خلال السنوات العشر الأخيرة، أكثر بعض السياسيين والمسؤولين الحكوميين من ترديد عبارات كبيرة وحاسمة، من قبيل: - المغرب الحداثي الديمقراطي. - الخيار الحداثي الديمقراطي. - اختيار المغرب للنموذج المجتمعي الحداثي الديمقراطي. - التمسك بالنموذج الحداثي الديمقراطي. وقد كان الوزير المكلف بالكلام في الحكومتين السابقتين، من أكثر الناس حرصا على ترديد مثل هذه العبارات بلهجة صارمة حاسمة، حتى ليخيل لمن لا يعرفه أنه ناطق رسمي باسم الحداثة والديمقراطية، وباسم المجتمع المغربي والشعب المغربي، الحداثي الديمقراطي. إصرار عدد من المسؤولين والمتصدرين السياسيين على الترديد الجازم الحاسم لهذه المقولة، يرمي أولا إلى ترسيخها في الأذهان وترويجها على الألسنة، وتعويد الناس على سماعها واعتبارها مسلَّمة لا غبار عليها، ويرمي ثانيا إلى التنميط والتعميم لحداثة معينة، ذات رموز وإيحاءات وممارسات معينة، سيأتي بيانها. الحداثة أما الحداثة بمعنى النظام السياسي القائم على الشراكة والشورى، وعلى المؤسسات والقانون، وعلى التوازن بين السلطات، وعلى الانتخابات النزيهة والنظيفة، وعلى العدل واستقلال القضاء، وعلى حرية الصحافة وحرية التفكير والتعبير، وأما الحداثة التي تمجد العلم والعلماء، وتدعم البحث العلمي وتعطيه الأولوية، وتؤمن باسقلالية المؤسسات العلمية والجامعية، في نشاطاتها ونتائج أبحاثها، وأما الحداثة القائمة على إطلاق طاقات المجتمع وتشجيعها ودعمها، وعلى حرية المبادرة والعمل في كافة المجالات النقابية والثقافية والاجتماعية والرياضية والفنية، وأما الحداثة المتمسكة فعليا بكرامة الإنسان وحقوق الإنسان وتنمية الإنسان، وبكرامة المرأة وحقوقها ورسالتها الريادية، وأما الحداثة التي تعمل على تكوين الشباب وتحصينهم، وتمكينهم من العلوم والمعارف والمهارات، ورعاية قدراتهم الإبداعية وطاقاتهم الحيوية، وأما الحداثة التي تبني اقتصادا وطنيا قويا، متمتعا بالإبداعية والاستقلالية والشفافية وتكافؤ الفرص، وأما الحداثة الرامية إلى تحقيق التنمية والرفاهية والاستقرار والازدهار، ومحاربة البطالة وهدر الطاقات بجميع صورهما وأشكالهما، وأما الحداثة التي تتصدى لمحاربة المفسدين، في جميع المجالات السياسية والمالية والإدارية والأخلاقية، ولا تتردد في محاسبتهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم، أيّاً كانت مناصبهم وصفاتهم وأنسابهم ... وأما الحداثة بمعنى الاستفادة والاقتباس والتعلم من تجارب الدول والشعوب الأخرى ومن كل منجزاتها الإيجابية... فأما الحداثة بهذا المفهوم وبهذه المعاني والمضامين، فنحن من أول المؤمنين بها، ومن أكثر الداعين إليها، ومن أشد المتمسكين بها. وكل الإخوة الحداثيين الديمقراطيين، بهذا المفهوم وبهذه المبادئ، فنحن من أنصارهم وأعوانهم وحلفائهم. ولا يضر الاختلافُ الواقع أو المتوقع في بعض تفاصيل هذه المبادئ والأهداف، لأن الاختلاف في تلك التفاصيل وفي غيرها واقع بين الحداثيين أنفسهم، وبين الإسلاميين أنفسهم، وبين اللبراليين أنفسهم، وبين السلفيين أنفسهم، وبين الاشتراكيين أنفسهم... وهذه الاختلافات التفصيلية والجزئية لها أكثر من طريق أخوي أو ديمقراطي لتجاوزها... ومع هذا فنحن لسنا بحاجة إلى أن نقول: إن المغرب أصبح حداثيا، أو إنه اختار النموذج المجتمعي الحداثي، أو إنه قد غير جلده، أو إنه قد لبس الجلباب الحداثي، بديلا عن الجلباب المغربي الشهير. لسنا بحاجة إلى إعلان ذلك وإلى ترديده صباح مساء، أولا، لأن ذلك كله من المطالب والتطلعات البدهية والفطرية، لدى أي مواطن ولدى أي