. كما كرست عملي حول الأنثربولوجيا المركبة انطلاقا من تصور باسكال عن الكائن البشري بما هو نسيج تناقضات “حثالة الكون ومجده في نفس الآن”. لقد موضع، إضافة لذلك، وعن حس استشرافي خارق، النوع البشري بين لامتناهيين اثنين، وهذا ما أثبتته فيما بعد الميكروفيزياء والفيزياء الفلكية في القرن العشرين. أصادف عند قراءتي ” أفكار” باسكال صيغاً رفيعة ورائعة. على العموم، باسكال يعينك على العيش. خصوصا بسبب رهانه. يؤسس باسكال إيمانه على رهان، فهو على وعي بأنه يتعذر إثبات وجود الله بواسطة المنطق، أو عن طريق العلم، أو المعجزات. استعدت أنا أيضا رهانه هذا، لا من أجل الله، بل من أجل كل القرارات التي أتخذها في الحياة، في السياسة، وفي مجمل أعمالي. يتولد لدينا، عند قراءة كتابك إحساس بأن تأثير الفلاسفة الآخرين كان أقل بكثير مما خلّفه فيك باسكال. لقد كنت، على سبيل المثال، متشددا تجاه ديكارت. ديكارت فيلسوف كبير، لكن طريقته مفرطة في التحليل إلى حد بعيد: يقسم، على النقيض من باسكال، المشكلات أجزاء صغرى ليتعامل معها فيما بعد، منفصلة، كل على حدة. لهذا ينبغي في نظري التخلص من الديكارتية. مررت مسرعاً شيئاً ما على سبينوزا… سبينوزا مفكر حداثي إلى حد بعيد. رفض فكرة الله المتعالي والخالق، لإدماج مسألة الخلق في الطبيعة، فأضحت الطبيعة خالقة لذاتها. “الله، إن شئت قلت، الطبيعة” هذا ما كتبه. أُقصي سبينوزا من مجمع اليهود، وبقي صامدا، لم ينخرط قط في أية ديانة منزلة. تعجبني الطريقة التي نبذ بها الحقد والضغينة، ورفض التعصب. تحضر في كتابه ” الأخلاق” عبارات سامية وجليلة عن العشق بوصفه “تكاثر الذوات”. لكني، باسم الحقيقة، أقول إن البناء الهندسي لهذا الكتاب العظيم يثير في الضجر والسأم. تضعون سبينوزا فيما تدعونه حركة ما بعد تنصير اليهود التي تعد، في نظركم، أصل الفكر الحديث. اشرحوا… اليهودي المتنصر هو ذاك الذي يبدو أنه نسي بفعل الزمان وتعاقب الأجيال أنه كان في يوم ما يهوديا، لكنه يحتفظ مع ذلك في أعماقه بهويته. إنه، بمعنى ما، مسيحي مزيف. يعد الفيلسوف الفرنسي مونتاني Montaigne المثال الأكثر جلاء عن هذه الحركة، إذ بتجاوزه لليهودية والمسيحية، أصبح مفكرا حرا. لا يستشهد مونتاني بتاتاً في كتاباته بالأناجيل، ففي عز حروب الأديان، عاين مونتاني بنظرة ملؤها الشفقة والإنسانية الحضارات الأخرى. لقد كان سابقا على ليفي ستروس في التنديد ببربرية غزو القارة الأمريكية. يندرج كذلك شكسبير ضمن هذا التيار. إنه، فيما أعتقد، سليل يهودي سفرادي، يدعى شابرو Shapiro، والذي بدل اسمه بآخر إنجليزي: شكسبير. لا وجود في كتابات شكسبير لمفهوم الخلاص، مؤلفات تحضر فيها بقوة فكرة أن الحياة ” قصة يحكيها أبله ” . خصصتم أيضا في مؤلفكم هذا مكانا لنبيين: بوذا والمسيح. ماذا أضافا إليك فلسفيا؟ تحضر عند بوذا مسألة التحول الدائم، وهي نفسها التي طورها معاصره في القرن السادس ق.