عندما كان العراق يواجه جيوش التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية، كانت حناجر الشعوب العربية تردد: "بالروح بالدم نفديك يا صدام"، لكن أرواح و دماء ملايين الأكباش التي نحرها المسلمون في عيدهم الأخير، لم تكن كافية لافتدائه من يد الأمريكين، رغم أن كبشا واحدا كان كافيا لافتاء النبي إسماعيل من يد أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام. ربما لأن صدام ليس نبيا، لكن أيضا لأن بوش لم يكن ليرضى بغيره قربانا في محراب المحافظين الجدد. " مرت بي حالات في حياتي كنت أرى فيها الموت قريبا كحالة مادية، أما كحالة أخرى فكنت أراه بعيدا نتيجة ارتباطي بقضية…نحن نعرف بأننا جميعا لابد أن نموت، إلا أنني لدي شعور بأن الانسان بإمكانه أن يتخطى بعض الحفر عندما يرتبط بقضية مبدئية عالية الأهداف…و الذي يهمني الآن هو ماذا يقال عنا بعد خمس مائة سنة و ليس ماذا يقال عنا الآن و حسب…مرة قلت للرفاق في القيادة إن علينا ألا نسقط، فنحن لا نخاف من الموت و إنما نخاف مما هو بعد الموت لأننا قد نرى و نحن في ذمة الحياة الأخرى ما يجري على السطح". هكذا تكلم الراحل صدام حسين عن الموت و علاقته بالموت شهورا قليلة بعد تسلمه زمام الحكم رسميا أواخر عقد السبعينيات. و هكذا أفصح عن تشبته بالحياة و عن يقينه بقدرته على الإفلات من شباك المنية المترصدة به. والأكيد أن ذات القناعة ظلت تملأ فؤاده في تلك اللحظات، التي كان يتقدم فيها بهدوء نحو حبل المشنقة. صباح يوم السبت، عيد اليهود الأسبوعي؛ الثلاثون من ديسمبر 2006، أحد أيام أعياد الميلاد المسيحية؛ العاشر من ذي الحجة 1427، العيد الأكبر للمسلمين. دقائق قليلة بعد صلاة الفجر، و بينما شرع العراقيون السنة في تفقد سكاكينهم و شحذها استعدادا لنحر كبش العيد؛ كان جنود المارينز و عملاء السي أي إي يتفقدون الحبل الذي سيلتف حول عنق "الديكتاتور"، و يتأكدون من عتمة الأقنعة التي سيرتديها آخر خدمه المكلفين بإلباسه آخر ربطات العنق التي عرفها في حياته. ربطة صممت لتعلق في السقف عكس تلك التي اعتاداها تتدلى على صدره و بطنه. كالطفل المدلل الرقيق الإحساس، الذي لا يقوى على حضور لحظة نحر كبش العائلة؛ آوى بوش الإبن الى سريره متدثرا بغطائه الدافئ ممعنا في التأكد من تغطية رأسه، و هو يعانق دمية السوبرمان. و من هناك، من قلب فراشه الحريري أعطى أمرا دأب على إصداره في مملكته "تكساس". قال لهم: اشنقوه و خلصوني من كابوسه، لكن لا تنسوا تسجيل ذلك المشهد الهتشكوكي الهوليودي الرائع، علّنا نفوز بإحدى جوائز الأوسكار و نسترجع مقاعد الكونغرس و نحفظ عرش آل بوش. "فلسطين عربية و أشهد أن لا إله إلا الله" رد صدام، و ارتمى يعانق المشنقة. ربما يكون للتوافق التاريخي بين لحظة ميلاد صدام حسين عبد المجيد التكريتي (1937) و ميلاد حزب البعث دلالة أعمق و أبعد من مجرد المصادفة العشوائية أو الاتفاق الشكلي في الزمن بين لحظتين. فكما أن المسرح تهيأ فجر يوم العيد ليختاره المخرج بطلا للدور المميت، كان كاتب السناريو يومها يمهد للفتى التكريتي خشبة لعبه لأدواره القادمة. لم يكن مولده بهيجا و قد انضاف مخاض أمه صبحة الطلفاح الى حزن فراق زوج مات، و خلف نطفة تنمو في أحشائها في عناد لم يستسلم لفكرة الإجهاض، التي ظلت تراودها. كما لم يحط مهده بالورود و الرياحين و لم يفتح فمه لتلقي ملاعق الذهب رغم انحداره من أسرة تعود جذورها الى العائلة العلوية. "إن النهج السياسي اللاحق للإنسان لا يستقل عن تاريخه السابق عن ولادته و حياته و صعوبات حياته" يقول صدام. كانت لحظة اعتقاله الأخير من طرف قوات الاحتلال الأمريكية قوية، أراد لها المخرج أن تكون كذلك. رئيس دولة عربية، إحدى دول "محور الشر"، صاحب القصور و الجواري و أشباه العبيد، قاهر الفرس و مفزع الصهاينة و الأخ اللذوذ للعرب. يخرج بهدوئه المعتاد من