في استجواب جريدة «الأيام» مع الأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف، صرح هذا الأخير تعليقاً على شعار «المشروع الديمقراطي الحداثي» الذي ورد في الخطاب الملكي، بعد أحداث 16 ماي: «شخصياً أنا أفضل المشروع الديمقراطي، ولا أرى الحاجة إلى إضافة الحداثي(..) ليس هناك أي تحفظ، لكن هناك من يتحدث عن الديمقراطية وعن الحداثة، ويربطها بفلسفة الأنوار أو بالنموذج الفرنسي. لكنني أفضل أن أستعمل مصطلح الديمقراطية حتى لا تفسر كلمة الحداثة في غير محلها، فهناك حداثة ذات طابع علماني لا تقبل بالدين»، وأضاف السيد الوزير: «نحن لم نستعمل كلمة حداثي». وفي تفسيره لكون الملك استعمل مصطلح الحداثة وكذلك الحكومة، صرح الوزير بأن «جلالة الملك يتحدث كملك، والحكومة انطلاقا من وضعها المؤسساتي». أولاً- لقد سبق للأستاذ التوفيق أن استعمل مصطلح الحداثة في الاستجواب الذي أجرته معه جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، خلافاً لما يقوله اليوم، إذ صرح آنذاك بأن «ممارسة الدولة هي التي تخرجنا من كل التصورات السلبية، والانطلاق في التجديد والحداثة لا يطيق التساكن مع الأفكار السلبية، بل تنبغي توعية الأجيال توعية تاريخية حتى تتخلص منها تخلصا نهائيا»، 10-11-12 أكتوبر 2005. فهل نسي الأستاذ التوفيق أو تناسى ما سبق أن فاه به، أم إن المسؤول الحكومي في المغرب ينزع أكثر نحو المحافظة كلما استقر به المقام في موقع المسؤولية، فهل قدر مثقفينا أن يبتعدوا عن الأفكار المجددة كلما اقتربوا من جهاز الدولة، وعوض أن ينجحوا في تغييره ينجح في تغييرهم ويحولهم في كثير من الأحيان إلى دعاة الجمود والأفكار التقليدية؟ أم إن المسألة هنا في حالتنا لا تعدو كونها حسابا يراعي فيه الشخص وضعه الخاص ومصيره في الهرم الوظيفي. ثانيا- ما معنى أن الملك، إذا استعمل اصطلاح المشروع «الحداثي» فإنه يفعل ذلك بوصفه ملكاً، هل يعني هذا أنه عندما يخاطب الأمة بوصفه «أميراً للمؤمنين»، فلن يستعمل قط ذلك الاصطلاح، أي أن القاموس المرجعي يتغير كلما تغيرت الصفة التي يتحدث بها الملك، إن هذه «التخريجة» ترفع عن الأستاذ التوفيق الإحراج الناجم عن عدم استصوابه لاستعمال اصطلاحي ورد على لسان الملك، ولكنها تضعنا في مأزق تبعات التعارض الذي قد يقوم بين خطاب الملك وخطاب أمير المؤمنين، ومدى جواز أن يتعايش الإنسان وضده في نفس الذات، خصوصاً مع التداخل القائم اليوم بين صفتي الملك وأمير المؤمنين، والذي لا يحتمل تعارض الخطاب بينهما، ما لم يكن الأستاذ التوفيق يدعو بطريقة غير مباشرة إلى إعمال وجه جلي للعلمانية بالفصل الواضح بين وظيفة الملك ووظيفة أمير المؤمنين. ثالثاً- ما معنى أن الحكومة عندما تستعمل مصطلح المشروع الحداثي فهي تصنع ذلك «انطلاقاً من وضعها المؤسساتي»، هل يفيد ذلك أن وزارة الأوقاف ووزير الأوقاف غير معنيين بالوضع المؤسساتي للحكومة، وأن للوزارة المذكورة وضع خاص جداً، يجعلها متحررة من المنطق والمشروع اللذين تتبناهما الحكومة. لقد أبرزت لنا مثلاً تجربة سلف الوزير الحالي، كيف كانت الوزارة تخوض الصراع ضد الحكومة، وتقف لمناهضة مشاريعها. هذه الرغبة في وضع مسافة بين وزارة الأوقاف وبين بقية القطاعات الحكومية وفي التحلل من التضامن الحكومي، هل هي رهان للأشخاص الذين يتوالون على رأس الوزارة أم إنها خلاصة وضع مرتب مسبقاً؟ إذا كان الأمر كذلك فمع من رتب هذا الوضع؟ وهل أحيط الوزراء والوزير الأول علماً بذلك؟ يقول الأستاذ التوفيق في الاستجواب الذي نشرته جريدة «الاتحاد الاشتراكي»: «ما يمكن أن يختلف باختلاف الوزراء هو بعض التلوينات والتوجيهات السياسية، علما بأن وزارة الأوقاف لا تخضع لمثل هذا التوجيه والتلوين، فهي آلية من آليات تنفيذ سياسة أمير المؤمنين في تدبير الشأن الديني، ويتوقف نجاحها على جودة الأداء، وعلى الوسائل الضرورية لذلك». لقد عشنا في مناسبات عدة مشكلة دور ومكانة وزارة الأوقاف في البناء المؤسسي، وإذا كان من المشروع أن يدافع الوزير أو غيره عن موقع للوزارة يبعدها عن الصراع السياسي المباشر، حتى لا تكون أداة في يد هذا الحزب أو ذاك لخدمة أهدافه الخاصة، فإن المسألة لا يحسمها اجتهاد الوزير الأول أو أعراف الماضي، بل يجب أن تخضع لتأطير دستوري متوافق عليه، وفي هذه الحالة إما أن تُسند وظائف الوزارة إلى هيأة دستورية مستقلة عن الحكومة أصلاً، أو يحتفظ بشكل الوزارة كجزء من القطاعات الحكومية الخاضعة لمراقبة ممثلي الأمة، مع الاعتماد في الحالتين معاً على التحديد الدستوري للإسلام الذي نريده لمغاربة القرن الواحد والعشرين كمرجع قار. رابعاً- إذا كان وزير الأوقاف قد أعلن عن تفضيله عدم استعمال لفظة الحداثي في الدلالة على «مشروع الدولة»، نظراً لأن هناك نوعين من الحداثة، حداثة علمانية وحداثة غير علمانية، وخشية أن يفهم إيراد الحداثة كتمثل للحداثة العلمانية، فإن هناك حزبا مغربياً يرفض استعمال مصطلح الحداثة لنفس السبب، وهو حزب العدالة والتنمية، وهذا من حقه طبعاً. كما من حق الوزير أيضاً أن يشاطر الحزب الرأي، خاصة أن الدولة تتقاسم مع الحزب المذكور قدراً معلوماً من الأصولية السياسية بالإبقاء على النظام السياسي مشدوداً بأواصر وثيقة مع الماضي. لكن بعض الأطراف السياسية عندما تتفادى استعمال مصطلح الحداثة، فإن لها أيضاً مآرب أخرى، فهي بذلك تحرر نفسها من كل قيد قد يطال أدوات عملها اليومي. إذ من الطبيعي مثلاً أن يتحفظ على مصطلح الحداثة من يفتي بطريقة إخراج الجن من جسد المريض، أو من يعتبر إعصاراً أصاب منطقة بآسيا بأنه غضب من الله سبحانه وتعالى ولعنة إلهية حلت بسكان المنطقة، ومن ينشر في الناس بأن عرش الرحمان قد اهتز لوقوع الحفل المعروف ب«عرس الشواذ» بالقصر الكبير. إن هذه الأدوات في التعبئة تطابق حاجات ونزعات موجودة لدى فئات اجتماعية معينة، ويقصد مستعملو تلك الأدوات إلى إضفاء طابع قدسي على خطابهم والتسامي به وإنكار بشريته. خامساً- هل مصطلح الحداثة يقود فعلاً إلى الإيقاع في الالتباس؟ وهل يكون الخطاب الملكي قد أدرك هذا الخطر، فانتقل من إيراد المصطلح إلى تغييبه، ثم استعمل بمناسبة ترؤس الملك اجتماع المجلس العلمي الأعلى مصطلحاً «بديلاً» هو «سياق الإصلاح والتحديث» في 27 شتنبر 2008 بتطوان؟ وهل كان ل»اجتهاد» وزير الأوقاف أو وزارة الأوقاف دور في إخراج اصطلاح جديد لتعويض الاصطلاح الذي برز بصورة قوية في الخطاب الرسمي للدولة الذي أعقب الحوادث الأليمة ل16 ماي 2003؟ سادساً- هل من الجائز عقلاً أن نعتبر اليوم كمغاربة مسلمين، أن «فلسفة الأنوار» لا تعنينا، ولا تناسب وضعنا أو هويتنا، وأنها ليست لنا، بل هي موضوعة للآخرين وقائمة على خدمة مقاربتهم للأشياء ونمط عيشهم وتاريخهم؟ كيف نتحفظ على هذه الفلسفة في وجهها الفكري العام ونقبلها في وجهها السياسي الذي ليس شيئاً آخر سوى «الديمقراطية»؟ كيف نتحفظ على فلسفة الأنوار ثم نزعم الانخراط في مشروع الإصلاح الديني؟ أليس جوهر الإصلاح الديني كما عاشته الإنسانية وصاغته حركة النهضة عندنا أيضاً هو بناء أسس «التفاهم» والتعايش والتكامل بين الدين وفكر الأنوار؟ هل يمنعنا انتماؤنا إلى الإسلام من أن نحتفي بالإنسان وبالحرية وبالعقل؟ إن في تراثنا الثقافي الإسلامي ما يكفي من العناصر التي تعيد إلى الإنسان ثقته بنفسه، وثقته بقدرته على حل مشاكله وتدبير شؤون حياته واختيار نمط عيشه، والتحرر من المسبقات التي أقرها الماضي بغير سند من العقل. وفي ذلك التراث أيضاً كل الأسس المحفزة للإنسان على العمل والاجتهاد والنظر إلى الطبيعة واكتشاف قوانينها الموضوعية، والنظر إلى الذات وفهم حركاتها وسكناتها، والشعور بأن الإنسان يصنع التاريخ ولا يُصنع به التاريخ، وأن الحجة على أفضلية أمر ما هو ما يثبته التمحيص العقلي والاختبار والملاحظة والتجربة. ذكر الأستاذ التوفيق في استجواب الأيام أن «علينا كلما مررنا بضريح، أن نرد على استفهامات أبنائنا بأن الأمر يتعلق بفلان الشخص المدفون هناك، وأنه من طينة أولئك الذين كانوا زهاداً مستقيمين وتجري على أيديهم كرامات وإسعافات ينتفع بها الناس، أي أنهم كانوا أشخاصاً نموذجيين ومثاليين، ما أحوجنا إلى أمثالهم في كل وقت، فالمسألة هي تكييف هذه المصطلحات القديمة مع المصطلحات الجديدة»، لكن فات السيد الوزير أن يذكرنا بواجب أن نقول لأبنائنا أيضاً إن هؤلاء الأولياء، وبعد وفاتهم، لم يعودوا قادرين على فعل أشياء جديدة ينتفع بها الناس، ولا يمكن أن ننتظر أن تسهم بركتهم في إشفائنا من الأسقام والعلل، أو في الاستجابة لدعواتنا وتحقيق طلباتنا. لقد كانت الحركة الوطنية مثلاً، حريصة على خدمة قيم التنوير، وحاربت عادات التمسح بالأضرحة وعدداً من التقاليد العتيقة، وكانت متأثرة في ذلك بجيل رواد النهضة في الأقطار العربية والإسلامية. واليوم نحتاج إلى استئناف هذا المجهود التنويري. في استجواب «الأيام» مع الأستاذ التوفيق، اختار هذا الأخير التزام الحياد إزاء الفتاوى التي تبشر ب«إسلام آخر» غير «إسلام مدونة الأسرة»، واختار بصدد الموقف من مصطلح الحداثة، أن يقف إلى جانب الذين يرفضون استعمال المصطلح عندما يتولون الإشارة إلى حقيقة الأفكار التي يتبنون. وسواء كان السبب في مسلك السيد الوزير هو تجنب مواجهة الحركات الأصولية، والخوف من الاصطدام معها، أو كان السبب هو بحث الشخص عن تحقيق إجماع حول نفسه ولو بتجميع المتناقضات، أو كان هو الاقتناع أصلاً بأن الدولة نفسها حتى وإن استعملت تعبير الحداثة فهي لا تقبل منها إلا جوانب محددة، فإن المفارقة التي يتضمنها المسلك المشار إليه، هي أنه لا يستوعب الأبعاد الحقيقية لتنصيص الدستور المغربي في التصدير على تشبث المملكة المغربية بحقوق الإنسان «كما هي متعارف عليها عالميا». إن هذا التدقيق الأخير يرفض نهج الانتقائية في التعامل مع فكر الحداثة، وبعبارة أخرى، يرفض القبول فقط ب«نصف الحداثة»!.