قد تَنْبَلِج ٌمن بين غمائم زمننا العصيب، شمس الأمل التي ليست في حقيقتها الدائرية، سوى رأس مشحوذة التفكير كما الرمح المثقف؛ فالإنسان اليوم أحوج إلى من ينعتق بمحائنه الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، من ربقة مستجدات عالم التقنية التي استفرغت الذات الآدمية من جوهرها الوجودي، باقتراح بدائل آلية تفضي برفاهيتها الغبية، إلى خمول فكري لايني يحفر كهف النوم السحيق، في جماجم سطَّحتها بدائية الأنترنيت وبؤس العولمة؛ هنا يأتي دلو الفلسفة الفائض بمياه الحياة لِأَنْسَنَة ذاتية عالمنا العنكبوتي، التي استحالت لمجرد أشياء.. وأشياء؛ فلسفة تندلق من عقل آدمي يكون كما الفلسفة التي يصوغ مرايا تصوراتها المُفكِّكة ولو بالشظايا الجارحة، ما يتمزَّقنا في أبسط تفاصيل معيشنا اليومي من نهايات غير سعيدة تعجل بموت الإنسان؛ وليس فلسفة تنغلق عن العالم في مفاهيم غير مفهومة تتقن تعليب الرؤوس في أبراج الجامعات؛ لن ننغمس في نبيذ النكران لأقصى الدوخة، بل نجزم مع ذلك دونما حاجة للتثاؤب كي نفتح الأعين، أن ثمة جيلا جديداً من الفلاسفة مبثوثاً في أصقاع العالم، لا يعرف التقهقر أمام أي شيء، في محاولة للنهوض بفلسفة تستمد أنفاسها من رئات رجال ونساء لهم ذات يقين وقناعة أن لا قيمة للفكر حين يهمل التجربة الحية للناس في السراء والضراء؛ بل يجدر أن ينسدل بقنديل الحكمة في الأحياز المعتمة والخطيرة بقلب الواقع، حيث المنحط واللايطاق الذي ندجنه بالجهل؛ ونستحضر هنا مفكراً ما فتئ يُدلِّي رأس التفكير في هذا الحقل السفلي المنضود بالألغام؛ إنه الفرنسي «بيير الزاوي» الذي صدع أخيراً بكتاب موسوم به «عبور الكوارث: الفلسفة في السراء والضراء» (دارسوي /384 صفحة) ؛ وفيه يجزم «بيير الزاوي» أن الفكر كي يكون جديرا بهذا الإسم، يجب أن يَسْتَبِر المناطق الأكثر بذاءة أو قذارة؛ تلكم التي غالبا ما يرعوي أمام كأدائها، كبار محترفي التصورات الفلسفية؛ مع العلم أنه إذا ابتغينا أن نكون فلاسفة ، يجدر ارتياد التجارب المدلهمة وحتى الفاجرة، والمبتذلة؛ وتنجلي في مظاهر شتى، مثل؛ معاناة المرض، الموت المحدق، وهجران الكائن المعشوق؛ كل هذه التجارب، جاس مناكبها المعتمة «بيير الزاوي» رويداً، نقطة إثر نقطة، بصرامة مثالية، ورهافة شعور مفرطة؛ فهو يعرف عميقا أن الفلسفة حين ترغب في مماحكة الأجساد التي تخترمها المعاناة، إنما تجازف في كل لحظة بالتأرجح من عَلٍ، لتغدو فاحشة في تجريديتها؛ لقد آثر الفيلسوف اختبار الخطر، موقناً أنه في نهاية النهايات، وحده التحليل المفهومي هو الذي يُعَلِّل الأزمة الإنسانية من أجل فهم مظاهرها الجسدية والواقعية؛ ذلكم هو الدرس السحيق الذي تَلقَّنه «بارمينيد» من أفلاطون حين حضَّ الفيلسوف على الجمع بين النظري والممارسة، بين