الاختبار الحقيقي لأي ثورة هو قدرتها على الكشف ولو عن جريمة واحدة محددة في حق فرد بعينه ارتكبها النظام السابق، أما الغرق في لحظات التحشيش الثوري الذي يتصور أنه قادر على أن ينجز عظيم الأمور من دساتير أو إعادة بناء مجتمعات فقدت قيم العدالة والجمال وانحدرت إلى عالم السوقية والجريمة، فهذه أمنيات . ولكي لا يكون الكلام غائما، فمثلا بين القذافي ومبارك ونظاميهما تم ارتكاب جريمتين محددتين ضد أفراد عاديين وتغيرت الأنظمة ولم نعرف من الفاعل حتى الآن، فهل نحن شركاء في إخفاء الجريمة؟ وهل ما يمنعنا عن كشف الجريمة هو العار، أم أن من قتل هو قريب لنا، لا نريد كشفه؟ منذ سنوات تم اختطاف الدبلوماسي والمعارض الليبي منصور الكيخيا من قلب القاهرة ولم نعرف ماذا حدث له حتى الآن. هل خدر ونقل إلى ليبيا؟ هل ذبح هناك أم قتل أم وضع في السجن حتى مات؟ لا نعرف أي شيء على الرغم ممَّا يمكن تسميته تقليب تربة النظام؟ فكيف لثورة عظيمة لا تستطيع الكشف عن ملابسة جريمة تدعي أنها تريد تغيير وجه وطن؟ في مصر أيضا وفي عهد مبارك تم اختطاف واختفاء الصحافي المصري رضا هلال من شارع قصر العيني في قلب القاهرة، ويعرف البعض حتى في موقع عمله مَن خطفه ولماذا، ومع ذلك وحتى الآن بعد 9 شهور على حَمل الثورة الذي أصبح اليوم وليدا، لا نعرف من خطف رضا هلال ولماذا، وهل هو حي أم ميت.. إن ثورة لا تستطيع أن تكشف غموض جريمة واحدة، وتدعي أنها تريد تغيير الكون لهي ثورة بائسة. إن أكثر الوجوه التي تتصدر الشاشات اليوم في مصر وأصدقاء المجلس العسكري هم من قالوا إن «رضا يستاهل القتل؛ لأنه عميل أو خائن»، ولم يكن الرجل خائنا، وليس هناك دليل على ذلك. التسجيلات موجودة للتدليل على بجاحة هؤلاء في حوارات بثتها القنوات المصرية بعد الحادث بعام. ماذا نتوقع من الثورة التي «تكفي على الجريمة ماجور» بالبلدي، أي تخبئ الجرائم؟ حتى الآن وبعد 9 شهور لا نعرف من بالضبط الذي قتل خالد سعيد الذي تفجرت الثورة بسببه.. تركنا خالد سعيد ومسكنا في موضوع أن أخته تلقت جائزة من أميركا، والمدسوس في مثل هذا الكلام أن أسرة خالد سعيد كانت عميلة مثل رضا هلال ويجب قتلهم جميعا، أو أن الشاب يستحق ما جرى له. النقطة الأساسية هنا هي أن ثورة أو ثورتين مجتمعتين لا تستطيعان الكشف عن جريمة واحدة؛ فهي ثورات بائسة. ويجب ألا نتوقع من هذه الثورات أن تكون نصيرا لحقوق الإنسان وحريته. أدعي أنني شاركت في الثورة المصرية منذ أول يوم، لكنني اليوم أكاد أنعى موت الثورة بعد أن ركبها الانتهازيون والسوقة من سافلي الطباع. أذكر أيام الثورة يوم أن كنت أطالب بأن يتنحى الرئيس ويسلم السلطة للجيش ومعه القضاء، كان هؤلاء الانتهازيون مع مبارك وضد أن يتسلم الجيش السلطة، واليوم هم مع الجيش ومن أشرس المدافعين عنه ويرمون كل من ينتقد المجلس العسكري بالخيانة. كنت من أشد المطالبين بتنحي الرئيس أيام كان