حفرة سحيقة، طويل اللحية مبعثر الشعر متسخ الهندام. و ظل المخرج يسلط عدسته مستعملا مؤثراته الخاصة: طبيب أغلب الظن أنه بيطري يحمي يديه بقفازات و هو يفحص أنياب "الفريسة" و شعرها المتسخ. إنه فعلا هو، ففحص الحمض النووي لا يدع مجالا للشك، لقد وقع. كانت اللحظة قوية لأن المخرج كان جاهزا بفريقه لتصوير اللحظة، إلا أنها بالنسبة للممثل كانت عادية. إنها ليست المرة الأولى التي يلعب فيها هذا الدور. ففي أحد أيام 1963 على عهد الرئيس العراقي عبد السلام عارف، وضعوا صدام حسين في زنزانة انفرادية على مقعد صغير، و قد قيدوا يديه من الخلف بسلسلة من الحديد و ربطوا طرفها في قضبان النافذة العالية. و حينما أقفلت عليه باب الزنزانة داخله شعور غريب و مبهم بأنه لن يموت. لم يرد بباله للحظة أنه سوف يموت. فكرة الموت لم تسكن فؤاده للحظة واحدة. و حتى عندما يخطر بباله احتمال الحكم عليه بالإعدام، كان يقول في نفسه على الفور: إذا لم يعدموني بسرعة فإنني سأهرب. ظل معلقا بحبل المجهول، و مكث في السجن قرابة ثلاث سنوات دون محاكمة. لكن صاحب البيت الذي كانت تستأجره زوجته و ابنة خاله "ساجدة" أصدر حكمه دون تردد و ألقى بأثاث البيت في الشارع بعد أن علم بأمر القبض على صدام لأسباب سياسية: عبد السلام عارف انقلب على البعثيين الذين كان يتحالف معهم في الحكم، و ألقى بهم في زنازنه. لم تكن ساجدة تأتي وحدها لزيارته، كان "عدي" يأتي معها أيضا. لم يكن عمره يتعدى بضعة شهور، و لكنه دون أن يدري كان يشارك والده نشاطه السياسي. ففي الخارج كان أحد رفاق والده يضع في صدر الرضيع رسالة الى صدام، و عندما يحمل الأب طفله بين يديه و يحتضنه، كان يسحب الرسالة من ملابسه بسرعة و يضع مكانها رسالة أخرى. في بداية عقد الخمسينيات، حدثت الثورة الناصرية و أصبحت رمزا عربيا يطغى على تفكير النخب السياسية، فما لبثت أن قامت ثورة عراقية مماثلة في انقلاب دامي أباد العائلة الملكية و حمل عبد الكريم قاسم الى رئاسة الجمهورية العراقية أواخر العقد نفسه. ذات يوم من صيف 1959، أتى الى قرية "العوجة" حيث كان يعيش صدام رفقة عائلته، أحد رفاقه في الحزب ليبلغه رسالة مفادها: الحزب في بغداد يريدك. فبعد انفراد عبد الكريم قاسم بالحكم و ميوله نحو الشيوعيين و تنكيله بالبعثيين القوميين. قرر رفاق صدام اغتيال قاسم. و رغم أن صدام امتلك أول مسدس و هو في سن العاشرة، زوده به بعض أبناء عمومته الذين مر بهم في طريق رحلته نحو تكريت طلبا لعلم المدرسة رغما عن أسرته الممانعة؛ و رغم تعوده على ركوب الخيل و حمل و استعمال السلاح باعتباره تعبيرا عن الرجولة. كان لابد له من الخضوع لتدريب على استعمال الكلاشينكوف. و رغم أن مهمته كانت تتلخص في تغطية رفاقه الذين سوف يطلقون النار على قاسم، فإنه عندما وجد نفسه فجأة أمام رئيس الجمهورية لم يتمالك نفسه، و نسي التعليمات، فأخذ يطلق النار على مرافقي الرئيس. فشلت المحاولة، و أصيب صدام بعيار ناري في قدمه كما أصيب أحد رفاقه؛ لكنه لم يتردد في حمل السلاح على السائق الذي كان يقود سيارة المجموعة مانعا إياه من أخذ رفيقه الى المستشفى مخافة انكشاف أمرهم. كما سوف لن يتردد في أول اجتماع دعا له قيادة حزب البعث سنة 1979 بعد أن أصبح رئيس الجمهورية في القول أنه وجد جواسيس و متآمرين ضمن الحزب، و قرأ أسماء هؤلاء الذين توقع معارضتهم له. و تم اقتيادهم بأمر منه واحدا تلو الآخر ليواجهوا الإعدام رميا بالرصاص خارج قاعة الاجتماع و على مسمع من الحاضرين. إجراء وجده صدام ضروريا لتحصين حكمه و هو الذي ظل منذ ثورة يوليوز 1968 التي مكّنت البعث من السيطرة على الحكم بقيادة أحمد حسن البكر قريب صدام، يشغل دور الرجل الثاني و النائب الصارم لرئيس ضعيف و كبير السن كاد يتوصّل الى اتفاق وحدة مع سوريا يصبح بعده حافظ الأسد نائبا للرئيس، ما يعني تغييب صدام. كان الرئيس المشنوق