إنسان عاقل سليم. وثانيا، لأن هذا كله إما من بدهيات ثقافتنا الإسلامية والوطنية، أو هو مما ترحب به وتستوعبه ثقافتنا وهويتنا. وثالثا، لسنا بحاجة إلى وصف المغرب وتصنيفه بهذه الهوية الجديدة – هوية الحداثة المذهبية – لكونها تحتمل وتحتمل، ولأن بعض دعاتها لهم مفهومهم الخاص وهدفهم الخاص من وراء هذا الصراخ وهذه الحداثة المزعومة عندهم؛ وكما يقال: من أفعالهم وأقوالهم تعرفهم، «وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ» [سورة محمد/30] فهناك من يريدون الحداثة العلمانية، التي تفصل الدولة عن هويتها الإسلامية المنصوص عليها في الدستور، والمسجلة قبل ذلك في سجلات التاريخ. وهناك من يريدون الحداثة اللادينية، التي تساعدهم على إبعاد الشعب عن تدينه وثقافته وأخلاقه الإسلامية، وعلى تخليصه من "رجعيته التقليدية". وهناك من يريدون الحداثة التي تقصي استعمال اللغة العربية، التي تشدنا إلى الماضي وإلى التراث، لفائدة لغة الحداثة وثقافتها وأهلها. وهناك من يريدون الحداثة سلاحا سياسيا مؤقتا، فقط لمحاربة "المد الأصولي" الذي يجتاح "هذه الأيام" ربوع العالم الإسلامي، بل معظم بلدان العالم ... وهناك من يريدون الحداثة بصفة أساسية من أجل تحطيم القيود والحواجز الاجتماعية، الدينية والخلقية، وإطلاقِ مارد الإباحية والشهوانية بشكل علني رسمي، لا يبقى معه خجل ولا وجل... فهذه هي الحداثة، أو هذه هي مقاصد الحداثة، عند طائفة من "الحداثيين". وهؤلاء عادة هم الذين يكثرون من ترديد المفردات الحداثية، ومن إطلاق الشعارات الحداثية، ويدمنون ممارسة الطقوس الحداثية والدفاع عنها، وهو الذين يقسمون بالأيمان المغلظة أن المغرب قد انخرط بلا رجعة في نادي الحداثة والحداثيين، وأنه الآن يستكمل – فقط يستكمل - بناء النموذج المجتمعي الحداثي، وفق المواصفات المتعارف عليها عندهم... هوية المجتمع بعض السياسيين، من هذه الطائفة أو من جيرانها وأصدقائها، يتسورون ويتصورون أنهم لما أصبحوا وزراء ووجهاء، ولما أصبحوا يشكلون الحكومة وينطقون باسمها، فمعنى هذا أنه من حقهم أن يمثلوا الشعب المغربي، وأن يتصرفوا فيه ويحددوا له هويته ومستقبله، ويحسموا قضاياه المصيرية... وينسى هؤلاء السادة أن حكومتهم، كسابقاتها، ليس لها من التمثيلية الشعبية إلا جزء ضئيل هزيل، وأنهم لا يزيدون عن كونهم وزراء "تصريف أعمال". ولعله لهذا السبب، نجد الملك في المغرب يبادر من حين إلى آخر إلى تشكيل هيئات وعقد مناظرات، تكون واسعة التمثيلية وذات قدر من المصداقية، لحسم بعض القضايا الهامة والحساسة، فلا يكتفي فيها لا بنفسه وبمستشاريه، ولا بحكومته أو بوزرائه المختصين. وإذا كان هذا يقع في قضايا محدودة، مثل التعليم، أو مدونة الأحوال الشخصية، فكيف يسمح بعض الوزراء وبعض السياسيين لأنفسهم بأن يحددوا للمغرب هويته وانتماءه، فإذا هو بجرة قلم، أو بزلة لسان، قد "اختار النموذج المجتمعي الحداثي"، وأصبح منتميا إلى الحداثة الغربية، أو أصبح له انتماء أورومتوسطي أو فرنكوفوني...؟! أليست هذه القضية - وفي أحشائها قضايا فرعية كبيرة – تستدعي، بإلحاح واستعجال، عقد مناظرات وتشكيل هيئات وطنية، مؤقتة أو حتى دائمة، للدراسة والتشاور والتحاور؟ وفي انتظار أن يأتي أو لا يأتي شيء من هذا القبيل، فإن استصحاب الأصل أصل، واليقين لا يزول بالشك. فالذي نعرفه، ويعرفه الجميع يقينا، هو أن الدستور المغربي يصنف المغرب دولة إسلامية، ويقرر أن لغته الرسمية هي اللغة العربية. وقبل ذلك نعرف، ويعرف الجميع يقينا، أن الشعب المغربي شعب مسلم وأنه مجتمع إسلامي، وأن نموذجه المختار، لثلاثة عشر قرنا متتالية، هو نموذج المجتمع الإسلامي، حتى لو أصيب هذا النموذج ببعض الآفات والنكسات. ومن جهة أخرى، نعرف أيضا أن الشعب المغربي في أغلبيته الساحقة يمتزج فيه العنصران الأمازيغي والعربي، فهويته من هذه الناحية هوية أمازيغية عربية مندمجة، وليست مزدوجة. أما أن المغرب قد اختار نموذجا مجتمعيا آخر وهوية أخرى وانتماء آخر، فلا ندري من قرر ذلك ومتى وكيف؟ وما مضمون هذا الاختيار؟ وما علاقته بالهوية الدينية والاختيارات التاريخية للشعب المغربي؟ إذا كانت بعض الحكومات المغربية – أو بعض القطاعات الحكومية- قد جعلت من الحداثة العلمانية شعارا لها ودثارا لسياستها، وإذا كانت قد نهجت نهجا يخدم رؤيتها وآمالها، أو وقعت على مواثيق دولية، نابعة من الحداثة المقبولة أو غير المقبولة، فهذا اجتهادها وتدبيرها الخاص بها، قد تنال عليه أجراً أو أجرين، أو وِزراً أو وِزْرَيْن، أو غير ذلك... لكن عليها وعلى جميع المسؤولين والسياسيين أن يتذكروا ويراعوا: أن الشعب المغربي بكامله، ليس في هذا العصر فحسب، بل على مدى قرون وقرون، قد اختار وقرر، ورضي ووقع: على أن الإسلام دينُه وشريعته وثقافته وهويته. رُفعتِ الأقلام وجَفَّتِ الصحف. نعم نحن نعرف ونعترف أن مغرب القرن العشرين قد شهد – قبل الاستقلال وبعده - تشكيل نخبة من ذوي الولاء للثقافة الحديثة والحداثية، وأن منهم من يريدون مغربا حداثيا منتميا إلى النمط الغربي ونموذجه المجتمعي. وبعض منهم يرون أنه حتى إذا لم ينجحوا في هذا الخيار، فعلى الأقل لا يريدون بقاء المجتمع المغربي ودولة المغرب في أحضان الانتماء الإسلامي والالتزام الإسلامي. وهم يعملون ويدفعون في هذا الاتجاه بكل ما يستطيعون، وهذا شأنهم ولا دخل لنا فيه. لكن المطلوب من هؤلاء السادة أن يتواضعوا، وأن يتحدثوا عن تطلعاتهم واختياراتهم في أحزابهم وتياراتهم، أو حتى في حكومتهم، إذا كانت لهم حكومة أو كانوا جزءا من الحكومة. ولهم أن يعبروا عن أحلامهم وتمنياتهم للشعب المغربي وللمجتمع المغربي بأن يرتقي ليصبح مثلهم. ولهم أن يزعموا ويفتخروا بأن المغرب يتمتع بأحزاب حداثية ديمقراطية، وبحكومة حداثية ديمقراطية، وأن أعضاء هذه الحكومة أو بعض أعضائها يريدون تحقيق الحداثة والديمقراطية، وبناء مجتمع حداثي... فهذا كله شأنهم، ومن حقهم أن يشتغلوا به ويتحدثوا عنه. أما السطو على هوية المجتمع وانتمائه، ومصادرة رغبته واختياراته، ومحاولة تثبيت ذلك من خلال كثرة الكلام ووسائل الإعلام، فأمر لا يمكن قبوله ولا السكوت عنه. ومن البدهيات في الفكر الديمقراطي السليم وفي الممارسة الديمقراطية الحقة أن تخضع الأقلية لما اختارته الأكثرية، وأن تحترم ما عليه السواد الأعظم من الشعب ومن المجتمع. وهذا يلزم حتى لو كان اختيار الأكثرية ظرفيا وآنيا، فكيف إذا كان هذا الاختيار إجماعيا، وضاربا في أعماق الزمان والمكان. ألم يقل الدكتور محمد عابد الجابري بحق: إن الإسلام في المغرب قد مسح الطاولة؟ وإن الممارسة الديمقراطية الجادة والصادقة كانت تقتضي ألا يدخل في الحكومة من لا يمثلون في مجتمعهم إلا أقلية ضئيلة، ما زالت في طور الكفاح الثقافي لتحصين وجودها والخروج من شرنقتها. كان على أصحاب الحداثة العلمانوية – سواء من جهة اليسار أو من جهة اليمين أو ممن لا جهة لهم - أن يفهموا أنهم حتى لو أسند إليهم تشكيل الحكومة كاملة بمفردهم، أنهم في الحقيقة إنما يشكلون أقلية معارضة داخل مجتمع إسلامي، وداخل محيط إسلامي، وداخل دولة قيامها ومشروعيتها بالإسلام، واستمرارها واستقرارها بالإسلام. ورحم الله من عرف قدره.