م الفيلسوف اليوناني هيرقليطس، بإعلانه أن الكل في تحول مستمر. يبين بوذا أن العالم الذي نعيش فيه عالم مظاهر، ويعلمنا الامتثال للعدم الذي ينتظرنا. لكن خطابه الأساسي يتمثل، خلافا للمسيحية، في الشفقة تجاه كل ضروب المعاناة، بما في ذلك الشفقة بالحيوان، لهذا السبب أعتبر نفسي بوذيا محدثا. ومسيحيا محدثا أيضاً. أنا نحلة تجرس مؤونتها من الزهور. أصنع عسلي من كل الحقول. جلب المسيح للإنسانية معنى المغفرة (الصفح) إذ يعد في نظره، أسمى من العدالة. وهي مسألة لم تكن معروفة إلى ذلك الحين لا عند اليهود ولا عند الإغريق، ولا لدى الرومان. إني جد متأثر أيضا برسالة بولس التي تقول: “أنا لا شيء من دون الحب”. أشعر بأني فعلا مسيحي محدث بسبب المغفرة Le pardon والحب، لا بسبب الخلاص السماوي الذي لا أومن به. إنك بوذي محدث، ومسيحي محدث، وماركسي أيضا. ألا يمكن الحديث هنا عن ضرب من التناقض؟ كانت ماركسيتي منفتحة باستمرار ومبنية على استيعاب كل ما عداها، وتحررت منها في نفس الآن. آمن كارل ماركس بالتقدم، بالحتمية وبعقلانية التاريخ. لقد أضحى تصوره عن التاريخ، بما هو تصور مادي وذي بعد واحد، متجاوزاً الآن. لكن بالمقابل فإن عددا من أفكاره الأساسية مازالت تتمتع بالحياة والقوة. فضلاً عن ذلك أعتقد، كما هو الشأن عند جون دولاكروا أن المعرفة تفضي إلى جهل جديد، وأن النور ينبع من الظلام. أدرجت من بين فلاسفتك، الموسيقار بيتهوفن، وهي مسألة تثير الاستغراب. عبّر بيتهوفن في عبارته الشهيرة “يجب أن يكون، لا بد أن يكون” عن ضرورة التمرد على هذا العالم وقبوله في نفس الآن. وهو القائل في جميل العبارة: ” لن أنحني إلا أمام الطيبوبة”. يوجد في كتابك ثقب. لماذا تخفي نيتشه؟ توجد دائما ثقوب في جبن ليغريير Les gruyères (جبن أصفر ذو ثقوب صغيرة) ِ[ضحك] . لكني أقر مع ذلك أن نيتشه قد شكل لحظة أساسية في الفلسفة. بحثت الفلسفة بعد عصر النهضة عن أساس الحقيقة النهائية في الكوجيطو مع ديكارت، في الأنا مع كانط أو في الصيرورة مع هيجل. لقد قلب نيتشه الطاولة بإعلانه عدم وجود أساس نهائي للحقيقة، ذلك أن الحقيقة تتشكل بخلقها لديناميكيتها الخاصة. لم تتقدم الفلسفة كثيرا منذ أفلاطون وأرسطو. هل يتملكك إحساس بأنها توقفت مع نيتشه؟ إنها ملاحظة غير صائبة. لا بد أولاً من مرور زمن طويل لكي تفرض العبقريات ذاتها. هكذا عبّر بروست تقريبا، على ما أتذكر من جملة ما درسته بالمرحلة الثانوية: ” كل من يتيه في عبارات ملتبسة فهو عالم نفس جيد، لكنه كاتب فاشل.” أضف إلى ذلك أني لا أفهم كيف يمكننا اليوم الاستغناء عن سبينوزا أو باسكال أو هيجل الذين ما فتئوا يتمتعون دائما براهنية. أخيرا ما زال أمام الفلسفة مستقبل زاهر، إن هي لم تنطو على ذاتها، ولم تنفتح على العالم. لقد وقع خلال القرون الماضية نوع من الجفاء بين الفلسفة والعلم. والحال أن تقدم العلوم اليوم يفضي إلى تساؤلات فلسفية، من قبيل: من أين أتينا؟ لماذا انتصبت بعض الثدييات واقفة على أرجلها لتصير إنسانا؟ إننا نعيش دوما وسط ألغاز ونحن في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، لفلاسفة من أجل الطواف في اتجاه العلوم، وفي اتجاه الحياة، وعلى الحدود بين ما لا ينقال وما لا يعرف. عن مجلة «لوبوان» الفرنسية عدد 2057 فبراير 2012 [Bookmark and Share]