إن طبيعة تنظيم العلاقات الاقتصادية بين الدول تحدد إلى حد بعيد طبيعة التوازنات الجيواستراتيجية العالمية قي شقيها السياسي والاقتصادي. فبعد سقوط حائط برلين، كرمز للحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي بقيادة الإتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتجاوز نظام الغات GATT ليصبح المنظمة العالمية للتجارة OMC، اعتقد النيوليبراليون أن قانون السوق هو القانون الوحيد القادر على ضمان التوازن الاقتصادي على المستوى العالمي. كما دفع هذا الاعتقاد بعدد من رواد هذا التيار إلى إعلان "نهاية التاريخ"، أي نهاية الصراع الطبقي كأحد الركائز الأساسية لتطور الأحداث التاريخية. "" إلا أن توالي الأزمات الاقتصادية العالمية، وما أفرزته من تناقضات، حّول هذه التصريحات إلى مجرد فرضيات فتحت النقاش من جديد بشأن مرتكزات العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية. فبالرغم من تسطير الضوابط المنظمة للعلاقات التجارية في إطار المنظمة العالمية للتجارة، فتح المجال من جديد للدعوة إلى إعادة النظر في دور الدولة وإلى العودة إلى مبدأ "الإقليمية" الاقتصادية، أي عودة الدول المتقدمة إلى التسابق من أجل ترسيخ المعاهدات التجارية الجديدة، الثنائية ومتعددة الأطراف،مع العديد من الشركاء التجاريين الصغار. وتعتبر الولاياتالمتحدةالأمريكية فاعلا أساسيا في هذا المجال حيث راهنت من خلال هذا التوجه تحقيق هدفين اثنين يتعلق الأول إلى دفع القوى التجارية الرئيسية في العالم، وبالأخص أوروبا واليابان، نحو إتمام أجندة منظمة التجارة العالمية كإطار شمولي وأوسع نطاقا، والثاني إلى إحياء الليبرالية التجارية في جبهات متعددة، عالميا وإقليميا وثنائيا. ومن أجل ذلك تحرص أمريكا في الوقت نفسه على خلق مناطق التجارة الحرة لتوسيع نفوذها التجاري خصوصا وأن عدد الأطراف المشاركة من خلال هذه المناطق غير كاف في نظرها. وفي هذا السياق، واعتبارا لحجم التطورات الاقتصادية التي عرفها العالم منذ العقد الأخير من القرن العشرين، خصصنا هذا المقال للإسهام في النقاش الدائر حول مستقبل التوازنات الاقتصادية في العالم خصوصا تداعيات وتأثيرات العودة إلى "الإقليمية" الاقتصادية على المصالح الأمريكية وعلى مستقبل التقاطبات. واعتبارا لكون تضارب المصالح في شرق آسيا قد وصل إلى ذروته، ارتأينا التركيز بالخصوص على التفاعلات السياسية والاقتصادية التي تعرفها الدول الآسيوية مع هذا التوجه الجديد وعن إمكانياتها للتأثير على موازين القوى الاقتصادية في العالم . فمنذ 2001، اتخذت الصين مبادرة تحقيق منطقتين تجاريتين حرتين تشمل الأولى جنوب شرق آسيا، والثانية شمال شرقها. وكاستجابة ذكية للمبادرات الصينية، أعلنت اليابان القطيعة مع سياساتها القديمة المعتمدة على التجارة متعددة الأطراف. ولتبرير البلدين تركيزهما على "الإقليمية"، سارعتا إلى اعتبار هذا التركيز مجرد رد فعل اتجاه سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية لكون هذه الأخيرة هي السباقة إلى ترسيخ هذا التوجه في علاقاتها الاقتصادية مع بقية العالم. وعلى مستوى الصراع من أجل القيادة على المستوى الأسيوي، تمكن البلدين (الصين واليابان) من إيجاد صيغ توافقية أحالت دون عرقلة المشروع برمته. فالمنافسة الشرسة التي عرفتها القارة جراء تضايق اليابان من نجاح الصين في إبرامها اتفاقية تجارة مع مؤسسة دول جنوب شرق آسيا للتجارة الحرة ASEAN، تم تفاديها حيث تحول الصراع بين بكين وطوكيو من أجل القيادة إلى تعاون مثمر في تجارة شرق آسيا. هكذا، ففي شهر نونبر 2002 تحولت مؤسسة آسيان إلى آسيان+3 (ASEAN+3) حيث أصبحت تضم الدول العشر الأعضاء في آسيان والصين واليابان وكوريا الجنوبية. وبهذه المبادرة المهمة في تاريخ آسيا الاقتصادي، تخطت للمرة الأولى منذ 1961 قيمة واردات اليابان من الصين مستوى وارداتها من الولاياتالمتحدة كما ارتفعت قيمة الصادرات الصينية إلى كل من تايوان وكوريا الجنوبية وغيرها من دول مجموعة آسيان الرئيسية بنسبة 50 بالمائة، بينما بقيت وارداتها من الولاياتالمتحدة كما هي. إنه توجه أكد الانخفاض النسبي للوجود التجاري الأمريكي في شرق آسيا والذي ابتدأ منذ منتصف التسعينات بالرغم من الوجود الدائم والمترسخ لأمريكا في المنطقة. هكذا فقد ارتفعت قيمة واردات