انْتثرتْ الأسماء التي بات يلْتبس بألْغام معانيها القبض ماء، زمننا الراهن؛ فهي آنا معاصرة، وأخرى حداثية أو ما بعد حداثية؛ وهلم تدحرجا للأمنة كقطع النرد التي لا يريد راميها في غالب التأويل، إلا العبث بالإنسان وصبّ تفكيره اللانهائي الأصل، في قوالب مقدودة على طراز يخدم مصلحة تجّار الأفكار الحاذقين في التلاعب بالعقول، وبيع كل شيء حتى هذا الإنسان الذي لم تبق من هويته بنزوعاتها الكلاسيكية كما حدّد جوهرها العميق فلاسفة الفكر الإنساني، إلا الصورة والاسم على الأوراق الرسمية؛ تُرى في أي زمن أنا؛ هل في المعاصر أو الحداثي أو ما بعد الحداثي؟؛ يبدو أن الوتيرة البرقية التي تدور سلسلتها المسنونة بعجلة زمننا اليوم، تخلق لدى الإنسان، صنفاً من فقدان الذات، بحيث يغدو مجرد مستهلك تنتهبه نزوعات السوق بماركاتها العالمية التي تحولت إلى أصنام معبودة، وكذا منطق الماركوتينغ الذي غدا عقيدة تستدعي هذا المستهلك للبحث عن ذاته الانسانية المفقودة أو المفلولة بتعبير محمد سبيلا الذي يستحضر الانثربولوجي «استراوس» حين يقول «إن الإنسان منصاع انصياعاً كلياً في الحياة الاجتماعية بحيث لا يكاد يعي أو يفهم الأسباب الحقيقية للكثير من العادات والأعراف والطقوس...» ( من كتاب « مدارات الحداثة» ص 116)؛ لنقل إن فضاء النزوعات شرس ويلعب بأعصاب دارسي السوق، بل يصل الأمر إلى فقدان الصواب، حين يغدو للرهانات الاقتصادية، وزنا أثقل من برميل «الغسول»، ويستعر الجدل اليوم حول حصص هذا السّوق كما لا يتجرّأ على فعله لمَّامو الخرق البالية؛ كل هذا خطأ من اقتراف مجتمعنا المابعد حداثي؛ ويعتبر هذا الهيبير مارشي، من أنماط الحياة متعدد الأشكال بعنف؛ إنه من صنف لعبة (البوزل (PUZZl الضخمة التي تحتوي قطعا متتالية، محصية من طرف «نيكولاريو» في كتابه «الإشهار الخيالي» (منشورات أورغانيزاسيون)؛ وهو كتاب يعكس حتى في أسلوب قراءته المتناقضة تجزيئاً اجتماعياً يجعل الكيانات تتعدد مستقلة، ويكرس مفهوم المؤقت، اللعبة، التنافر، التعدد، المفارقة، الفتنة، المحاكاة، الاختلاف، والعودة إلى الماضي؛ ويمكن إيجاز هذه السلسلة في تنافر الأصوات الحامل لجملة تناقضاتنا الفردية التي ننبشها حين نخلد إلى لعب حميمي يتلاشى فيه المجتمع الحديث؛ ترى ما معنى «ما بعد الحداثة»؟؛ «إنه السجال الدائر بين النماذج؛ القيم؛ والغايات الأشد اختلافاً، والتي تؤدي إلى التخفيف من نسبة الضرورات»؛ هكذا أوجزها السوسيولوجي «بيل ليبوفيتسكي»؛ لكن من أين انبثقت فكرة الماركوتينغ أو دراسة السوق، التي تصاحب ما بعد الحداثة؟ ؛ إن هذه الأخيرة إذاً، مُعقّدة وذات هندسة متنوعة، وتطابق هذا المستهلك ذا النظرة الجديدة؛ «والذي يتحول إلى (أتيلا) يصطاد عفاريت سوق الجملة» كما كتب «فيت بوبكورن» الذي يعتبر «نوستراداموس الماركوتينغ» في بداية التسعينيات من القرن العشرين؛ بإيجاز، إن مجتمع الاستهلاك يثور ضد «مبدعيه» مما سيدفع بدارسي السوق للجوء إلى فكرة عبقرية، تتمثل في اعتبار أن للشركات روحاً ستمضي للبرهنة على وجودها؛ أو كيف يمكن تحويل سؤالنا الوجودي إلى خطاب للبيع؛ ذلك أنه لن يكون للماركات أو الأنواع، أي مسؤولية أخلاقية، ولا أي رهان آخر إلا هذا الذي يعمل على تفجير مبياناتها في البيع؛ ويبدو أن الإشهار الجيد أو الرديء، هو بمثابة جدال عقيم ومبتذل، يعود إلى ستينيات القرن العشرين؛ حيث هيمن «الرعب المُكيَّف»؛ فقط كانوا لايبيعون وقتئذ إلا المنتوجات، وليس الأفكار الثابتة في صورتنا، والمنذورة للكشف عن رغبتنا في الإستهلاك؛ أما كاتب «اسم الوردة» «أومبيرتوإيكو» فيبقى قابضاً بنار ذات الوردة وهو يحدثنا عن كل هذه النزوعات الشرسة، بالقول إن جواب مابعد الحداثة على الحداثة، هو معرفة أن الماضي مُعطى بالشكل الذي لايمكن تدميره، لأن هدمه سيفضي إلى الصمت، يجب إعادة زيارته؛ بسخرية، وأسلوب ليس بريئاً؛ إنني أفكر في حالة ما بعد الحداثة، كما أفكر في حالة من أحبَّ امرأة مثقفة جداً، ولا يستطيع القول لها: «أُحبُّكِ بيأس» لأنه يعرف أنها تعرف (وتعرف أنه يعرف) أنها كلمات سبق وأن كتبتها «بارباراكارتلاند»؛ لكن ثمة حلٌّ؛ يمكنه أن يقول: «كما قالت بارباراكارتلاند، إنني أحبك بيأس»؛ وهكذا يمكننا إزاحة البراءة الزائفة، حين نقول بوضوح، إننا لا يمكن التحدث بطريقة بريئة، فهذا يمكنه أن يقول لهذه المرأة ما أراد قوله: إنه يحبها ويحبها بعصر براءة مفقودة؛ وإذا لعبت المرأة اللعبة، ستتلقى اعترافاً بالحب؛ ولا أحد من هذين المتحاورين سيشعر بالبراءة، معاً سيرضيان بتحدي الماضي، وبالذي سبق وأن قيل ولا يمكن محوه، هما الاثنان سيلعبان، عن شعور وبلذة، لعبة السخرية؛ ولكن، هما معاً سينجحان أيضاً في الحديث عن الحب؛ لنقل بدورنا من جوف وردة إيكو؛ إن هذا الصنف من الحب المثخون باليأس وحسابات البراءة والزيف، هو ما تبقى من الإنسان اليوم الذي أفقدته التقنية الشعور بذاته فبالأحرى بالزمن...!