بقوته، بينما كان المخوناتية (الذين يرمون أي معارض لرأيهم هم بالخيانة) وأيضا أصدقاء المجلس العسكري، يقولون وعلى الشاشات «إدوله فرصة يكمل ال6 أشهر». المخوناتية الآن يسيطرون على المشهد ويمسكون بتلابيب الثورة، بعد أن وضعهم العسكر، ومعهم بعض رجال أعمال العسكر، في مواقعهم الجديدة. المخوناتية ذاتهم هم الذين رموا رضا هلال بالخيانة وهم ذاتهم من رموا منصور الكيخيا بالخيانة؛ لأنهم في النهاية كانوا خداما لنظام مبارك ونظام القذافي وكانوا يقبضون من النظامين، ومع ذلك لا يجرؤ أحد على المواجهة لا في مصر ولا في ليبيا، فقط نقتل بعضنا البعض ولا نستطيع أن نكشف عن جريمة واحدة مثل جريمة اختفاء الكيخيا أو اختفاء رضا هلال. العربي، على ما يبدو، يستطيع أن يقتل، لكنه لا يستطيع الكلام أو الكشف عن حقيقة. إنه الخجل من الأقارب ومن المعارف والأهل والعشيرة، نقتل في لحظات الغضب، لكننا لا نجرؤ على الكلام، لا نجرؤ على أن نكشف عن جريمة، ولا نجرؤ على أن نقول لشخص إنه أسهم في تشويه الضحية يوم طلب منه نظام القذافي، وبفلوس، أو نظام مبارك أن يشوه رضا هلال ويصفه بالعمالة أو يشوه منصور الكيخيا ويصفه بالعمالة للأجنبي. ثورتان في بلدين متجاورين لم تستطيعا الكشف عن جريمتين، على الرغم من كل الكلام الكبير الذي نردده عن الثورة والثورتين، وعلى الرغم من أزيز طائرات حلف شمال الأطلسي فوق الصحراء الليبية وعلى الرغم من مليونيات ميدان التحرير. الاختبار الحقيقي لثورتي مصر وليبيا هو الكشف، وبالتفاصيل، عن جريمتين وقعتا بين نظامين رحلا، أو هكذا يظن البعض أنهما رحلا. إن لم تستطع الثورات الكشف عن الجرائم التي ارتكبت ضد أفراد بعينهم، فبئس الثورات هي، حتى عندما نتحدث عن الجرائم ضد شهداء الثورة، نتحدث عن شهداء في العموم، لا وجوه ولا أسماء، ونتهم وزير الداخلية ومبارك، ولا نستطيع أن نتهم من وضع يده على الزناد وأطلق الرصاص، على الرغم من أننا نعرفه، نتهم البعيد بتهم غائمة ونترك القريب دونما تهمة. حتى الجماعات الإسلامية التي ادعت أنها عُذبت في عهد مبارك وعذبها ضباط معرفون، الآن هم لواءات شرطة وأعضاء برلمان سابقون، لم تتهمهم الجماعات بشيء، إننا ثقافة، على ما يبدو، تخاف الكشف عن جريمة فردية؛ لأن في الكشف عارا على الجلاد وعلى الضحية. الثورات لا تقوم في ثقافة العار، بل تقوم ضد ثقافة العار. آن الأوان أن نقوم بثورة ضد ثقافة العار، لتحكي المرأة أنها اغتصبت واغتصبها فلان الفلاني في المكان الفلاني، أما ثورات «استر على من ستر»، فهي مجرد هوجات اجتماعية مثل أي زحام في مولد قلب الطاولة، لكنه محكوم بالقيم البائسة ذاتها، من قيم ثقافة التستر على الجريمة، إما بدافع العار وإما أن من ارتكب الجريمة قريب لنا. مرة أخرى قامت ثورتان في بلدين متجاورين ولم تستطيعا، حتى الآن، الكشف عن جريمتين محددتين وواضحتين، وهذا هو عار الثورات العربية حتى الآن.