اليابان من الصين من 36 مليار دولار سنة 1995 إلى 60 مليار دولار سنة 2001، بينما انخفضت قيمة وارداتها من الولاياتالمتحدة في الفترة نفسها من 76 مليار دولار إلى 63 مليار دولار. إضافة إلى ذلك عرفت المنطقة دينامية اقتصادية كبيرة. فحتى كوريا الجنوبية، الحليف الأول لأمريكا، ارتفعت صادراتها للصين بنسبة 100 بالمائة بينما لم تزد نسبة صادراتها للولايات المتحدة إلا بنسبة 30 بالمائة. أما وارداتها من الصين فقد ازدادت قيمتها بمقدار الضعف تقريبا بينما انخفضت قيمة وارداتها من الولاياتالمتحدة بمقدار الربع. كما انخرطت تايلاند وسنغفورة وماليزيا في نفس الحركية حيث عرفت مبادلاتها التجارية نموا سريعا أكبر بكثير مما هو عليه مع الولاياتالمتحدة. إن المتغيرات الاقتصادية العالمية، خصوصا بعد الأزمة المالية التي اندلعت انطلاقا من آسيا بين عامي 19971998، أكدت الحقيقة التالية: "بالرغم من الحجم الخرافي لمقدار صادرات الولاياتالمتحدة لدول شرق آسيا (182 مليار دولار سنة 2001 مشكلة ربع الصادرات الإجمالية للولايات المتحدة وتوازي صادراتها لدول الإتحاد الأوربي)، سجل المتتبعون ميل دول شرق آسيا نحو توطيد علاقاتهم الاقتصادية ببعضهم". فبعد الأزمة المالية السالفة الذكر وما صاحبها من جدل بشأن استغلال الأمريكيين للأزمة الآسيوية لتحقيق مصالحهم الذاتية، تنامت نزعة الأسيويين في دعم تفعيل مبدأ "الإقليمية". وقد زاد من حدة هذه النزعة ضعف المشاركة الأمريكية في المؤتمر الاقتصادي المنظم في بانكوك سنة 2000 والذي حضره إضافة إلى ثمانية من قادة دول آسيا، رئيس الوزراء الياباني وقادة الإتحاد الأوربي. وكرد فعل دعا كذلك إميل سالم في خطاب ألقاه في واشنطن إلى ضرورة تأقلم اندونيسيا مع الدور "الصيني في اقتصاديات آسيا" من خلال دعم آسيان 3+. وتأملا في هذه التطورات الاقتصادية العالمية، يتضح يوما بعد يوم أن الاقتصاد الآسيوي بقيادة الصين في طريقه ليصبح قطبا اقتصاديا عالميا منافسا لأمريكا وأن شروط ميلاد القطب المنافس لا يمكن أن تكتمل إلا في آسيا. فصادرات الإتحاد الأوربي هي الأقل انتشارا حيث يبقى أكثر من ثلثيها داخل أسواق الإتحاد نفسه، وكذلك اليابان، بدورها تتركز صادراتها بطريقة مشابهة أي أن معظم صادراتها تتوجه للأسواق المحاذية لها. أما المؤشرات التي ترجح تحول دولة الصين إلى قائد اقتصادي في آسيا فهي عديدة، ونكتفي بذكر بعضها: * وجود تقارب كبير في وجهات نظر كل من الصين واليابان: لقد اعترف المراقبون في البلدين أن النفوذ الأمريكي في المنطقة أصبح خانقا ويجب التخفيف منه بالعمل على بناء آسيا جديدة. وفي هذا الاتجاه، دعا أوغورو كازوا، وهو من كبار المسؤولين اليابانيين في وزارة الخارجية سنة 1999 تقوية العلاقات التعاونية بين آسيا المتحدة وأوربا الغربية لمواجهة نفوذ أمريكا القوي في المنطقة. * إعلان اليابان سنة 2000 عن إنهاء اعتمادها الحصري على نظام الغات ومنظمة التجارة الحرة حيث اعترف رئيس الوزراء الياباني في سنغافورة أن الصين "سوق جذابة" وأصر على تقوية التعاون بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية مع العمل على تيسير انضمام استراليا ونيوزيلاندا إلى التحالف الأسيوي. * إن أكثر من خمس الصادرات العالمية الآن أصبحت بيد اقتصاديات لم يكن لها وجود في بداية القرن العشرين. * تبني الولاياتالمتحدة لسياسات "وقائية" دفاعية (منع التخلص من فائض الإنتاج، والواجبات التعويضية، وحماية مصالح قطاعات الصلب والأقمشة والزراعة،...). واعتبارا لما سبق نقول إذا أصبحت إمكانية تكوين قطب اقتصادي آسيوي بقيادة الصين أمرا واقعيا، فإن منافسته للولايات المتحدة ليست بالأمر الهين بالرغم من تداعيات الأزمة المالية الأخيرة. فقوة أمريكا تتجلى، إضافة إلى تفوقها العسكري والتكنولوجي، في التوزيع العالمي المحكم لصادراتها حيث تتوزع قرابة نصفها بين أوروبا وآسيا بالتساوي تقريبا، بينما يذهب أكثر من الثلث إلى كندا والمكسيك. وبذلك تكون قرابة 90 بالمائة من صادراتها تتوجه، وبنسب متساوية تقريبا، إلى الأقاليم الاقتصادية الرئيسية في العالم. إضافة إلى ذلك، يتميز الاقتصاد الأمريكي باستقرار صادراته حيث يسجل كل سنة ومنذ 1913 نسبة ثابتة تتراوح ما بين 12 و 13 بالمائة بالرغم من بروز العديد من الأقوياء الجدد في الاقتصاد العالمي.