الفكري والأخلاقي (الإيتيقي)، لبناء ميتافريقا القذارة؛ ليس ثمة من محاباة هنا، أو محاولة للاستغراق في الشر؛ بل إن الزاوي، يصف المأساة، الألم، والانحطاط، كي يقترح دليلا وجيزاً يساعد على البقاء والحياة؛ حيث لن يتعلم القارئ فقط، «الحياة مع» كوارثه الذاتية أو الحميمية، بل أن يبتكر أيضاً حياة سامية؛ الحياة الأعلى؛ أكثر قوة وجمالا؛ إن «بيير الزاوي» يستدعي تراثاً يتدفق مع صباحات الفلسفة، منذ الحِكَميَّات الإغريقية إلى إيتيقا سبينوزا؛ وهذه الأخيرة كان قد استَبَر أعماقها بدراسة تحمل عنوان «سبينوزا، القرار الذاتي» (دار بيار/2008)؛ ويُرصِّع في ذروة هذه السلالة ، الفلسفة الحيوية أو المذهب الإحيائي لجيل دولوز حين ارتوت تأملاته ناضحاً من هذا المعين؛ كما يستدعي نيتشه وليفيناس، لوصف الحياة الإنسانية التي قد تكون برمتها حالة مرضية؛ فأن تكون مريضا - في نظر الزاوي - يعني أن تتعلم حقيقة الحياة، ليس فقط في نهايتها، ولكن منذ انطلاقها الفجري؛ فأن تحيا يعني أن تمرض؛ تُراها محاولة لتأسيس عقلاني، لصنف من الوجود المؤقت، دون ضمان من أحد، وبالتالي بناء ما أسماه الكاتب «أخلاق الخارج»؟؛ إن الزاوي يتغيا الإشراق فلسفيا من نافذة هذا الكتاب، بما يؤكد أن المفاهيم هي ما يجعلنا نكون في وضع جيد كل يوم، والفكر ما يمنحنا الشجاعة لنكون سعداء؛ فما أقربنا بهذا الكَلِم رغم انوشاجه عميقا بالواقع القذر لزمننا المعاصر، من سماوات الشعر، ونكاد ننفطر من حشاشة أقلامنا بسؤال: هل الفلاسفة يحلمون حقا؟؛ نحتاج هنا إلى أن نيمِّم فقط باتجاه مؤلف «خطاب المنهج»؛ إنه ديكارت الذي يعتبر أن كل أفكاره ليست حقيقية، إنما بنات وهم انفرطت من شرنقة أضغاث الأحلام؛ ففي دراسته التي وسمها ب«الشطح الشعري للفلاسفة» (دار ستوك/ 312 صفحة)، كتب «كريستيان دومي» أستاذ الأدب في جامعة باريس VIII، أنه في ليلة 10 نونبر 1619، حلم ديكارت أيضا ب «أضمومة شعرية لكُتَّاب مختلفين» وصفها بالقول إنها «الفلسفة والحكمة مضمومان معا»؛ مضيفا أنه لا يجب الاندهاش، من أن الشعراء، حتى أولئك الذين لايصنعون إلا الترهات، إنما يصوغون الكثير من الحِكميات الخطيرة والحصيفة جدا، وأجود تعبيرا من التي توجد في كتابات الفلاسفة؛ لنقل إن الشعر أيضا يفكّر، ولكن بالمعنى الذي يجعل بعض الفلاسفة مثل (فيكو، ليوباردي، نيتشه، فيتجينشتاين، وباشلار)، يلتمسون ما تكتنفه الكلمات خارج كل حقيقة؛ قد يجازف الفيلسوف بأن يشِطَّ بعيدا عن مجاله العائلي، ولكنه يبقى في قلب اللغة التي - إذ نؤوب إلى فلسفة «بيير الزاوي» نجد أنها الترجمان الحقيقي للقذارة التي تقمِّط في أكفانها جثة الإنسان؛ أليس أقل ما تصنع هذه اللغة في شعريتها أو عقلانيتها، هو أن ترافق الجنازات اللانهائية للإنسان الأخير، ولو بالدعاء...؟