لاعبا ماهرا للعبة الشطرنج، بارعا في تحريك قطعها فوق الرقعة الصغيرة، كأنه يتدرب على تحريكها في ساحات الحروب و المعارك. لكن ما كاد يعتلي رئاسة الجمهورية حتى زج بجيشه في حرب ضروس ضد إيران الثورة الخمينية. حرب امتدت أطوارها ما بين 1980 و 1988 بعد أن كان صدام يعتقد أنه قادر على إنهائها لصالحه في شهور، خاصة بعد استشعاره دعم واشنطن له، القلب النابض ل"الإمبريالية" و "قوى الاستعمار الجديد". و بموازاة حربه هذه، كان صدام يعرّج على المناطق الكردية مدمرا قراها و مدنها. ما المانع و قد أصبح العراق أقرب الى الغرب منذ الإعدام الجماعي للشيوعيين العراقيين عام 1978؟. قرب دام الى غاية 1991، حين أخطأ صدام القادم من مسقط رأس صلاح الدين الأيوبي تقدير الحسابات و اعتقد أنه استحق الكويت هدية و ثمنا لحرب خاضها ضد إيران بالوكالة عن قوى الغرب و إمارات الخليج المهددة بطوفان الثورة الشيعية. و كانت حرب الخليج الثانية فشلا ذريعا ذكره بفشله الأول في اغتيال عبد الكريم قاسم. "أنا في لحظة من حياتي حملت غدارتي و أطلقت نيرانها على عبد الكريم قاسم و ضربته في شارع الرشيد. و لم يكن عندي حقد عليه، أنا لم أحقد في حياتي على إنسان" يقول صدام. لكن و رغم ذلك لم يكن أمامه حينها سوى الهروب، الهروب من الموت، لتحط طائرة تحمله الى عاصمة الجمهورية العربية المتحدة في مطار القاهرة الدولي في 21 فبراير 1960 بعد أن مكث ثلاثة شهور في الشام. عاش صدام في مصر عبد الناصر ثلاث سنوات و بضعة أشهر من عمره، و جاب مصر كلها من شمالها الى جنوبها، من الإسكندرية حتى الأقصرو أسوان. كان حينذاك في بداية قدومه إليها في الثالثة و العشرين من عمره شابا طويلا، نحيل الجسم وسيم الطلعة، جاد في معظم أحواله الى حد الصرامة، مهموما الى درجة الحزن، خاصة عندما كان يعود الى بيته المطل على النيل، فيجده قد فتش ركنا ركنا، و أن أوراقه قد قرئت أو صورت. فالرجل زعيم البعث في مصر و شمال إفريقيا و السودان. "إن زج السلطة في إعطاء أحكامها على شؤون الحياة من مدخل ديني لابد أن يفضي الى واحد من أمرين: إما عرقلة التطور في شؤون الحياة و تحويلها الى جحيم لا يطاق… أو إفراغ الدين من قدسيته و مهابته و روحه و تحويله الى غطاء لتبرير الكثير من مفردات الحياة. بما يسيء الى الدين" يقول الراحل معبرا عن موقف جنّبه الوقوع في متاهات المذهبية و الطائفية التي لم يكد نظامه يسقط حتى اندفعت إليها بلاد الرافدين و أثارت حيرة المحافظين الجدد. لكن مسارعته الى رفع شعار "نفط العرب للعرب" و تجسيده لذلك بتأميمه قطاع النفط سنة 1972 و مسارته الى تأميم حصة أمريكا في شركة نفط البصرة يوم اندلاع حرب 1973 و دعوته الى استعمال النفط كسلاح ضد واشنطن وحدها دون الدول الأوربية خلال ذات الحرب… مواقف و أخرى لم تنسها واشنطن و حلفاؤها كما لم ينسوا قوله: "لقد خان السادات القضية العربية عندما أقدم على زيارة القدس و عندما وقّع مع الأمريكان و الصهاينة على اتفاقيات كامب دايفد…" فكان الثمن الأول لذلك (بعد سنوات من الحصار و العقوبات الدولية) مشاهدته على شاشة التلفزيون لجثتي ولديه عدي و قصي و قد تفحمتا بنيران القوات الأمريكية، فردد: بلّغ سلامي للشهيدين و قل فخري بكم في الناس كالخنساء. بينما احتفظ المخرج لبناته رغدة و رنا و هالة بدور مشاهدته و هو يلفظ أنفاسه على حبل المشنقة (في خطوة نحو الديمقراطية في رأي بوش) مخلفا للقادة العرب رسالة تقول: ثوبي الذي طرزته لوداعكم نسجت على منواله الأثواب إني شربت الكأس سما ناقعا لتدار عند شفاهكم أكواب
مسار حياة: 28 أبريل 1937: ولد بقرية العوجة في تكريت 1968 : لعب دورا أساسيا في الثورة السلمية للبعث ليصبح نائب الرئيس 1979 : أصبح رئيسيا للعراق بعد استقالة أحمد حسن الباكر 9 أبريل 2003 : أسقط نظامه على يد القوات الأمريكية 30 دسمبر 2006: تم إعدامه شنقا