من نواكشوطدكار.. لحظة الفراق في طريق قصص الأوهام في طريق العودة مع صديقي احمد بزيد، وأنا أتأبط حقيبتي الصغيرة التقينا صدفة بإحدى أخواتي، فارتابت في أمرنا وبادرتني بالسؤال عن سر الحقيبة، أصبت بارتباك وذعر، وبسرعة توسلت الجواب مدعيا أني ذاهب لأقضي عطلة الربيع مع أخوالي في البادية، استللت هذا العذر المقنع لأني كنت أعرف أنها معتادة على هذه الخرجات الفجائية إلى بيت أخوالي. وبالرغم من قوة الحجة التي ألقيت بها في وجه سؤالها، رمقت في نظراتها استمرار الشك في أمري وتوجست من ردة فعلها التي قد تنسف المخطط السري الذي كنا نحضره ، لذلك اقترحت على رفيقي أن نقضي ما تبقى لنا من وقت قبل الرحيل في مكان لا يعرفه أحد من محيطنا حتى لا تنكشف خطتنا. دبرنا أمرنا لتنفيذ هذا التكتيك، وبعدها اتصلنا بالوسيط الذي سيسافر بنا إلى مخيمات تيندوف واسمه (ماء العينين ولد الزمراكي)، وهو شخص سنعرف فيما بعد أنه لم يكن سوى متاجر بالبشر، يقبض ثمن تهريب الشباب الموريتاني من طرفي النزاع في الصحراء، إذ كان بمثابة عميل مزدوج لهما ، فأمن لنا مكانا منعزلا قضينا فيه ليلتين قبل اليوم الموعود . في الصباح الباكر من اليوم العاشر من أبريل 1979 أيقظنا الوسيط (العميل)، وطلب منا أن نجهز أنفسنا للرحيل، ثم خرج ليعود إلينا بسيارة أجرة في حدود الساعة العاشرة صباحا، كنا جاهزين فأسرعنا بامتطاء السيارة رفقته، وتوجهنا إلى المحطة الطرقية بالعاصمة نواكشوط، وكانت يومها توجد بمقاطعة « لكصر». هناك وجدنا شابين آخرين بانتظارنا لمرافقتنا في الرحلة وهما الصديق أمَان ولد بمبا ولد الخالص ، والمرحوم محمدن ولد أحمد يأمر ولد البربوشي الذي سيقتله جلادو البوليساريو فيما بعد، وكانت تلك أول معرفة لي بهما، غير أنه ومنذ اللحظة الأولى ساد بيننا انسجام غريب ، وكأننا كنا نعرف بعضنا بعضا منذ زمن بعيد. اكتشفت خلال تلك الرحلة أن كلا منهما يتمتع بصفات جميلة تخفف عن مرافقه متاعب السفر ، فقد كان (محمدن) رحمه الله على هدوئه خفيف الظل، يجعل محدثه يضحك باستمرار رغما عنه ، بينما كان (أمًان) مشاكسا ، يمتلأ حيوية ونشاطا ، واثقا من نفسه رغم صغر سنه ، وخدوما رغم أنفته، كانت الرفقة تفتح شهية سنعرف فيما بعد أن مرارتها ستفتح أعيننا على وهم كبير، وأن عبور بعض منا من خطوط التماس مع الموت الذي ضرب بعضنا، سيسمح بسرد قصة هذا الجحيم. من الثمن الذي قبضه الوسيط استأجر لنا سيارة من نواكشوط إلى مدينة «روصو» على الحدود مع السنغال، ومنها إلى دكار، وخلا عبور هذا العالم من الرمال، كان في أجندة سفرنا أن نجد الشخص الذي يملك أسرار بقية الرحلة، إنه الشخص الذي سيصبح في ما بعد من أكبر جلادينا، كان ف انتظارنا ليصحبنا إلى غينيا بيساو و منها إلى الجزائر. تحركت بنا السيارة من نواكشوط في حدود العاشرة والنصف صباحا، وفي الطريق كان الحديث كله تقريبا يدور حول الثورة وحياة الثوار، لم يكن هناك مجال لذاكرة الطفولة والمراهقة التي غادرنا فضلئها للتو، كما لم يكن للحظات الفراق لأهلنا مكان. كان مرافقنا الذي قبض ثمننا يروي لنا قصصا تواصل غزوات الشحن التي عشناها لسنوات، سنعرف فيما بعد أنها من نسج خياله الوسخ ، كان يصور أحداثها في جبهات القتال وهو يقود فرقة من مقاتلي البوليساريو ، وبين الفينة والأخرى كان يبدي حسرته على فراقه للمقاتلين بسبب عمله الجديد الذي يدعي أن « القيادة»، حسب زعمه – قدرت أنه هو الضامن لاستمرارية الثورة ، وبالرغم من أنه كان ثقيل الظل والروح والشكل فقد استأنسنا بقصصه وصدقنا بطولاته المزيفة قبل أن نعرف الحقيقة. ومن سخرية الأقدار أننا سنعرف فيما بعد أن الذين يدعي القتال والعمل معهم، هم من قالوا لنا إن قدمه لم تطأ قط أرض «الحمادة »، حيث مخيمات الصحراويين ، بل ونعتوه بالشخص البخس الذي يبيع كل شيء من أجل المال، وهي جزء من القصص التي تبخرت بعد وصولنا إلى هذه الوجهة التي تحول فيها حلم الثورة إلى جحيم.