إن الولاء للغة العربية باعتبارها أساس الهوية يشكل بالنسبة للمغاربة أحد المقدسات التي لا يمكن القفز عليها أو التخلي عنها. ففي ظل الصراع الحضاري المزعوم تسعى جميع الدول التي تحترم نفسها ومقدساتها إلى تعزيز لغتها القومية كما هو الحل لدول جنوب شرق آسيا كاليابان والصين وكوريا، فعلى الرغم من الصعوبات التركيبية والنحوية لهذه اللغات إلا أنه تم اعتمادها كلغة للعلوم والتقنيات والاقتصاد، على اعتبار أنه لا يمكن لأمة أن تتقدم باعتماد لغة أجنبية، ولهذا نجد اللغة الصينية مثلا في تقدم مستمر، مما سيجعلها حسب عالم المستقبليات المهدي المنجرة، تتبوأ المكانة الأولى مستقبلا، لا لشيء إلا لأن الصين جعلتها لغة الاقتصاد، ولأن الاقتصاد الصيني في تقدم مستمر. كما أن إسرائيل مثلا اعتمدت اللغة العبرية لغتها العلمية على صعوباتها وأحيتها وقعدت لها رغبة منها في توطيد هويتها المندثرة. تأسيسا على ذلك يبقى النهوض باللغة العربية من الضرورات الملحة إذا كنا فعلا نرغب في توطيد دعامات تاريخنا وحضارتنا، ولذلك تبقى مسألة جعل اللغة العربية لغة العلوم والتقنيات من أولى الأوليات في كل المدارس والجامعات والمعاهد، بشكل عمودي، حيث ينبغي التدريس بالعربية على استمرار المراحل الدراسية، وبشكل أفقي بجعلها لغة جميع المناهج والمقررات الدراسية. إنه من غير المعقول، ونحن ندعي الرغبة في إصلاح النظام التعليمي، أن نجعل بعض المواد تدرس في الثانوي بالعربية وفي الجامعي بالفرنسية أو الإنجليزية. إن سلاسة اللغة العربية وقوتها المعجمية والصرفية تجعلها من أغنى اللغات وأقدرها على دخول جميع جوانب الحياة؛ الاقتصادية والعلمية والتقنية والاجتماعية والإدارية. ويمكن إجمال بعض صفات العربية فيما يلي: 1 كونها لغة بيان في غناها الأسلوبي والبلاغي. 2 كونها غنية على مستوى الحروف، مما يسمح بتراكيب صرفية متنوعة فضلا عن اعتمادها الاشتقاق. 3 كونها على مستوى الكتابة في غنى عن وضع الحركات les voyelles مما يجعلها لغة مقتصدة، فما يحتاج إلى صفحتين في بعض اللغات يحتاج في العربية إلى صفحة واحدة. 4 كونها على مستوى التركيب تستغني عن الكلمات الزائدة، فالاسم، مثلا، لا يعرف إلا مرة واحدة، فلا نقول: «الكتاب زيد»، لكن نقول: «كتاب زيد»، عكس كثير من اللغات الأخرى التي تعرف الاسم مرتين. كما تستغني عن الحروف الزائدة، فنقول سيارة خالد، دون اعتماد الكلمة المساعدة «of» أو «de» ؟ أو «ديال» كما في الدارجة، وهلم جرا. كما أنها لا تعتمد حروفا زائدة غير منطوقة، كما هو الحال لكثير من اللغات الأخرى، فلا نكتب إلا ما ننطقه. 5 وعلى مستوى التصريف الزمني للأفعال هناك أزمنة قليلة بينما يبقى السياق هو المحدد للزمان، مما يجعلها سهلة التلقين والتعلم في هذا الصدد. 6 كونها لغة غنية معجميا: فبفضل الاشتقاق تشتمل على حوالي سبعة ملايين كلمة، بينما لا تزيد بعض اللغات المشهورة على مليوني كلمة. إننا لا نقوم في هذا المقام بوضع مقارنة أو تقابل بين اللغات، إنما نريد فقط أن نبرهن على قوة اللغة العربية وقدرتها على أن تكون لغة العصر بالنسبة لنا وأن تكون لغة علم وحضارة في عصر تتسابق فيه بعض اللغات كالإنجليزية للهيمنة باسم العولمة، والتي تدفع أمريكا وإنجلترا من أجلها ملايير الدولارات لتعميمها حتى وصل بها الأمر إلى إنشاء قنوات في بلدان عربية لنشر النموذج الأمريكي-الإنجليزي لأمركة العالم تحت غطاء العولمة. كما أننا لا نهدف إلى هدم اللغات الأخرى بدافع قومي كما فعل هتلر في نزعته النازية حين منع تعليم اللغات في ألمانيا النازية، وإنما نود القول أنه من العار أن نكرس جهودنا المادية والمعنوية في المغرب للنهوض بلغات أجنبية في حين نحارب لغتنا وهويتنا. وينبغي أن نعلم أنه لن يتأتى لنا ذلك، أقصد جعل لغتنا لغة الدرس العلمي والجامعي إلا بتكثيف الجهود وفتح المجال للمتخصصين للإسهام في ترسيخ اللغة العربية وإغنائها عن طريق إنشاء معاهد متخصصة في المعالجة اللغوية وفي الترجمة العلمية إلى العربية لكل ما جد في عالم المعرفة. كما ينبغي الإشارة إلى أن تنمية مجالات أخرى وخاصة المجال الاقتصادي، فضلا عن العلمي والتقني، هي الكفيلة بنشر اللغة وتقويتها، ولنا في الماضي العربي خير مثال. كما ينبغي أن نذكر في النهاية بأن المغرب بلد منفتح حضاريا، مما يتوجب معه تشجيع ونشر الثقافات المحلية واللغات المحلية، خاصة الأمازيغية من أجل حوار حضاري داخلي بعيدا عن النعرات الطائفية التي تسعى إلى زحزحة مقدسات الدولة المنصوص عليها دستوريا، فلم يكن أبدا أي صراع أو عداء بين العرب والأمازيغ لمعطيات عدة منها: 1 عامل الدين الإسلامي الذي رحب به الأمازيغ وأحبوه وأحبوا لغته العربية كما حدث في بلاد فارس وتركيا، فالدين يدعو إلى الأخوة الدينية عوض الأخوة الطائفية أو العرقية. 2 عامل المصاهرة التي حدثت بين الأمازيغ والعرب والتي تجعل من الصعب أوالمحال ادعاء الصفاء العرقي في المغرب. 3 عامل التاريخ المشترك، فمرور أكثر من ثلاثة عشر قرنا مع ما وافق ذلك من متغيرات ثقافية سمح بخلق تواصل وحوار ثقافي بين العرب والأمازيغ، يؤكد ذلك براعة الأمازيغ في الكتابة الأدبية والعلمية باللغة العربية. من هنا يبقى من الضروري المحافظة على لغتنا العربية وتشجيع الثقافة والتراث المغربيين من أجل مغرب قوي حضاريا قادر على مواجهة تحديات العولمة المزعومة ومن أجل حوار حضاري متبادل وفعال. (*) أستاذ باحث